أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
لن ننسى 28 آب 1982 !!

بقلم : رشاد أبو شاور  ... 29.08.2012

ثلاثون سنة مرّت على فجر يوم 28 آب 1982الذي تهادت فيه السفينة (سولفرين)، داخلة ميناء بنزرت، وهي تحمل ألفا ومائتي فلسطيني رُحلوا من بيروت يوم 22 آب، لتكمل مهمتها المحددة في ترحيل هؤلاء الفلسطينيين بعيدا عن ميناء (حيفا) الذي طالما حلموا بالعودة إليه، لتنتهي رحلة غربتهم وتشردهم.
ميناء بنزرت صديق، ولكنه ليس ميناء حيفا، ولعل ما يطمئن أن فيه ألوف التوانسة الذين شقوا العتمة بأصواتهم المرحبة، وبأنفاسهم الحارة، فاتحين أذرعهم لاحتضان أهلهم القادمين من الشرق كرها وقهرا، تدفع بسفينتهم قوى شريرة معادية، حكمت عليهم بالنفي إلى أبعد مدى عن فلسطين، ليموتوا في المنافي، ولتتبدد رياحهم، فلا يبقى منهم أثر، ولا يعود لنسلهم سوى الحسرات، والتفجع، والسقوط في وهاد اليأس والنسيان.
ستة أيام من الإبحار، من ميناء بيروت إلى ميناء ليماسول القبرصي، فميناء كريت اليوناني، ثمّ الإمعان في الإبحار صوب ميناء بنزرت التونسي، لتصل السفينة بمرحليها المتعبين المنهكين فجر اليوم السابع من الإبحار.
ثلاثون سنة مرّت على ذلك الفجر، وها هي بنزرت تستذكر وصول الأهل القادمين من الشرق، الذين دُفع بسفينتهم بعيدا بعيدا عن مينائها الموعود، بعد أن قاتلوا مع أهل بيروت 80 يوما، وهم في حصار خانق، في نصف مدينة ـ فنصف بيروت الآخر كان تحت سيطرة الانعزاليين حلفاء العدو الصهيوني ـ تسقط على رؤوسهم الصورايخ والقذائف من السماء، ومن أمكنة تحيط بالمدينة، ومن زوارق وبوراج في البحر، تدك البيوت، والشوارع، إضافة إلى صواريخ فراغية تجرّب لأوّل مرّة على بيروت وأهلها، والمدافعين عنها، فلسطينيين ولبنانيين، ومقاومين من بلدان عربية اختاروا الانتماء لفلسطين.
قاتل المُحاصرون بما توفر لهم من سلاح متواضع، رافضين الاستسلام، مؤملين أن تندفع جيوش عربية لتفك الحصار، فلا تتركهم وحيدين، ولا تفرط بمدنية عربية عريقة تاريخيا، هي في ذات الوقت عاصمة لدولة عربية عضو في الجامعة العربية، والأمم المتحدة، ولكن لا أحد يجيء، فتواصل المدينة معركتها بما تيسر لها من مقاتلين عنيدين، سلاحهم كبرياؤهم الإنساني، وشرفهم، وانتماؤهم لفلسطين، ولأمتهم.
سوم المقاتلون على الخروج بدون سلاحهم، تحت رايات الصليب الأحمر الدولي برا عبر منطقة (عرمون) الجبلية إلى سورية، فرفضوا، لأنهم أدركوا ما يدبر لهم: موت ذليل غدرا، وهم بلا سلاح، بمذبحة ستلحق بشعبهم وأمتهم العار أبد الآبدين.
رغم الإنهاك، وفداحة الخسائر، تحمل أهل بيروت، وصمد المقاتلون، رغم أن كثيرين منهم غير محترفين، وتدريبهم متواضع، ولكن المعركة صقلتهم نفسيا، وبدنيا، وأمدتهم بخبرات عززت ثقتهم بأنفسهم، فازدادوا ضراوة، وعزيمة، وثقة بالنفس، وقاتلوا ببسالة وجها لوجه.
اتضح لقادة العدو الصهيوني، ولجنرالاته الذين يقودون قواتهم التي تحاصر بيروت برا وبحرا وجوا، أن مقاتلي بيروت لن يستسلموا، وأن اختراق المدينة هو المستحيل بعينه، لأن روح الاستشهاد تحتل نفوس المدافعين عن المدينة، ولأن المدافعين عن بيروت، وعن الثورة الفلسطينية، مصرون على إبقاء ذكرى هذه المعركة علامة فارقة في ضمير ملايين العرب، برهانا على عظمة الإيمان، وبشاعة الإجرام الصهيوني، وجبن الأنظمة وعجزها المتواطئ، وإدانة للدور الأمريكي المنحاز صهيونيا، وغياب الضمير العالمي الغربي الاستعماري (الديمقراطي) الذي طالما تغاضى عن جرائم الكيان الصهيوني، والذي كان حاضنته، وما يزال!.
ثمّ بعد مفاوضات مضنية تميزت بالخبث الأمريكي، وبتواطؤ أطراف عربية رسمية، تتقدمها السعودية التي برز دورها في مؤتمر قمة فاس قبل أشهر من العدوان على لبنان، وحصار بيروت، وخذلان المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين، بدأت مفاوضات (خروج) قيادة ومقاتلي الثورة الفلسطينية بعيدا عن بيروت..إلى المنافي العربية البعيدة!
هنا أتوقف لأستذكر ما كنت كتبته عام 1977 في مجلة (المعرفة) السورية، بعنوان: الفلسطيني يعود إلى إيثاكا، وهو النص الذي حكيت فيه عن عودة الفلسطيني إلى (إيثاكاه)، كما عاد أوليس إلى إيثاكا بعد أن خاض حرب طروادة طيلة عشرة أعوام، و..عانى من تشريد الآلهة له عشرة أعوام، لتنتهي رحلة عذابه بالعودة إلى وطنه، وليلتقي بعد مكابداته بحبيبته المنتظرة الصابرة (بنيلوب) وبابنه الفتى، وليهنأ بالعيش بعد أن أوقع العقاب بمن تسببوا بعذاب زوجته، وابنه، واحتلوا بيته في سنوات غيابه.
رحلة العودة هذه هي ما حلم به فلسطينيو المنافي، ولكن (الخروج) من بيروت، لم يكن باتجاه إيثاكا الفلسطينية..واأسفاه!
ومع ذلك فقد وجد الفلسطيني المشرد في البحار أهلاً في تونس، في ميناء بنزرت، يفتحون له الأحضان، ويبلسمون جراحه، ويمنحونه مكانا آمنا يلتقط فيه أنفاسه، ويستعيد فيه قوته، ويلملم فيه أشلاءه، حتى وقعت المفاجأة: اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى، وعودة الروح للشعب الفلسطيني الذي لا تموت روحه المقاومة أبدا، ولتتحول تونس من مكان ناء أراده الأعداء منفى للفلسطيني ينسى فيه ويُنسى، إلى قيادة للانتفاضة، وعنوان لمرحلة جديدة في الكفاح الثوري الفلسطيني.
لن أؤرّخ للثلاثين سنة التي مرّت على وصولنا إلى تونس، وكنت أحد المشردين على تلك السفينة اليونانية _ القبرصية، وعنها كتبت روايتي (الرب لم يسترح في اليوم السابع)، وبالعنوان قلت: إن رب الجنود، يهوه، إله إسرائيل، لن يرتاح بعد أن شرّد الفلسطينيين بعيدا عن موانئهم، وبيوتهم، وزوجاتهم المنتظرات الصابرات...
أهلنا في تونس، في الذكرى الثلاثين، قرروا إحياء ذكرى وصول السفينة الفلسطينية، وتحت عنوان: لن ننسى..وما هذا بغريب على مدينة بنزرت، مدينة الشهداء بخاصة، وأهل تونس الأوفياء الذين سقط منهم شهداء على ثرى فلسطين عام 48، وفي صفوف الثورة الفلسطينية على أرض لبنان...
هل يحتاج عنوان الاحتفالية (لن ننسى) لشرح؟ التوانسة لن ينسوا فلسطين، ومن شردوا الفلسطيني، ومن يتحالفون مع الكيان الصهيوني ـ هناك من نسوا، وينسون! ـ ولذا فهم يحتفلون بفلسطين عربية من نهرها لبحرها، حرة عربية، وهم يرفعون علم فلسطين رغم أنوف الجهلة الذين مزقوا العلم في قابس، العلم الذي استشهد ألوف الفلسطينيين في ثوراتهم وانتفاضاتهم وهباتهم منذ مطلع القرن العشرين وحتى يومنا، وأيديهم تتشبث به، بينما أرواحهم تصعد في سماء فلسطين.
عندما أسمع اسم بنزرت تعود بي الذاكرة إلى فجر يوم 28 آب 1982، فأستعيد هتافات وقبضات وملامح ألوف التوانسة في ميناء بنزرت، أولئك الذين زحفوا من أنحاء تونس، وظلوا ينتظرون طيلة الليل وصول سفينة الفلسطينيين..ليشدوا أزرهم، محتفين بهم كأبطال، ملوحين بعلم فلسطين الذي لن يسقط أبدا، والذي سيرتفع في سماء ميناء حيفا يوما ما.
أهل بنزرت بخاصة، وتونس بعامة أحيوا فينا الأمل، وقووا عزيمتنا، وشدوا أزرنا، وبملء أفواههم قالوا لنا: لستم وحدكم، وتونس ليست منفى لكم..فاستعدوا لاستئناف المعركة.
غادرت تونس في اليوم التالي إلى دمشق حيث أسرتي، ولإيماني بان المعركة ستستأنف، فالفلسطيني لن يرتاح قبل بلوغ ميناء حيفا، ولن يرضى بأن تبقى سفينة فلسطين مشردة في البحار والمونىء.
في تراب تونس امتزج الدم التونسي الفلسطيني في (حمّام الشط) حيث وقع العدوان الصهيوني. وفي ثرى تونس لنا شهداء قادة: أبوجهاد، أبوإياد، أبوالهول، وأخوة من مقالتي الثورة، هم أمانة حتى يوم عودة سفينة فلسطين إلى ميناء حيفا...
لأهل بنزرت، أهلنا، وللقائمين على احتفالية (لن ننسى)، نقول: ونحن أيضا لن ننسى 28 آب 1982..ولن نضل الإبحار إلى ميناء حيفا أبدا.