أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
وكان في البعيد قرية ..

بقلم : نداء ابونوفل ... 7.1.09

[ أهدي هذه القصة الى أهلنا في غزة ]
جئت إلى هذه القرية بعد تخرجي من الجامعة، فقد حصلت على وظيفة في مستشفى هذه القرية، والذي كان قد أقامه أبناؤها بسبب ما كان يتعرض له أبناء القرية من مضايقات المستوطنين، فقد كانت القرية تجاور إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وكان أقرب مستشفى من القرية يتواجد في المدينة خلف المستوطنة، ومن هنا كان المستوطنون يعترضون طريق أهل القرية أثناء التفافم حول المستوطنة للوصول إلى ذاك المستشفى، فكان أن أقام أبناء القرية هذا المستشفى، بتعاون من بعض الجمعيات الطبية، ليحموا مرضاهم من المستوطنين وانتهاكاتهم لحقوق أهل القرية.
بعد أن أتممت دراستي في كلية الطب في الخارج، كان من المحتم علي أن أبحث عن وظيفة لأعول نفسي وأساعد والدي في إعالة إخوتي، وحين علمت بأمر إقامة المستشفى أرسلت بطلب توظيف لديهم، وعلى الفور قبلوني هناك بين أفراد الطاقم الطبي، هكذا انتقلت إلى القرية للعمل في مستشفاها الجديد. لم يكن يعمل في المستشفى غير ثلاثة من الأطباء، وعدد من الممرضين، وقد كان حدسي يقول لي دوما أنني سأعالج الحالات المرضية البسيطة، أو أولئك الذين يتعرضون للنوبات الصدرية والذي كان مجال تخصصي، لم يكن آنذاك بالحسبان أنني سوف أغرق في بحر دماء الجرحى والقتلى الأبرياء، ويا لهول ما كان، هكذا كان الحمل أكبر والمسؤولية أصعب.
كان الأطباء الثلاثة هم د. عبد العزيز و د. محمود و د. أمين، وكنت أنا الطبيبة الرابعة، واجهت في البداية بعض الصعوبات كوني الطبيبة الوحيدة هناك، لكنني سرعان ما اندمجت مع الطاقم الصغير، كما أنني أخذت بالاعتياد على الوضع الجديد الذي أصبحت فيه، وكذلك ًصرت أعمل بجهد لأكون الفضلى بين زملائي في المهنة هناك، وأن أكون على قدر كاف من الالتزام في عملي كي أتمكن من القيام بواجبي.
حصلت على مأوى لأعيش فيه أثناء فترة وجودي في تلك القرية النائية عن المدينة، وقد كانت فترة راحة قصيرة تلك التي قضيتها قبل أن يأتي ذاك اليوم السيئ الطالع، والذي راح فيه كثيرون.
بعد حوالي خمسة أشهر من وصولي إلى القرية، وفي صباح ساءت معالمه ونضخت بالحزن والأسى تعابير شمسه، استيقظت على صراخ أهل القرية، ذاك الصراخ الذي دفعني لأن أفتح نافذة غرفتي، والإطلال منها إلى الزقاق القريب، وهناك نظرت جموع الأهالي وقد حشدوا أنفسهم، وانطلقوا يرددون شعارات طالما سمعتها أيام المرحلة الثانوية، تلك الشعارات والعبارات التي كنا نرددها ضد الاحتلال في المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية، كنا آنذاك نغرد بها كبلابل طال الليل عليها، فغردت لتوقظ بتغريدها شمس الصباح. لم يخطر ببالي أنني سأجد ذات الحال هنا في القرية، فقد كنت أظن أن هذه الأحداث تقتصر على المدن الفلسطينية كالقدس و رام الله والخليل ونابلس وجنين، ولم أكن يوما أعتقد أنها تتسلل إلى القرى والحواري والمخيمات، الحال ذاته، والكلمات عينها، إذا الشعور واحد، والدم واحد، والأرض أنبتت الجميع.
و لأول مرة في حياتي، وبعد هذا المشهد أرى في نفسي اللاإرادية، حيث وجدت نفسي أتحرك بسرعة، ودون أدنى تفكير أسرعت إلى خزانتي، فبدلت ملابسي وانطلقت بأقصى سرعة إلى المستشفى، لأجد د. أمين يجهز المستشفى ويعد الأسرة وأدوات الإسعاف، كذلك كان يساعده في ذلك عدد من الممرضين، فسألته عن سبب ذلك وكأنني فتاة بلهاء لا تعرف من هذه الدنيا أمرا:
- ماذا تفعلون؟
- ألم تري ما يحدث في الخارج؟!
- نعم... ولكن... لم أنتم مستعدون هكذا؟
- ما هذا السؤال السخيف؟
- لا أعرف سبب تجمع الناس في الخارج، ماذا حدث؟
- إن أهل القرية يرفضون ما تقوم به المستوطنة المجاورة من أعمال توسع في أراض أهل القرية القريبة منها، هل عرفت الآن سبب هذا التجمع؟
- نعم... يبدو لي ذلك.
سمعت ما قاله وأدركت ما سيحدث، فأسرعت لمساعدته ومن معه، وما أن انتهينا من تجهيز الأسرة، حتى حضر د. عبد العزيز ومعه د. محمود من الطابق العلوي في المستشفى، وهما يتهامسان بحديث لم أفهم منه شيئا، فقال د. عبد العزيز لنا:
- لقد أعددنا غرفة الجراحة، فهل انتهيتم من تجهيز المستشفى؟
أجبته:
- نعم... انتهينا، لكن... هل من داع لكل ذلك؟
- لا داعي لذلك، لكن بعد قليل، ستمتلئ المستشفى بالجرحى، وقد لن من إيجاد مكانا لعدد كبير منهم إذا ما تركنا المكان دون ترتيب.
ما كاد ينتهي من كلامه حتى اخترق آذاننا دوي الرصاص المنهمر من فوق رؤوس المحتشدين في الخارج، وبعد أقل من عشر دقائق، بدأ المصابون بالتوافد إلى المستشفى، وبدأنا بعملية إسعافهم، قسمنا الطاقم إلى قسمين أساسين، قسم الطابق الأرضي وسلم أمره لي ولدكتور محمود، كما أن القسم الآخر سلم أمره لد. عبد العزيز و د. أمين،وكان هذا هو غرفة الجراحة. مع كثرة أعداد الجرحى المتوافدين، لم يعد هناك عدد كاف من الأسرة، فأخذنا نصف ذوي الإصابات الأقل خطرا على الأرض، والتي لن يتأذى أصحابها لو لم يحصلوا على سرير، ويا له من منظر مروع ذاك الذي نظرته في ساحة المستشفى، لقد كان هناك أحد الزملاء الممرضين وقد تناثرت عظام جمجمته على الأرض، وطليت بدمائه السلالم، يا له من شاب مسكين، ذهب لينقذ الجرحى فلقي مصرعه، كيف لأولئك أن يقتلوا من لم يقف أمامهم مسلحا، يا لها من دناءة تلك التي تقتل رجل إسعاف بريء، مهمته كانت مداواة جرح ينزف.
مضى شهر كامل والقذائف والرصاص تتراقص معه الجثث في مسرح القرية، لا مساعد ولا مساند غير أطقم الإسعاف في المستشفى، يا ليت هؤلاء كان بمقدورهم حماية أنفسهم من غدر غاصبي الأرض. لم تعرف الدول المجاورة بما يحدث في القرية من كوارث بشرية، ولم يعلموا بما يحل بأبناء الشعب الفلسطيني في تلك القرية البعيدة من مصائب وويلات، فقد فرضت المستوطنة طوقا أمنيا على القرية وأغلقت كل المنافذ المؤدية إليها، فأصبح من غير المسموح لأي كان الوصول إلى القرية، فانقطعت أخبارها إلى أن انتهت الفترة الأليمة تلك.
ما إن انتهت فترة الاجتياح تلك حتى لملمت متاعي وأغراضي مودعة قرية المآسي والويلات، عائدة إلى بيتي، إلى مدينتي الحبيبة - القدس – و أي مكان على تلك البسيطة يشبه مدينتي، ألا إنها الأفضل من بين كل المدن. عدت إلى القدس حيث لم يتسن لي بعد ذلك الرجوع إلى القرية البعيدة، إلا في لحظات الخيال رغم كل ما كان يشدني ويدفعني كي أفعل.
بعد فترة من عودتي إلى منزلي بالقدس، حاء وافدا إلى أحد الصحفيين، كان قد سمع بما حدث في القرية، وعلم أنني كنت أعمل في مستشفاها، جاءني هذا الصحفي فطلب إلي أن أقص عليه ما حدث هناك، ففعلت ذلك، كذلك وضحت له صورة ما يعانيه أبناء القرية من مآسي وويلات، وحدثته عن شقاء ابن القرية وما يتعرض إليه من مصائب، وكان الصباح... حيث أصبحت أخبار القرية تعبر البحار و المحيطات، كذلك صارت تجوب بلدان العالم والأقطار. سمع الجميع عن مأساة ذاك القابع في القرية البائس أهلها، لكن... وعلى عكس ما كان متوقع ومنتظر، لم يكن هناك ذرة لين من البشر، ولم يحصل أهل القرية من أولئك الناس ولو حتى على قطرة صغيرة من المشاعر والأحاسيس، لم ير من العرب والعربية غير تقبيل أيدي الأعادي، واكتفوا بالخنوع والتواصل مع سياسة الأعداء في القمع وارتكاب الجرائم، إنهم ليقولون أننا في فلسطين إخوتهم، لكن... عار على فلسطيني أن يقبل بهم إخوة، وأن أمثال هؤلاء ليسوا بأكثر من سرب من حشرات مستنقعات الغرب والشرق أيضا، وليس للقرية غير أن تظل قابعة هناك في البعيد، حتى يأتي موعد اللقاء، وتملأ المصابيح بزيت الزيتون، وتخاط أثواب العرس من دماء الشهداء، وتحتضن خيوط شمس الحرية ثراها، وتعودين مرة أخرى أرضا لشعبك أرض الآباء والأجداد.