أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
"دسْترة" الشريعة... ضرورة أم ذريعة؟!

بقلم : د.خالد الحروب ... 12.11.2012

هناك سطحية بالغة في النقاش والحملة الهائلة الذي يتزعمها الإسلاميون، وبخاصة سلفيوهم، إزاء فكرة فرض الشريعة في الدساتير الحديثة بكونها المصدر الأساسي للتشريع. هذه القضية برمتها مفتعلة ولا أساس موضوعياً لها. المجتمعات العربية والإسلامية تدير طرائق معيشتها وحياتها منذ قرون من دون دساتير ومن دون نصوص علوية تفرض على الناس كيف تفكر وكيف تعيش. وافتعال هذه القضية من قبل التيارات الإسلاموية فيه ادعاء باحتكار النطق باسم الدين، أي سحب للدين من واقع الناس الاعتيادي ليكون في يد الأحزاب والحركات السياسية وبدعوى الدفاع عنه. وافتعال هذه القضية يعكس توتراً وعدم ثقة في النفس وكأن حماية الدين لا تتأتى إلا عن طريق فرض النصوص الدستورية والقانونية. قوة أي دين أو عقيدة أو إيديولوجيا تنبع من اعتمادها على الاختيار المحض، وليس الفرض القسري. وكل إيديولوجيا ترافقها أدوات الحكم والسلطة والقانون لفرضها تعمل على هزيمة نفسها بنفسها، وعلى تنفير الناس منها، وحتى لو كانوا أكثرهم قرباً واتباعاً لها. والمجتمعات العربية الحديثة التي نشأت في سياقات الدول الوطنية في حقبة ما بعد الاستقلال ظلت مجتمعات متدينة إلى هذه الدرجة أو تلك، ولكن تدينها كان سمحاً وتعايشياً وعفوياً ومن دون أية تنظيرات ادعائية عن التعايش والتسامح كما هي الادعاءات التي نسمعها اليوم. وتكرار الحديث الادعائي والتظاهري عن التعايش والتسامح من قبل أي حزب أو حكومة أو جماعة يكشف غياب التعايش والتسامح أكثر مما يؤكد حضورهما. كيف نصدق الادعاءات السلفية عن "التسامح الديني" مع المسيحيين ثم نقرأ تحريمهم المتكرر لرد السلام على المسيحيين، أو تهنئتهم في أعيادهم، أو مشاركتهم في مناسباتهم. كيف نصدق أية ادعاءات حول عدم الرغبة في فرض أي ممارسة دينية على الناس، وحكايات الفرض وإقامة لجان الردع الديني تنتشر هنا وهناك، فتقفل محلاً، وتمنع قيام عرس، وتحبط اجتماعاً، أو تقص شعر طالبة مدرسة ابتدائية لأنها غير محجبة، وإلى آخر الحكايات التي لا آخر لها.
كل ذلك جديد على مزاج مجتمعات المنطقة وغريب عليها ولكنه يصبح يوماً بعد يوم الإطار الذي مع الأسف يصوغ ثقافة الأجيال الجديدة. وكبار السن في المنطقة من مشرقها إلى مغربها وهم المؤرخون الحقيقيون للتعايش الشعبي العفوي والبعيد عن الادعائية والتظاهرية، ينقلون لنا صوراً أخرى لهذه المجتمعات كانت تخلو من كل الممارسات السلفوية التي ذكرت أعلاه وغيرها كثير. فالحياة الاجتماعية التي عاشها هؤلاء "المؤرخون" كان ينخرط فيها المسلمون والمسيحيون واليهود (قبل قيام إسرائيل) في الشرق، والسنة والشيعة حيثما تواجدوا، وكذا ينخرط فيها اليهود في دول المغرب العربي، ناهيك عن الأمازيغ والعرب. غير أن ذلك كله أصبح الآن من الماضي ويتحمل التيار الإسلامي بحركاته المختلفة المسؤولية التاريخية إزاء القضاء على هذا التعايش العفوي، وقولبته في إطار الادعائية الحزبية. لقد أصبحت الحدود المعرفة لـ"المسلم"، أو "المسيحي"، أو "اليهودي" أو "الشيعي"، أو "السني"، بطبيعة الحال عميقة وسميكة، وانحدر جزء كبير من مجتمعاتنا الراهنة إلى مستنقعات طائفية في نظرتها للآخر، وسيطر على العقل الجمعي التفكير الإقصائي والتحوصلي، وشطر كبير من هذا التحول كان نتيجة الحزبية الإسلاموية. والآن تريد هذه الحزبية الإسلاموية نقل الدمار الذي أحدثته في المجتمع خلال العقود القليلة الماضية إلى سدة الدستور لشرعنة كل التقسيمات الطائفية، وكل النظرة التجزيئية والانشطارية تجاه مكونات المجتمعات.
وعلى ذلك فإن الدعوة إلى فرض الشريعة على أي دستور معاصر لا تتوقف عند كونها فكرة مناقضة جوهرياً لمعنى الدولة الحديثة، بل وتمتد إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن تعمل على المدى المتوسط والطويل على تدمير هذه المجتمعات والدول وإقحامها في صراعات داخلية ودينية وطائفية لا يمكن أن تنتهي. والدستور لائحة تنظم طبيعة علاقة الأفراد الموجودين في بقعة جغرافية معينة مع بعضهم بعضاً، وتنظم كيفية إدارتهم السياسية والقانونية لبعضهم بعضاً، وبحيث يتساوون في الحقوق والواجبات، ويقف كل منهم على قدم المساواة مع الآخر في الانتماء إلى الوطن والدولة التي يعيشون فيها. وإقحام الشريعة لا يعني فقط أن المواطنين غير متساوين أمام القانون وأن كل من هو غير مسلم يعتبر مواطناً من الدرجة الثانية، بل يخلق درجات متفاوتة بين المسلمين أنفسهم. كيف ستنظر التطبيقات القانونية للدستور المستند على الشريعة إلى المسلم غير المتدين، أو العلماني، أو حتى الملحد؟ هؤلاء جميعاً سيكونون مواطنين درجة ثانية أيضاً، إن لم يكن أسوأ. ويصبح الدستور في هذه الحالة محكمة قيمية وأخلاقية بل ومحاسبية، بدل أن يكون أداة تنظيمية وقانونية همها الأكبر حماية حريات الأفراد وحماية حقوقهم.
والسؤال الكبير والخطير الذي يرتبط دوماً بهذا النقاش هو من هو صاحب السلطة الدينية أو السياسية الذي سيقوم بتعريف الشريعة، ويحسم بين الآراء المختلفة إزاء كل قضية من القضايا. والعبقرية التاريخية للشريعة كانت في تعدديتها الواسعة التي أتاحت للشعوب والمجتمعات والأفراد فضاءات الإبداع والانطلاق مع الانتماء والبقاء في الفضاء الذي يمنحهم المعنى والهوية.
والإجابة التي يقدمها كثير من الإسلاميين هي أن الشريعة ستعتمد على "الإسلام الصحيح والنقي"، وأن أصول الدين والمستندة إلى علوم السنة والجماعة هي المحددة لمعنى الشريعة وسوى ذلك. ولكن هذه الإجابة وهذه التعريفات تظل فضفاضة وليس عليها توافق. وحتى في داخل الصف السلفي هناك جماعات وشرائح مختلفة وكل منها يستند إلى تفسيرات فقهية ويعتقد أن رأيه هو الأسلم. ومعنى ذلك أن الاختلاف في التفسيرات هو الأصل بينما الاتفاق هو المخالف للقاعدة، وهذا ما يتناسب مع البشر في نظرتهم لكل نص، وهذا هو أصل التعددية التي وسمت التاريخ والتجربة الإنسانية وأنجحتهما، وهو ما تريد الإسلاموية المعاصرة القضاء عليه.