أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
نظام رأسمالي برأس ديكتاتوري!! "3"

بقلم : د.فيصل القاسم ... 16.09.2012

لا مانع لدى القيادة الصينية أن تقلد الاقتصاد الرأسمالي وتزايد عليه في توحشه، فقد رأينا في المقالتين السابقتين كيف اقتبست الصين النموذج الغربي في الاقتصاد بحذافيره، وكيف جعلته أكثر توحشاً واستغلالاً. لكن رغم هوسها وافتتانها بالغرب اقتصادياً وعمرانياً، إلا أنها مازالت تمارس استبدادها الشيوعي على الصعيد السياسي والثقافي والإعلامي، فالديمقراطية بشكلها الغربي مازالت رجساً من عمل الشيطان في مفهوم القيادة الصينية وحزبها الشيوعي الحاكم الذي أصبح عبئاً على البلاد رغم المحاولات الكثيرة لتغيير اسمه وإبقاء مضمونه.
من سوء حظ الصين أن الطواغيت العرب يجدون فيها النموذج المفضل للحكم رغم الاختلاف في الإنجازات. فعندما أراد معمر القذافي قمع الثورة الليبية وسحقها تعلل بما فعله الحزب الشيوعي الصيني بالثوار الصينيين في ساحة تيانامين عام 1989، فمن المعروف أن ألوف الطلبة الصينيين نظموا صفوفهم في تلك الفترة، واعتصموا لمدة من الزمن في الميدان الشهير، وحظيت قضيتهم بتغطية إعلامية عالمية منقطعة النظير. لا بل إن ملايين الصينيين أيدوهم مادياً ومعنوياً. ويذكر بعض الصحفيين الذين غطوا اعتصامات تيانامين أن الصينيين كانوا يرسلون للطلاب المعتصمين الأكل والشرب بالشاحنات من كل المناطق. وكانت بعض الشاحنات تصلهم محملة بالخنازير لتأمين الطعام لهم على مدى شهور. وقد وصل الأمر برئيس الحزب الشيوعي وقتها إلى زيارة الطلاب في ميدان الاعتصام والتضامن مع مطالبهم والاعتراف بها، لكن الحزب أطاح به بعد سويعات فقط من زيارته للمعتصمين. وفي النهاية قررت القيادة الشيوعية إرسال الدبابات إلى الميدان لسحق الانتفاضة والقضاء عليها نهائياً. وكلنا يتذكر مشهد ذلك الطفل الصيني الذي كان يقف أمام دبابة كنوع من التحدي للوحشية التي قمعت بها السلطات تلك الاعتصامات التاريخية.
ولا شك أن القيادة السورية استمدت وحشيتها في قمع الثورة من الصين وروسيا اللتين لم تترددا يوماً في استخدام الجيش لضرب كل من تسول له نفسه المطالبة بحقوقه المسلوبة. ولم تقف الصين عند حد تقديم النموذج الدموي الوحشي لبعض الطواغيت العرب في قمع الانتفاضات الشعبية المشروعة، بل راحت تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لدعم النظام السوري في مواجهة الثورة الشعبية رغم الاستنكار الشعبي العربي والإسلامي الواسع للخطوة الصينية. لكن الصين لم تتزحزح عن موقفها حتى الآن ظناً منها أن الجميع بحاجة لبضائعها الرخيصة والتعاون معها اقتصادياً. وقد ظهر ذلك جلياً في زيارة الرئيس المصري الأخيرة للصين محمد مرسي، الذي ركز في محادثاته مع الصينيين على الجوانب الاقتصادية والتجارية حصراً دون أي ذكر للموقف الصيني المنحاز للنظام السوري، مع العلم أن هناك قضايا كثيرة يمكن استغلالها للضغط على الصين. وقد ذكر لي أحد المختصين أنه يكفي أن تعلن المرجعيات الإسلامية في العالم العربي أنها بصدد استقبال أحد رموز مقاطعة التبت الكبار الدلاي لاما وإبداء تعاطفها مع قضية التبتيين وغيرهم من المقاطعات التي تحاول الاستقلال عن الصين لأسباب عرقية وسياسية مشروعة حتى تعيد الصين النظر في بعض سياساتها، خاصة أن هناك الكثير من الحركات الصينية التي تحاول تحصيل حقوقها المسلوبة من النظام الحاكم في بيجين الذي مازال يتعامل مع الداخل والخارج بنفس العقلية الشيوعية البائدة.
بالإضافة إلى سياسة القبضة الحديدية التي مازال النظام الصيني يمارسها مع معارضيه، فإنه يفرض قيوداً صارمة للغاية على الإعلام الحديث، خاصة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فمن المعلوم أن الصينيين ممنوعون من دخول مواقع عالمية كـ"فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، فهذه المواقع وغيرها محجوبة في الصين تحت طائلة العقوبة لكل من يحاول دخولها. وقد دخلت الصين في صراع مع شركة "جوجل" قبل مدة للأسباب الرقابية ذاتها. ويقول أحد المعارضين الصينيين إن النظام الحاكم في بلاده يوظف أكثر من ستين ألف شخص فقط لمراقبة الإنترنت وملاحقة المخالفين. أضف إلى ذلك أن وسائل الإعلام في الصين مازالت خاضعة تماماً لسلطة الدولة، إذ يتحدث المعارضون عما يسمونه بوزارة الدعاية (البروبوغاندا)، ومهمتها توجيه الرأي العام ومراقبة الصحف والمجلات والتلفزيونات والعاملين فيها. ويعتبر ذلك نموذجاً فريداً في العالم حيث إن للاقتصاد الصيني كامل الحرية في تقليد الاقتصادات الغربية والمزايدة عليها، وفي الوقت نفسه قمع الإعلام، خاصة أن "الإعلام الحر" هو الابن الطبيعي للنظام الرأسمالي الذي تتهافت الصين على الاقتداء به وجعله أكثر وحشية واستغلالاً للناس.
لا أدري إلى متى يمكن قيادة الصين من خلال اقتصاد مفتوح وسياسة ديكتاتورية رغم نجاح النموذج حتى الآن وتحقيقه معدلات تنمية غير مسبوقة عالمياً. ربما مرحلياً فقط، فمع تنامي الاقتصاد الصين وانفتاحه الكبير على العالم، لن يمر وقت طويل قبل أن يبدأ الصينيون بتحرير نظامهم السياسي والإعلامي وجعله يواكب نظامهم الاقتصادي الذي تفوق على الاقتصادات الرأسمالية الغربية الأصلية في التحرر، إن لم نقل الانفلات!