أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
الرواية العربية بين الإبداع وغياب القراء !

بقلم : د. خالد الحروب ... 18.12.08

الإعلان في الأسبوع الماضي عن أسماء الروايات الفائزة في القائمة القصيرة (ست روايات) في جائزة الرواية العربية العالمية (بوكر العربية) في لندن وأبو ظبي كان مناسبة إضافية للنقاش مجدداً حول وضع الرواية العربية الراهن وإلى أين وصل هذا الفن الأدبي الهام في المنطقة. الجائزة التي تأسست العام الماضي تمكنت من تأسيس فاعلية إيجابية ليس في المشهد الأدبي العربي الخاص بالرواية, بل وأيضاً في توسيع الحضور العالمي لهذه الرواية. فالرواية التي فازت بالجائزة الأولى العام الماضي "واحة الغروب" لبهاء الطاهر, هي الآن قيد الترجمة لعدة لغات. وهناك فرص لترجمة روايات أخرى كانت ضمن القائمة القصيرة والقائمة الطويلة ( ستة عشر عنواناً). ومن المتوقع أن يتم هذا العام أيضا ترجمة الرواية التي ستفوز في الجائزة الأولى من ضمن الروايات الست التي فضلتها لجنة التحكيم, ويعلن عنها في شهر مارس القادم. عدد الروايات التي ترشحت للفوز بالجائزة هذا العام تجاوز 120 رواية.
متابعة حيثيات بوكر العربية, وجوائز عربية أخرى خاصة بالرواية, يشير إلى أن ثمة ازدياداً إيجابياً وملفتاً في كم ونوعية الروايات العربية التي تصدر كل عام, وهو ازدياد يستحق الترحيب والإشادة ويغني النقاش في هذا الحقل. يمكن أولاً التأمل في عدد من الأسباب والظروف المحفزة لما يمكن اعتباره ازدهارا في كتابة الرواية العربية في السنوات الأخيرة. وهنا وقبل أي شيء آخر يشتغل واقع الحياة العربية (شبه السوريالي والغرائبي) ما فيه من تحديات, وتناقضات, وتساؤلات, ومعاناة, وتوترات كمحرك أساسي للأفكار الإبداعية بأشكالها الفنية المختلفة. ويتمتع التعبير الفني عن الهموم التي يطرحها الواقع العربي بحرية ذاتية نسبية, مقتنصة من مخالب القمع السائد, ويتهرب من ضغط الأسقف المنخفضة لحرية التعبير السياسي والإعلامي. وبسبب هذه الحرية النسبية فإن ساحة التعبير الفني لا تجتذب وحسب ما يندرج تحت عناوين الإبداع المباشر من قبل كتاب وشعراء وروائيين هاجسهم الأساسي إنتاج جماليات متنوعة, بل تستقطب أيضا كتابات وإبداعات قادمة من مناخات القلق السياسي والاجتماعي الذي لا يجد فضاءات أخرى يعبر عن ذاته فيها. فبرغم التحسن النسبي الطفيف في مستويات الحريات الإعلامية والسياسية في عدد من البلدان العربية, إلا أن هذه المستويات لا تزال واطئة ولا تسمح بتطور وعي نقدي صحي وفعال. ولهذا السبب فإن ما يُلاحظ من تطور حادث في المشهد الفني الإبداعي بشكل عام, والروائي على وجه الخصوص, له علاقة مباشرة بضمور مساحات الحريات العامة.
ليس هذا معناه أن معظم النصوص الروائية الصادرة في العقد الأخير من السنين متسيسة بشكل مبالغ فيه في مجملها, أو أن بُنياتها الجمالية محصورة في الموضوعات التي تعبر عنها, بكون هذه الموضوعات غير حضارية في مساحات التعبير الأخرى. ففي أول المطاف ونهايته لا يمكن, ولا يجب, الحكم على العمل الإبداعي بمعايير غير فنية وغير جمالية. إذ مهما كان الموضوع الذي تصوره رواية ما بالغ الحساسية, على سبيل المثال, لجهة تحديه وكسره محاذير معهودة فإن هذا التحدي لا يؤهل العمل المعني, الرواية هنا, كي تتسنم موقعا متقدماً في الصنف الأدبي الذي تنتمي إليه.
هناك بطبيعة الحال المحاذير التقليدية الثلاثة التي تواجه أي كاتب عربي, سواء كتب رواية, ام مقالة, أم بحثاً, أم حتى خاطرة في مجلة حائط وهي السياسة, والدين, والجنس. ويقترب كتاب كثيرون من هذه المحاذير إلى هذه الدرجة أو تلك, ويناورون حولها, وأحيانا يتحدونها مباشرة, ويتخطون ما هو مفروض من خطوط حمراء. وقد يتم هذا عن طريق أنواع متعددة من الكتابة. ولربما تقوم مقالة سياسية في صحيفة, أو بحث معين في دورية بعملية انتحارية" على "الخطوط الأمامية" لواحد من هذه المحاذير, وتتبوأ موقعاً ريادياً بسبب طبيعتها المقدامة. بيد أنها تظل محصورة في تصنيفها السياسي أو الإعلامي أو البحثي. أما في حقل الكتابة الإبداعية فإن الأمر يختلف إذ تتوقف ممارسة "تحدي المحاذير" وتجاوزها عن الاشتغال بهدف منح العمل (الروائي هنا, مرة أخرى كمثال) سمة ريادية أو تفوقية من نوع خاص. فكثيرة هي الكتب التي توسلت تحدياً واحداً من تلك التابوهات لتحقق شهرة معينة. لكن من دون أن تقدم بنية فنية وجمالية ذات تميز وترتقي بكيفية تصوير المضمون, أو صوغ الشكل, أو العناية بمفردات العمل (كبناء الشخصيات, ومنطقية الأحداث, ودرامية الخيال, وسوى ذلك).
قوائم الروايات الفائزة المعلن عنها سواء من بوكر العربية أو الجوائز العربية الأخرى, وخاصة التي تقف وراءها لجان تحكيم صارمة وذات خبرات نقدية وروائية مقدرة, تشير إلى تعاظم الوعي الجمالي على حساب فكرة "تحدي المحاذير التقليدية. لكن في نفس الوقت لا يعني ذلك تراجع الروايات الجريئة التي تتصدى لواحد من تلك التابوهات الثلاثة أو لها جميعا مجتمعة. بل ثمة انتباه متزايد لعدم الوقوع في شرك الاعتماد على المضمون/الموضوع الجريء على حساب الجانب الإبداعي والجمالي للقص الروائي. وهنا يمكن القول إن الروايات التي نجحت في معالجة موضوع سياسي أو ديني أو جنسي بقالب فني ناجح, وشكل مبدع, تقدمت في غالب الأحيان على مكانة الروايات الأخرى. وهذا الصنف من الروايات, الذي يجمع الموضوع الجريء مع الشكل المبدع, يتمكن مع مرور الزمن, بقصد أو من دونه, من زحزحة أسقف التعبير إلى أعلى ودفع الخطوط الحمر إلى جغرافيا جديدة. وعملياً تفتح الرواية العربية الناجحة أفقاً إضافيا للحرية, مهما كان محدوداً, ذاك أنها توسع الميدان الأكثر انفتاحاً وحرية لنقاش ما لا يتم نقاشه في وسائل التخاطب والإعلام الأخرى.
بيد أن ازدهار حقل الرواية العربية وتأثيرها راهنا في سقف الحرية التعبيرية, وإن كان بشكل موارب وغير مباشر, يحبطه قلة أعداد القراء العرب, والعزوف المخجل عن القراءة في المجتمعات العربية, مجتمعات "اقرأ". فالعادات القرائية وبحسب دراسات ميدانية عديدة متدهورة إلى مستويات كارثية, ويتبدى ذلك في عدد النسخ المنشورة والمُباعة في الأسواق من الروايات العربية ذات الصيت الكبير. والأرقام المتداولة في أوساط الناشرين بشأن الروايات الأكثر مبيعاً هي أرقام تثير الرثاء إذ تدور كلها حول آحاد الألوف, ونادرها يصل إلى عشرات الألوف. وعندما نقارن الأرقام الخاصة بنشر وتوزيع الروايات العربية الأهم والفائزة بالجوائز المختلفة بأرقام روايات عادية في بلدان اخرى يتضاعف لدينا الشعور بالخجل من ناحية, وينكشف الوضع السييء بشكل أكثر فضائحية من ناحية ثانية. وهكذا فإن التحدي المطروح راهنا هو كيفية خلق الاعتبار للقراءة والكتاب في العالم العربي وتطوير عادات قرائية جديدة. من دون ذلك فإن كل إبداعات الروائيين تظل محصورة فيما بينهم وفي دوائر بالغة الضيق من حولهم.