أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
أمل

بقلم : زكية خيرهم ... 21.12.08

جلست أمل فوق صخرة على شاطىء البحر تتأمل غروب الشمس في النرويج، يجرها الفراق بعيدا عن منافى القلب ...فراق الوطن والغربة معا تلاشيا عند انقضاء الليل تحت جذوة وطن متجمد يعكس غموض ابتسامته، في أمل زرعته من أجله تحت الثلج لينمو عطرا وياسمينا.عشق الوطن حطم آمالها ولطخ فستانها الأبيض بقلق ينهمر من عيون ملوعة، ولهيب التمني يحرق المسافات ما بين وطن الطفولة وغربة الشباب. حسرة عاشقة تنتظر الشموع لتتشكل من ضوء الحيرة والظنون. تسير كلماتها في صمت وهي تفتش عن حجر الزمرد في وجه ذلك الوطن الغائب الحاضر خلف السماوات. لقد أكل المنفى كل شيء، ورغم ذلك مازالت تترقبه من وراء تلك المياه الزرقاء ... صانعة من آمالها قاربا ورقيا يطفو على تلك المياه العميقة باحثة عن ذلك الكنز الذي بددته نار تلك الأشياء. لعنة تسلقت في الروح ولا نهاية للسعتها القاتلة ... شوكة تصاحب الألم ... عالقة تأبى الزوال.
عيناها مسافرتان مع الشمس في إغفاءة حزن وإشراقة أمل، ويحين الأفول بانقضاء يوم آخر من عمر أمل، حاملا في طياته ذكريات أليمة حزينة. تلك اللحظة من الغروب، ذكرتها بفراق وطن عزيز رحل وترك القلب منكسرا كما الأمواج تتكسر على الصخرة التي كانت تجلس عليها.
أهي شوكة على شكل وردة صارت مدببّة ... تخز الأرواح ... وترجف القلوب؟ أم هو وجه بوجهين يحمل كل أنواع الجبن ورائحة الحروق حيثما حلت. مفقودة رغم الوجود ... مبتورة عن الحياة ... تتعكز الحزن وتدوس على الفرح، تفترش الأزمات وتتدثر بعباءة النميمة، صانعة من قصائد هجائها وذمها ومدحها واقعة خرافية عن الغيب والغائبين.
ضاعت كلمة الحق في كل مكان، وافترشت الأرض كذبا ورياء. تهدمت البيوت الكبيرة، وحلت محلها أكواخ عارية السقف من غير أساس واقفة تحتاج لركائز أو ركيزة على الأقل حتى لا تقع ...
أكواخ لا تستقر على حال. عواصف تهددها ... وأمطار تبلل داخلها ... ورياح تبعثرها على كل الجهات، فتطير جدرانها الهزيلة لاهثة لا تدري على أي مكان تستقر. حسراتها تضيع في المساءات الباردة بين وحدتها، تصارع الطوفان المخيف تترقب مغيثا من نافذتها الصغيرة كي يزيل عنها غبار العتمة.
آه ..! عن كلمة الحق ...عن صداها الذي يدوي في الأوراق والحجر وفي أعماق الجدار المنهار. هنا أجلس على هذه الصخرة ولا أعرف إن كنت أنعيك. أراقبك من وراء هذه المياه وأعلم أنك تراني.
رفعت أمل عينيها إلى السماء، فرأت غيوما متفرقة في تلك الزرقة والشمس حارقة تجلب الأوهام والدهشة التي تغتال ذلك الغروب. تمسح عن جسدها عرق المنفى، إلا أن روحها مستلقية على تل بعيد حيث الأزهار المورقة تكبر بين الصخور وتحت السماء وحيث الرياح والثلوج تغطي الجبال في الفجر لتعود إلى الوطن. نعم، ألست الأمل ...؟ لن أرضخ للسعة شوكة ولا للدغة سامة...سأعيش على أمل ...
أتذكر يا وطني روضة الورود وشمس الأيام ...؟ أتذكر السواحل والبحر والطيور والشجر ...؟ كناّ شعبا طيبا يسكن في أزهارك رغم أنه يكابد في الحياة بلا صوت، خوفا من المجهول الذي يعرف أنه قادم ولكن لا يدري متى... أتدري يا وطني كم أنني رقيقة إلى درجة العدم؟ أوجاعي تتسرب الآن من جسدي المنهك في زحمة حروبك ولهيب جحيمك. أجهضتني جبالك وأشعلتني رمالك بأنين مبحوح. رياحك تبعثرني ومازالت. أتذكر طفولتي حين كنت أحلق كاليمامة في فضائك، أنظر مبهورة في صفائك وفي نبع طيفك الذي يحاكي وجه القمر. هل نسيتني ...؟ أنا أمل ... أنا ذلك النور الذي يزرع في الروح حب الإبتسامة والإطمئنان ... لكن مياهك الآن عميقة لا ترى .. لقد كبرت يا وطني وفهمت سر جدولك الساكن ...
لا أعرف إن كنت أحبك أو أكرهك.!! دموعي تسيل من نفس تتلوى حنينا أكثر مما تشكو ألم الغياب.
أمل لسعته شوكة وردة غير كل الورود، وتوارى بعيدا مغلقا كل الأبواب، يتعثر في ظله المنكسر ويرتشف وحدة آلامه. أحلامه التي توارت وراء كواكب بعيدة، يبحث عن أمل لنفسه وكيف لأمل أن يبحث عن أمل ...؟ مازالت تؤلمه تلك الحكاية ...حكاية أمل وغربة وطن.
كان الثلاثة معا يعبرون طريق الحياة على قارب ورقي صغير، سعداء ...يغيبون في حديثهم عبر مروج ذلك الصيف، عن الحب والجمال وعن السلام والصفاء والحروب والخراب. عن كل شيء ...وتأتي أمل كما لو أنها خلقت في حلم، وجهها متورد بنشوة الشباب، هيفاء خطواتها قصيرة متتابعة، ابتسامتها عذبة تلون الأرض، تتوهج من شموع الأزمنة الغابرة، صامتة دون لغة في "غربة" ألقتها من ذلك القارب الورقي الصغير إلى أحضان المياه العميقة والوطن قبالتها في ابتهاج ينظر ويبتسم. أما أمل فلم تبلعها المياه ولكنها كانت تسبح وتبتعد كسمكة هاربة تاركة الوطن والغربة خلفها، لم ترهما مرة أخرى ...اختفيا منذ اللحظة التي شاركا في قذفها وراء البحار.

كاتبه مغربيه