أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
عن بنات أفكاري !

بقلم : ميسون أسدي ... 22.12.08

كانت الساعة الخامسة صباحا، عندما تسابقت ثماني فتيات فيما بينهن، للصعود إلى سيارة التندر المكشوفة من الخلف، الرابضة في ساحة الدار بدون سائق.. وكان السباق يجري على المكانين الأولين في الطرف الخلفي للسيارة، لتتاح لهن أكبر فرصة للإشراف على الشارع وليحظين بمشاهدة السيارات التي تنهل الطريق نهلا، ولمراقبة السائقين وهم يقودون سياراتهم، والتحرش بهم- طبعا.. فهؤلاء الفتيات، لا يحسبن حسابا لأحد، ولا يخشين سرعة السيارات وراءهن، ولا تجد مسحة قلق واحدة على وجوههن النضرة الجميلة بجمال وريعان الشباب.. تصرفت كل منهن على سجيتها، لأن السائق لا يستطيع سماعهن بسبب الزجاج السميك الذي يفصل خلف السيارة عن مقدمتها.
جلست أربع فتيات من كل جهة، وقد هيأن أنفسهن ليوم العمل في قطف الفاكهة على أنواعها في المزارع والبيارات عند اليهود.. مع أن سيارة التندر لن تتزحزح قبل الساعة السادسة والنصف صباحا، إلا أن الفتيات كن يصلن باكرا، ويجلسن في انتظار السائق "مكيد"، الذي يكون محور حديثهن خلال ساعة الانتظار..
"مكيد" سائق التندر، شاب وسيم ومحبوب وشهم ومواظب في عمله، في الخامسة والعشرين من عمره، ليس بالطويل ولا بالقصير، ليس بالسمين ولا بالنحيف، ذو وجه بشوش ومرح صاحب نكتة، لباسه مهندم ويربط ربطة حمراء على عنقه تميل عقدتها إلى اليسار، مما زاده أناقة وجمالا بسبب بشرته السمراء وشعره الأسود الداكن.
أطل "مكيد" على الفتيات من شرفة بيته، تناول فطوره وأحتسى قهوته بتروٍ، فهو لا ينزل إليهن إلا قبل دقائق معدودة من الموعد المتفق عليه.
في العادة، لم يأتمن الآباء بإرسال بناتهم إلى العمل في أي مكان ولكنهم وثقوا بـ"مكيد" ثقة عمياء، فهو ابن البلد ومن عائلة معروفة ولا يتأخر في دفع الأجرة بنهاية كل أسبوع، ويسمح للبنات بأخذ ما تيسر لهن من القطيف على أنواعه يوميا، وكان قد وعد جيرانه، بإيجاد عمل لبناتهم في العطلة المدرسية التي تمتد شهرين، والفتاة التي لم تحصل على عمل هذه السنة، ستكون في أول القائمة في العطلة القادمة أو في نهايات الأسابيع التالية. ولم يخب "مكيد" ظن أحد، لذلك ائتمنوه ولم يظن به أحد سوءا قيد شعرة.
أثناء الانتظار في السيارة، تشاجرت الفتيات على أمور تافهة ومشاكل صبيانية، لا تزداد حدتها، إلا إذا تدخلت "وجيهة" فكانت أكبرهن سنا وأقواهن جسدا وأكثرهن شرا، وكانت يتيمة الأبوين، وجاهزة لاختلاق الشر والتفنن بصياغته، وتنصاع لها الفتيات اللواتي لم يتعدين سن الثالثة عشرة، خشية منها، واعتدن من وراء ظهرها بمناداتها "وجيهة الكريهة".
من بين الأمور التي تنافست الفتيات عليها هي مدى حب كل واحدة منهن لـ"مكيد"، لكن "مكيد" لم يعرهن انتباها بسبب صغر سنهن وكونه محاطا بالكثير من المعجبات البالغات.. وحدها "وجيهة" كانت على خلاف مع الجميع، وعندما كن يتحدثن عنه في التندر، كن يلقبنه بـ"اللوح" وهو اسم ابتكرته "وجيهة" من شدة كرهها له.. وفي مرّة، تجرأت "حياة" وهي الأجمل بينهن، بالتغزل به، فوقفت "وجيهة" لها بالمرصاد وقالت لها: حتى أنت يا "حياة"؟ فهو لا يستأهل ظفرك، لأنك تستحقين سيد سيده.. وكانت "حياة" تدافع عنه مستميتة، فترد عليها وجيهة: أنا "وجيهة الكريهة"، لا اقبله خادما في بيتي، ولولا حاجتي للنقود لما رضيت أن أركب حتى في سيارته.
فرصة العمل في القطيف كانت تجربة الفتيات الأولى في سوق العمل، وعلا شأن "مكيد" بين الأهالي وبين تلك الفتيات الحسناوات اللواتي لا يعرفن شيئا من الدنيا إلا حلاوتها وجمالها فيتمتعن بعافية وصحة وجمال رائع ببشرتهن السمراء وعيونهن السوداء التي يتغزل بها كل من يراها، فتراهن والسعادة تشع من وجوههن وقهقهة ضحكاتهن لا تتوقف، وتحين ساعة العودة من العمل إلى البيت وهن غير تعبات، كالغزلان بقمزاتهن، فالعمل مع "مكيد" سهل جدا ولا يتعدى الثلاث ساعات يوميا وهو يتنقل بهن من حقل إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى. ومن طبيعة غناء إلى غناء أكثر.
في صبيحة أحد أيام العمل، والندى ما زال متربعا على شجر الأجاص، وطراوة الصباح ما زالت في أوجها، حيث يتهادى حفيف أوراق الشجر، ويهمس نسيم طلق عليل تفوح منه رائحة أزهار زكية، والسيارة تسير الهوينى بين أتلام أشجار الأجاص، والفتيات يغردن كالعصافير وشعورهن تتطاير في الجو وصدورهن الناهدة تعلو وتهبط، حسب إيقاع التندر وتقطع أوصال غنائهن.. لمحت إحدى الفتيات سائق تراكتور مسنًا، يسير من ورائهن ببطء وينظر إليهن بابتسامه صباحية عادية مشرقة، فرؤية الفتيات والعافية ترقص في كل قسمة من قسماتهن، تبعث في النفس الحسد. ارتدى سائق التراكتور قبعة عمل، غطت رأسه وأذنيه، فبدت ملامحه كأنه شخص يهودي "اشكنازي" بسبب بشرته البيضاء المحمرة من لفح الشمس، فقامت "وجيهة" المشاكسة وهي تحتل طرف التندر بالتصبيح عليه، بتوجيه إليه بعض الإشارات النابية بأصابعها محملة إياها أسوأ الشتائم، كانت أخفها وزنا: "صباح الخير يا عرص يا ابن العرص".. وشرعت "وجيهة" تغني والفتيات يرددن من وراءها: "يا يهودي يا ابن الكلب، مين قلـّك تنزل عالحرب.. لما شوفت الفدائي، صرت تعوي مثل الكلب.. عو، عو، عو"!!
وأخذت الفتيات بتقليدها الواحدة تلو الأخرى، يتحرشن به ويشتمنه ويقذفنه بما تناولت أيديهن، وعيونهن الشقية تتألق مرحا، يتمايلن ويضحكن فيما بينهم بنغمات عفوية ورقيقة.. حتى "حياة"، الفتاة البسيطة التي تنضح خجلا، ذات النظرات العذراء المتفحصة، مع جدائلها المفتولة حول عنقها الطفولي، أخذت تشتمه وعلا صوتها على الجميع، وتلذذت بذلك.. ولماذا لا تجاريهن؟ فالرجل يهودي ولن يفهم ما تقول.. هذه التصرفات أدّت إلى اختفاء ابتسامة الرجل وبقي على سكونه وسكوته..
عند الغروب، شاع خبر بين الفتيات، أن "مكيد" هرع إلى ذويهن برفقة "الاشكنازي"، وتبين فيما بعد، ولسوء الحظ، أن هذا اليهودي، ما هو إلا عامل عربي من القرية، لم يتعرفن عليه بسبب الزي الذي يرتديه كالمزارعين في الكيبوتسات اليهودية وقبعته ونظاراته الشمسية التي أخفت ملامحه..
خجلت الفتيات وتأسفن وشعرت بأنهن اقترفن جريمة معيبة ومنهن من بكين حسرة وخجلا مما تفوهن به، أو خوفا من أن يطردهن "مكيد" من العمل، واتهمن وجيهة "الكريهة" بجرهن للسوء، وأقسمن أن لا يبدر منهن أي عمل سيئ بعد اليوم..
قاربت العطلة المدرسية على الانتهاء لم يبق إلا أسبوع واحد، لافتتاح السنة الدراسية الجديدة وتحضير اللوازم المدرسية، وكان هذا هو يومهن الأخير في القطيف، وكالعادة اجتمعت الفتيات في الساعة الخامسة صباحا وجاء "مكيد"، دقيقتان قبل الساعة السادسة والنصف ورائحة صابون الحمام تفوح منه، وقاد السيارة كالمعتاد بهدوء واتزان.
وصل التندر إلى حقول "الأفوكادو" وبدأت السيارة تبطئ في سيرها تعلو تهبط مع ضحكات الفتيات وحديثهن يتعالى، يضحكن ويتجادلن، فتهيأن للترجل من السيارة، لكن المفاجأة كانت بأن "مكيد" ضغط على دواسة البنزين وأنطلق في السيارة كهبوب الريح، خرجت السيارة من حقول الافاكودو ودخلت إلى بيارات البرتقال ومنها إلى الشارع الرئيسي ثم دخلت إلى بعض القرى ولاذت بأزقتها.
خيم السكون والهدوء على راكبات التندر فمنهن من أغمضت عينيها وأخرى سدت أذنيها، والتصقت الواحدة بالأخرى كزغاليل الحمام.. لم يفهمن ماذا يحدث! ولماذا يسرع "مكيد"؟! ماذا دهاه والى أين وجهته؟! سكتن عن الكلام وتابعن ما يجري بدهش!!.
دخل التندر إلى كرم زيتون في الجوار وتوقف.. عندها، خرج "مكيد" من السيارة وفر هاربا.. فجأة، وصلت قوات من الشرطة وتفقدت راكبات التندر، وسألوا الفتيات عن الجهة التي فر إليها السائق ومن هو؟.. قام أحد رجال الشرطة بقيادة التندر مع الفتيات إلى مركز الشرطة، وهناك عرفت الفتيات بأن "مكيد" ما هو سوى سارق ويستخدمهن لتنفيذ مهمته، ولم تمض نصف ساعة من الزمان، حتى حضر ذووهن، وجابوا المركز جيئة وذهابا ينتظرون "مكيد" بفارغ الصبر للاستفسار عما حدث، وبسرعة تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على "مكيد" واحضروه مكبل الأيدي وشعره مبعثر فوق جبينه يتصبب عرقا، فصاح به الأهالي: ماذا حدث؟ ولكن "مكيد" لم يجب، فتدخل أحد الضباط وأعلم الأهالي بأن "مكيد" لص، ويقوم مع مجموعة من الفتيات، بسرقة الثمار في أماكن عدة، ويبيعها هو بالجملة للأسواق، وأن الشرطة تراقب تحركاته منذ أسبوع.. أمسك والد "حياة" بتلابيب "مكيد" وقال له: ماذا فعلت؟
- لم أفعل شيء..
- تغشنا وتسرق على حساب بناتنا..
- شو صار؟!
- شو صار.. وصفعه والد "حياة" على وجهه بحضور ضابط الشرطة..
- أنا لم أسرق، هذه أرضنا التي صودرت، وأنا اقطف من ثمارها.. ثم اقترب "مكيد" من والد حياة وهمس في أذنه: أشكر ربك أنهم أمسكوا بي الآن، فنحن نسرقهم منذ عدة سنوات. وقام والد "حياة" بصفعه مرة أخرى قائلا له:
- أنت محق.. أقطف واسرق ما شئت لوحدك.. بعيدا عن بناتنا، لن نقتات من الحكايات..
***
- ترن.. ترن..ترن.. دق جرس الباب، فنادت "حياة" على أولادها ليفتح أحدهم الباب، ولما لم يجبها أحد، تذكرت بأن أولادها الثلاثة ذهبوا منذ الصباح الباكر للمشاركة في الاحتفال الذي يقام في مركز المدينة، فنادت زوجها ليفتح الباب، بعد لحظات، نادى زوجها بأعلى صوته: "حياة".. جاءتك رسالة من الأهل..
- تعال إلى المطبخ، افتحها واقرأها لي بصوت عالٍ..
-عائلة قرطام.. وعائلة زطام.. يدعونكما لزفاف ولديهما (مكيد و وجيهة)، وذلك يوم السبت الموافق 12/2/2008.. حضوركم يشرفنا.
أخذت "حياة" تزيل الصابون من على يديها وتنظر إلى زوجها متسائلة: من هذا "مكيد" ومن هي عروسه "وجيهة"؟!
فقال زوجها: لحظة هناك ملاحظة بخط اليد: "حياة.. أكيد نسيتي مين وجيهة.. أنا "وجيهة الكريهة" سأتزوج من "مكيد اللوح".. ويا ويلك إذا ما حضرتي عرسي"!

(حيفا)