أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
الأسير محمد براش: لا تقل لأمي بأني أصبحت أعمى!!

بقلم : الديار ... 18.04.2013

وصلتنا رسالته الصامتة الصارخة ترشح دما وتنزف وجعا إنسانيا وتستصرخ.. تنقل لنا صورة فجائعية لتنتزع منا دمعة وتجعلنا نتوقف حول الجدوى والمعنى.. تختزل عقودا تعمدت بالعذابات والتضحيات العظام لقوافل الشهداء والجرحى والأسرى ممن قضى منهم نحبه ومنهم من يصارع الموت والقتل البطيء وحده دون أنين أو ضجيج..
الأسير محمد خميس براش (33 عاما) من مخيم الأمعري، فقد عينيه وفقد قدمه، ويقبع في سجن "إيشل" الإسرائيلي بالنقب، يبعث رسالته لشعبه-وليس لقيادته- بحروف نازفة تؤبد الوجع الإنساني وتنزف بتفاصيلها كما ينزف جسده المترامي على قارعات الأسر والوجع المؤبد.
رسالته بمثابة صفعة لكل من تخلوا عنه، ولكل من تجاهل فرسان الأمة الذين يصارعون الوجع والموت اليومي وحدهم. وربما هذا ما أراد الأسير البطل محمد براش قوله لنا.. لنستعيد بصيرتنا بعد أن فقد بصره وفقد قدمه وعلى وشك أن يفقد قدمه الثانية..
ولازالت أجسادهم مطرزة بالرصاص المستقر في ثنايا أجسادهم التي بتر بعض أطرافها وهم يئنون ألما وجوعا وغضبا وحدهم..
وهذا نص الرسالة كما وصلتنا:
محمد براش: لاتقولوا لأمي بأني أصبحت أعمى..
لا تقل لأمي بأني صرت أعمى، هي تراني وأنا لا أراها، أبتسم وأتحايل عليها على شبك الزيارة عندما تريد أن تريني صور إخوتي وأصدقائي وجيران الحارة، فهي لا تعرف أني أصبحت كفيفا بعد أن دب المرض في عينيّ حتى غزت العتمة كل جسدي.
لا تقل لها بأني انتظر عملية جراحية لزراعة القرنية منذ سنوات، ولكن إدارة السجن تماطل ثم تماطل.. وتستدعي إلى عيني كل أسباب الرحيل عن النهار. لا تقل لها بأن شظايا الرصاص والقذائف التي أصبت بها لا زالت تطرز جسدي، وأن قدمي اليسرى قد بترت واستبدلت بقدم بلاستيكية، أما اليمنى فقد تعفنت وجفت من الماء والحياة.
لا تقل لأمي عن تحرر إحساس الأسير من عناصر التكوين الأولى، محكوما برؤيا الحديد والرماد، فلا أبيض يشع، ولا فرس تسرج الصمت أملا يطيل الرجاء. قل لها: بأني حيّ وسليم، أرى وأمشي وأركض والعب وأقفز وأكتب وأقرأ، حاملا وجعي على عكازتي، وأرى شقيقي الشهيد قمرا يفرش السماء ويناديني بقوة البرق والرعد والسحاب.
لا تقل لها باني لا أعرف النوم، أعيش على المسكنات حتى تخدر جسمي، أتحسس حاجياتي فأرتطم بالبرش الحديدي، وبزميل ينام قربي، فينهض ليساعدني في الوصول الى الحمام. اليقظة تؤلمي والنوم لا يأتيني.
لا تقل لأمي بأن بارودا دخل الى مقلتي في ذلك اليوم الدامي في شوارع المخيم، قنصوني حتى طارت قدمي وسال الدم من بصري، وقبل أن أفقد الوعي رأيت طفلا يجري نحوي حاملا علما وهو يصيح: شهيد شهيد..
قل لها: إن كان حلمي لا يكفي، لك حنين بطولي لا يغادرني، ولي منك لغتي وحليبي ورموزي على الجدران أكشط بها وجعي كلما غاب الضوء من حولي. قل لها بأني أتبع دعاءك الرمضاني إلى غيمة في يدي لأصل معيدي بعد أن ضاق بي جسدي، وربما أعود أو لا أعود، ولكني تركت الباب مفتوحا، واخترت الوقوف قرب قلبك كأني اخترت غدي.
لا تقل لأمي أن دولة إسرائيل في القرن الواحد والعشرين حولت السجون الى أماكن لزرع الأمراض، وإذابة الأجساد رويدا رويدا، حتى صارت السجون حقول تجارب على الأحياء الذين سيموتون بعد قليل.
لا تقل لها بأني أصبحت أحفظ كل أسماء العلل العجيبة والأدوية الغريبة وأنواع المسكنات أبلعها، وأنا أرى صديقي زكريا عيسى يدخل في غيبوبة طويلة في اللازمان قبلي.
لا تقل لأمي عن الأسرى المرضى الذين فاض الداء في أجسامهم جنونا وحربا: أحمد أبو الرب، وخالد الشاويش، أحمد النجار، منصور موقدة، أكرم منصور، أحمد سمارة ، وفاء البس، ريما ضراغمة، طارق عاصي، معتصم رداد، رياض العمور، ياسر نزال، أشرف أبو ذريع، جهاد أبو هنية، يذبحهم السجن والمرض واستهتار دولة تجيد تصدير الموت والجنازات للآخرين.
قل لها: لا زلت على بعد ثلاثين بابا من البيت، أدنو منه كلما طار طائر واشتعلت النار في عيني ولسعتني الأسلاك بين أضلاعك والصلوات الخمس، اللهم فك أسرهم واربط على قلوبهم الصبر والسلوان.