أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
فوضى وبلطجية برعاية رسمية لإحباط الثورات!!

بقلم : د.فيصل القاسم  ... 12.08.2012

هل لاحظتم أن أعمال البلطجة ازدادت بنسب كبيرة أثناء بعض الثورات العربية وبعدها؟ كلنا شاهدنا البلطجية وهم يقتحمون المحلات التجارية، ويروعون الناس في الشوارع، ويقطعون الطرق، لا بل رأيناهم أيضاً وهم يهجمون على بعض الساحات الممتلئة بالمتظاهرين السلميين بطريقة بشعة للغاية على ظهر الجمال ليوسعوهم ضرباً ورجماً بالحجارة. ولا داعي لذكر أن السلطات في أكثر من بلد اعتمدت اعتماداً كبيراً على القتلة والمجرمين وقطاع الطرق واللصوص لمساعدتها في قمع المظاهرات وإرهاب المتظاهرين. وبناء على ذلك، لم يعد هناك أدنى شك بأن كل مظاهر البلطجة التي سادت، ومازالت سائدة في البلدان الثائرة جاءت بأوامر وترتيب مفضوح من قبل الأنظمة المحاصرة بالثورات تحديداً.
ولعل الهدف الأهم من وراء تشجيع البلطجة رسمياً ابتزاز الشعوب الثائرة وجعلها تترحم على أيام الطواغيت التي كانت، على الأقل، تنعم فيها بالأمن والأمان، ودفعها بالتالي إلى العودة إلى بيت الطاعة والتوقف عن الثورة، على اعتبار أن الثورات، حسبما تريد أن توحي السلطات، لا تجلب سوى الفوضى والخراب والإرهاب. وقد رأينا أن هذه السياسة الشيطانية قد أثمرت في بعض البلدان عندما قامت نسبة كبيرة من الشعب بالتصويت في الانتخابات لممثل النظام الساقط بعدما عانت الكثير أثناء الفترة الانتقالية من فوضى وانعدام الأمن والصعوبات المعيشية المدبرة والمنظمة.
لهذا على الشعوب أن تكون متيقظة دائماً لمثل هذه السياسات الرسمية المفضوحة، خاصة أن وسائل الإعلام الحكومية أثناء الثورات تعمل على تصوير الحرية التي يطالب بها الشعب على أنها مجرد أعمال بلطجة وخطف وسرقات واعتداءات على الممتلكات العامة، بينما في الحقيقة تكون العصابات الحاكمة وراءها. فعندما تنتشر الفوضى والسرقات والخطف وترويع المدنيين وقت الثورات فاعلم أن عصابات الدولة مسؤولة عن ذلك كي تعيد الشعب إلى زريبة الطاغية. وعندما تكثر أعمال البلطجة فاعلم أن وراءها رعاية رسمية لابتزاز الشعب مقابل إعادة الأمن إليه. لهذا تتوقف الشرطة عن حفظ الأمن والنظام لتقمع الثوار، وبذلك تصطاد عصفورين بحجر واحد، أولاً تترك البلاد عرضة للفوضى كي تتحسر الشعوب على الأمن، وتطلب العودة إلى الوضع السابق، وثانياً تشارك الحكومات في مقارعة خصومها الثائرين.
هل لاحظتم أن الدول تعطي الأوامر للشرطة في وقت الثورات كي تختفي، ولا تحقق الأمن كي يعتقد الشعب أن الثورة تجلب الفوضى، وبالتالي يكفر بها؟ مع العلم أن الثورات لا تنشر الفوضى أبداً. الذي ينشر الفوضى هو الذي يريد إفشال الثورات. بعبارة أخرى: "دمّر، خرّب، انشر الرعب، هجّر الناس، واجعل السلاح بمتناول الجميع، وسيأتي الشعب راكعاً لتنقذه"، فعندما يفقد الإنسان أمنه يصبح مستعداً للقبول حتى بالشيطان حاكماً طالما أنه يؤمن له الأمن. وهذا ما يفعله الطواغيت وقت الثورات، حيث ينشرون الرعب بين الناس كي يتخلوا عن مطالبهم بالتغيير والقبول بالأمر الواقع الذي يضمن لهم أمنهم. دائماً فتش عن أيدي العقول الشريرة للدول عندما ينتشر الخوف والهلع بين الناس. لعبة قديمة لكنها مازالت ناجعة، خاصة أن الإنسان مستعد للتخلي عن الطعام مقابل الأمن. وهذه الخطة تذكرنا بفيلم "V.4.Vendetta"، "وتسمى سياسة نشر الخوف، وهي ناجحة جداً، وتقوم على تجنيد مجموعات ضخمة تمارس البلطجة ضد الحكومة والشعب معاً".
بعبارة أخرى، عندما تشعر الحكومات في العالم بخطر شديد تبدأ بتضخيم التدهور الأمني، فتملأ وسائل إعلامها بأخبار مخيفة عن التجاوزات والأحداث الرهيبة والاعتداءات على أمن الناس. والهدف من هذا التضخيم واضح للعيان، كي تأخذ الدولة وأجهزتها كامل الحرية في القمع والقتل، وكي تبرر تجاوزاتها هي بحق الشعوب، وكي ترسل رسالة للناس مفادها: إذا لم تساندوني، وتلتفوا حولي فمستقبلكم على كف عفريت. لعبة مكشوفة لكنها تنطلي على البعض.
ولإجبار الناس على القبول بالأمر الواقع الذي كان سائداً قبل الثورات، تنتشر جماعات الخطف المنظم على نطاق واسع، فتقوم باختطاف العديد من الأشخاص، ولا تطلق سراحهم إلا بعد الحصول على فدية كبيرة بالملايين أحياناً. وقد انطلت هذه الخدعة الرسمية على بعض المغفلين، خاصة أن السلطات تبدأ بالمقارنة في وسائل إعلامها بين جماعات الخطف وأجهزة الأمن والشرطة الرسمية "المحترمة". وقد راح البعض يقول مثلاً: "ما أحلى أجهزة المخابرات مقارنة بالخاطفين، فعلى الأقل عندما تعتقل الأجهزة شخصاً يعرف أهله أنه حي يرزق في سجن معين، ويمكن أن يخرج يوماً، أما الذي اختطفته جماعات بلطجية، فلا أحد يعرف أين هو، وفيما إذا سيخرج سالماً، وبأي ثمن". مثل هذا الكلام مبرمج ومدروس وتقف وراءه السلطات تحديداً، خاصة أنها هي من يدير جماعات الخطف والبلطجية.
ومن الأشياء التي تلجأ إليها السلطات وقت الثورات أيضاً هو سحب السلع الرئيسية من الأسواق وخلق أزمة تموينية في المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية، مثل بعض الأطعمة والوقود وغيره، بحيث يبحث الناس ليل نهار عن وقود التدفئة أو السيارات ولا يجدونه، وقد يضطرون أحياناً لدفع مبالغ مضاعفة مرات ومرات للحصول عليه. وعندما يجد الناس أنهم باتوا يفتقرون إلى أبسط مستلزمات العيش، يبدأون بالترحم على النظام القديم الذي، كان على الأقل، يوفر لهم أساسيات الحياة والأمن.
إذن السياسة المتبعة من قبل الدول عندما تثور عليها الشعوب هو العمل على تفاقم الأوضاع، بحيث يبدو الوضع الجديد مقارنة بالقديم مثل الفرق بين الرمضاء والنار. وهذا يذكرنا بقصة ذلك الشخص الذي كان يعيش مع أولاده التسعة وزوجته وحماته وأمه في بيت مُؤجّر مؤلّف من غرفة واحدة. وكان دائماً يتذمّر من عيشته التعسة، فجاءه صاحب البيت، ذات يوم، وطلب منه أن يربي له دجاجتين وديكاً في نفس المنزل الصغير مع العائلة، فثارت ثائرة المسكين، لكنه اضطر إلى الرضوخ إلى طلب صاحب المنزل، كيلا يطرده. وراحت العائلة تعاني من إزعاج الديك ووسخ الدجاجتين. وكي يزيد الطين بلة، عاد صاحب البيت بعد فترة، وطلب من المستأجر أن يربّي له عنزة في الغرفة ذاتها، فصارت الدجاجتان تلوثان الفراش بالأوساخ، وأصبح الديك يقاتل العنزة، بينما تثغو الأخيرة ليل نهار. ومما زاد في الطنبور نغماً أنَّ صاحب البيت أمر المستأجر المسكين، لاحقاً، بأن يربي له عجلاً، فزادت محنته معاناة وألماً. لكن صاحب المنزل المتغطرس حنَّ على المستأجر بعد طول معاناة وانتظار، فخلصه من الديك والدجاجتين والعنزة والعجل. فطار المستأجر من الفرح، وراح يحدث أصدقاءه عن بيته الفسيح المريح قائلاً:"من يوم ما راحوا هالحيوانات الملاعين، وإحنا عايشين مبسوطين مبحبحين"، مع العلم بأنَّ البيت بقي على حاله طبعاً.
وهكذا حكاية الشعوب الثائرة، فما أن ثارت حتى أقدم المتحكمون برقابها على إجراءات أكثر مأساوية وبطشاً وتنكيلاً، فلهج لسان الشعوب فوراً بالبيت الشهير:"رُبّ يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه".
إياكم أن تقعوا في هذا الفخ القذر. إنها لعبة الطواغيت المكشوفة، فاحبطوها إذا أردتم لثوراتكم أن تنجح وتحقق مرادها!!