أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
هل لدى أحدكم بريد ألكتروني؟!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 30.12.2012

بعد عناق حّار بيننا، في اللقاء الذي جمعنا في بيته، بعد ثلاث سنوات قضاها زميلي وصديقي الأستاذ (م) في السجن، أخبرني بصوت واهن متقطّع بما جرى له: استدعيت إلى جهاز أمني لم أسمع به من قبل، بعد اتصال هاتفي أيقظني من نومي، بعد منتصف الليل.
واصل كلامه وهو ينظر بعيدا، كأنني غير موجود: رفعت سمّاعة الهاتف فجاءني صوت غليظ يفح كلماته بصوت بطيء غير مطمئن: مرحبا أستاذ: أهلاً ! رددت عليه بنوع من الاستغراب والتوجس، فأنا لا أذكر أنني سمعت هذا الصوت من قبل. إنه ليس صوت صديق، قلت لنفسي، ورجّحت أن يكون صوت أب يريد خدمة ما بشأن ابن له يدرس عندنا في المدرسة.
بهذا أخبرني وهو زائغ النظرات، متلجلج الصوت، ثمّ فجأة توقف عن الكلام، ووضع وجهه بين يديه، كأنما يريد أن يدحر ذكرياته في السجن عن تفكيره.
استأنف زميلي وصديقي الأستاذ (م) رواية حكايته، بعد أن تنهد، ومسح وجهه كأنما يطرد ذكريات الثلاث سنوات التي غيبه فيها السجن:
_ جاءني الصوت في الهاتف موحيا بالجهة التي يمثّلها: لا نريد أن نطيل عليك. نريدك غدا في العاشرة. ستأتي إلى دوّار(...) في حي(...)، ثمّ جاءني ضحك صاحب الصوت: لا يوجد ما يعلن عن مكاننا، ولكنك ستجد من يساعدك عند وصولك إلى الحي والدوّار، فأنت معروف عندنا. لا تتأخّر عن الساعة الثامنة والنصف صباحا، ولا تخبر أحدا، حتى مدير المدرسة لا تأخذ منه إذنا، فنحن سنفهمك ماذا تفعل عندما (تزورنا)!
نمت نوما قلقا. تأملت وجه زوجتي وطفلي وطفلتي. يبدو أن قلقي كان لافتا، وهذا ما دفع زوجتي بعد أن استيقظت على رنين الهاتف، أن تلح على معرفة ما حملته لي تلك المكالمة. طمأنتها بأن جهةً ما تريد التعرّف إلي!
تساءلت بدهشة :
ـ ومتى كانوا يسعون للتعرّف بأحد هكذا لوجه الله، أو لتقديم خدمة له ؟ هم دائما...
قاطعتها حتى أبدد مخاوفي أنا، لا مخاوفها هي:
ـ أترين! إنهم يطلبونني بالهاتف، هذا لم يكن يحدث سابقا. كانوا يداهمون في الفجر، لذا وصفوهم بزواّر الفجر، لأنهم زوّار غير مرغوب بهم. الدنيا تغيّرت، فنحن في زمن التكنولوجيا والإنترنت، وهم يُسخّرونها للتواصل مع المواطنين!.
في الصباح حلقت لحيتي، وشربت فنجان قهوة. لم استطع بلع ولو لقمة واحدة، رغم إلحاح زوجتي: كل لّك لقمة، فهم لن يطعموك، وستتأخّر عندهم.
دخلت زوجته بالقهوة، ومدّ طفلهما رأسه من فرجة الباب، فحرّكت أصابعي في الهواء مداعبا، فضحك واختفى.
قالت الزوجة بأسى :
ـ حذّرته دائما من الإنترنت، ولكنه عنيد. ماذا يهمنا من أخبار العالم، والمقالات التي يكتبها ناس لا نعرفهم، ولا نعرف أين يعيشون، وماذا يريدون؟! .
نظر إلى وجهها بعينين تغطيهما غلالة من ماء شفيف بدأ يتجمّع في مؤقي عينيه.
قلت له معتذرا :
ـ لا تلمني يا صديقي لأنني لم اسأل عنك. أين يمكن أن أسأل، وأي جهة ؟ ثمّ لو فعلتها ما يدريني بالعواقب، فأنت تعرف ما يمكن أن ينجم عن السؤال!
قالت الزوجة :
يخلف عليك أنك أرسلت لنا بعض النقود، وأرسلت زوجتك لتطمئن علينا. غيرك من أصدقائه الكثر لم يكلّف نفسه عناء السؤال، ولو بالهاتف.
سألته :
ـ ولكن ما هي التهمة ؟
أمال رأسه، وفرك راحتيه بعصبيّة بادية :
ـ تلقي رسائل عبر البريد الإلكتروني!. قلت لهم: أنا لا أستطيع منع تلقي رسائل ألكترونيّة عبر بريدي الإلكتروني، ولكنكم أنتم تستطيعون حجب ما تشاؤون، فالأمر في يدكم فنيّا. لم تتوقّف الأمور عند هذا الحّد. تصوّر أنهم سألوني من مِن أقاربي كان، أو مازال، حزبيّا، أو يحمل أفكارا سياسية. خشيت أن اخفي عنهم شيئا، خاصة وهم أخبروني من بداية التحقيق أنهم يعرفون دبيب النملة، ولذا أخبرتهم بأن عمّي عبد الرزّاق رحمه الله كان حزبيّا.
أخذّ يؤرجح رأسه كأنه يندب، وكأنه غير مصدّق لما حدث معه:
ـ لمّا رأيت اهتمام المحقق بحزبيّة عمّي، لفّت انتباهه إلى أن عمّي يرحمه الله مات سنة 67، أي قبل خمسة وثلاثين سنة، يعني في القرن العشرين، بينما نحن الآن في مطلع القرن الحادي والعشرين. عندئذ غرس نظراته في عيني وهو يتكلّم ببطء: يجب أن نعرف كلّ شيء عن مواطنينا أحياء وموتى.
انتفض زميلي وصديقي (م) واقفا:
ـ أيقظوني بعد منتصف الليل من غفوة مختلسة في الزنزانة، وزجوني في سيّارة عسكريّة صغيرة، وتوجهوا بي إلى المقبرة التي دفن فيها عمّي، وعندما أنزلوني طلبوا منّي أن ادلّهم على قبر المرحوم عمّي، فانفجرت ضاحكا، فصاح الضابط المحقق وهو يصرف على أسنانه :
ـ أغلق فمك يا كلب..بدّك تفضحنا في الليل! ما المضحك في الأمر؟!
ـ ألا يكفي عمّي أن ملائكة الله حققت معه، وأنه حاليا بقايا عظام؟
ثمّ حبكت معي :
ـ أم أنتم أكثر دقّة في التحقيق من ملائكة التحقيق في الآخرة؟!..استغفر الله العظيم!
أحنى صديقي (م) جسده، ووضع رأسه بين يديه، وأجهش في نوبة بكاء حاول أن يكبتها بوضع يده على فمه.
حاولت مواساته، فأخذت أربت على ظهره :
ـ الحمد لله على سلامتك، المهم أنك عدت لأسرتك، وأنك بخير، وأن عملك في المدرسة ينتظرك، فطلاّبك اشتاقوا لك، واحمد الله أنك لم تسرّح من عملك.
' ' '
سألني مدير المدرسة صبيحة اليوم التالي لزيارتي لزميلنا الأستاذ (م) في بيته:
ـ كيف شفت صاحبنا ؟
لذت بالصمت، فعلّق المدير:
ـ واضح أنه ليس بخير!
ثمّ تساءل بحزن، وقد تغيّرت ملامح وجهه:
ـ ثلاث سنوات في الزنزانة ، بدون تهمة، لأستاذ بريء محّب للاطلاع على أحوال الدنيا. أين نعيش نحن؟!
همست له:
ـ في الجحيم يا حضرة المدير، بالضبط في الجحيم. ألا يقال أحيانا: نحن نعيش في وطن هو قطعة من الجنة؟ نحن حقا نعيش في وطن هو في واقع الحال..قطعة من جهنم!
قال من فمه شبه المغلق:
ـ إش: ما تحكي أي شيء حول موضوعه. إنس..وساعده على التأقلم من جديد، فهذا واجبنا.
' ' '
حضر الأستاذ (م) بعد ثلاثة أيام إلى المدرسة، بوجه منطفئ التعبير، فاقترح المدير، وهو عجوز طيّب على مقربة من التقاعد، أن يُعنى ببعض حصص الرياضة، إلى أن يعود إلى جّو المدرسة، فيستأنف آنئذ تدريس الطلاب دروس اللغة العربية، كما كان يفعل سابقا، قبل أن يزج به في السجن.
اقترب منّي زميلي وصديقي (م)، وهو يغادر غرفة المدير، وسألني همسا:
هل تملك جهاز كمبيوتر؟!
ـ لا
ـ هل أنت مشترك في الإنترنت، وهل لك عنوان إلكتروني؟
ـ لا.
صفن وهو يورب رأسه، وسألني بغتة بعينين تقدحان شررا:
ـ هل كان عمّك حزبيّا ؟. في أي مقبرة دفن، وماذا يعمل هناك ؟!
بإشارة من يده فهمت أنه يريدني أن أقرّب أذني من فمه، ففعلت. همس بجديّة تامة :
ـ إذا كان لك عّم، وحتى لو مات منذ زمن بعيد، فاحرص على أن تحمل صورته في محفظتك، لأنهم إن استدعوك لأي سبب ولم يجدوا صورته في حوزتك، فسيصطحبونك إلى المقبرة لالتقاط صورة شخصيّة له لوضعها في إضبارته!
سألته:
ـ وإن كان لحم وجهه قد اهترأ، وتبدلت ملامحه، ولم تبق سوى العظام؟!
بصوت يشبه الفحيح:
ـ لا تتشاطر، فأنا سألتهم قبلك. أتعرف بماذا أجابوني: سنجري عمليات فنيّة تعيد رسم الملامح كما خلقها الله. أنت لا تعرف كما يبدو أنهم يسمعون دبيب النملة، ويحصون خطواتها أيضا، ويعرفون بيوت النمل، وكم نملة فيها، وكيف يعمل النمل تحت الأرض!.
ثمّ ابتعد ليبدأ في إعطاء حصّة الرياضة، بينما هو يكرّر العبارة: دبيب النملة.
رأيته وهو يستعرض الطلاّب الذين اصطفوا في الطابور بشكل فوضوي، وهم يتضاحكون، فحصّة الرياضة ترتبط دائما بالانفلات والصخب، وانعدام الجديّة.
أخذ يتأمل وجوه الطلاّب بوجه صارم، وهو يلوّح بمؤشّر من تلك التي يستخدمها الأساتذة لشرح الدروس، فبدا كأنه ضابط يدرّب جنودا، وارتفع صوته الحازم صارخا بحدّة:
ـ أنت وهو: ولا كلمة..سكوت، اخرسوا يا بهائم: أُريد أن اسمع دبيب النملة..دبيب النملة .. دبيب النملة..هل تفهمون؟!
ثمّ انخفض صوته، فأرهفت سمعي، وإذا به يسألهم محذرا: من منكم عنده كمبيوتر؟
وقبل أن يسمع الإجابة من الطلاّب الذين وجموا، مستغربين السؤال، عاجلهم بسؤال آخر: هل لدى أحدكم بريد إلكتروني؟ الغوا أي صلة فورا بالكمبيوتر، والبريد الإلكتروني، فمن البريد الإلكتروني ستتسرب لكم رسائل غير مرغوبة، يرسلها أعداء الوطن!
عندما استدار لمحني في الشبّاك، فلبث واقفا، محدقا في وجهي، ثمّ نكس رأسه، وبدا كأنه يمسح دموعا تسيل من عينيه اللتين غطّاهما براحتي يديه.