أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
مأساة سيدة كانت جميلة..!!

بقلم : سهيل كيوان  ... 14.06.2012

مرض خطير وقعت فيه سيدة كانت جميلة في يوم ما، كانت الأبرز بين زميلاتها وبنات صفها وحارتها، إلى جانب صفاء وجهها امتازت بطول شعرها الفاحم الذي تقافز على ظهرها وردفيها، كان الجميع يتمنى ودّها، الفتيات يحسدنها والشبان يحسدون من حظي بالتفاتة كريمة منها، كانت سببًا للغيرة والخلافات وحتى الطوشات، وادعى كثيرون عشقها، وكان بمقدورها أن تتلاعب بالعواطف، فهذا تمنحه الأمل، وذاك تشطبه، وهذا تدخله إلى ملكوتها، وآخر تطرده شر طردة، هذا تغني لياليه بوعودها وذاك تفقره وتشقيه.
هذه السيدة ترفض الآن الاعتراف وبشراسة أن عمرها تجاوز النصف قرن، بل وأصيبت بلوثة عقلية فصارت تزعم أنها الآن فقط بلغت السابعة والعشرين، وإمعانا في الوهم أقامت لهذا الغرض حفل عيد ميلاد لها.
بدأت القصة كمزحة ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى أمر جدي وخطير، فصارت تغتاظ عندما يحاول أحدهم إعادتها إلى رشدها ويخبرها بحقيقة كونها تجاوزت الخمسين، 'أنا في السابعة والعشرين وإذا كنت تعتقد أنني تجاوزت الخمسين فلا تتكلم معي أبدا'!
ولكنك جميلة بالنسبة لسنك فلكل سن جماله، بل إن كثيرات في الخامسة والثلاثين يتمنين أن يكون لهن حسن وصفاء وجهك'!حينئذ تثور بشراسة ترعب من قبالتها وتصرخ 'قلت لك أنا في السابعة والعشرين ألا تفهم'!
ليس هذا فقط، فهي تريد لكل من يراها أن يقتنع ويعترف أنها ما زالت في تلك السن التي بلغتها في الواقع ابنتها البكر!
فجأة اكتشفت أنها تعاني من السمنة المفرطة وأن ضغطها مرتفع وهناك عدم انتظام في خفقان قلبها، وأن عليها من الشحم واللحم الزائد ما يعادل وزنها يوم كانت في الثانوية، ولهذا حكمت على نفسها بعملية تخسيس فظيعة جـــدا، بل أستــــطيع وصــــفها بأنها وحشية، وقد نجحت بإذابة طبقـــــات من الدهون والشحوم واللحوم التي تراكمت عبر عقودها الخمسة، ولكنها بعد هذه العملية القاسية أضاعت حيويتها بل سعادتها وابتسامتها وروحها التي كانت تميزها، فقدت نضارتها وترهل جلدها حتى صار مثل عباءة فضفاضة ملقاة بإهمال فوق جسدها وحينئذ فقدت رشدها!
لو كانت معروفة ببشاعتها منذ البداية مثل كثيرات غير محظوظات لكان الأمر أسهل بكثير ويمكن التسليم به، لكن المصيبة أنها ترفض التسليم بطبيعة الحياة وسنتها وبأنه لا شيء يخبئ أوانه، وأن بقاء الحال من المحال، وأن لكل دولة نساءها وليس رجالها فقط، وكل حقبة زمنية لها جميلاتها ومحبوباتها ومعبوداتها، ومن عاند قال له المثل الشعبي'تريد أن تأكل دورك ودور غيرك'! ولكنها مصرّة على الإنكار وعلى أن تأكل دورها ودور غيرها، وتعتقد أن بإمكانها منافسة بنات ونساء في العشرينات من أعمارهن، والغريب أنها عاشت الدور جيدًا وصدّقت نفسها، والأغرب من هذا أنه بات من الصعب إعادتها إلى رشدها، ولكن ماذا تفعل بأبنائها الذين كبروا وصاروا على أعتاب الزواج، فهي ما زالت تدعي أنهم أطفال توصلهم إلى المدرسة الابتدائية كل صباح وتدرّسهم بعد العصر، وتقتني لهم الألعاب الطفولية، وتسهر على راحتهم فتستيقظ ليلا كي تغطيهم وتطمئن على نومهم!'غابت هذه السيدة في عالم افتراضي، ولهذا الغرض كتبت تاريخًا مزيفًا ليوم وسنة ميلادها على صفحاتها في الشبكات الاجتماعية، وأقامت لها صداقات مع المئات الذين لم يكونوا يعرفونها أصلا ولهذا باتوا قانعين بكذبتها فهنأها العشرات منهم في يوم ميلادها 'السابع والعشرين'بأجمل التهاني والتبريكات وبإرسال باقات الزهور الألكترونية، فأصدقاؤها الافتراضيون من كل بقاع الوطن العربي لا يعرفون شيئًا عنها سوى أنها فائقة الجمال، وقد أعجبني ذكاؤها جدا في لعب الدور الذي كلفت نفسها به، فقد وضعت صورًا قديمة منذ عقدين وأكثر، وصورًا لأطفال افتراضيين يحملون على ظهورهم حقائب مدرسية ادعت أنهم أبناؤها، واخترعت لها زوجًا في الثانية والثلاثين يحاورها بين حين وآخر وتحاوره عبرالصفحات الألكترونية 'إلى زوجي الغالي بمناسبة بلوغه الثانية والثلاثين'ألف مبروك حبيبي'.
كانت كلما شعرت بخطر اكتشاف أمرها أضافت إلى عالمها الإفتراضي شخصية أخرى أو حدثا افتراضيا جديدا، مثل شقيق أصغر نجح في امتحان التوجيهي، وعمة وصلت للتو من أمريكا في ضيافة ذويها، وصور من زمنها الجميل، فأيقن كل من رأى صورها وما تدوّنه أنها بالفعل في السابعة والعشرين، وأنها ما زالت في خفة الغزال ورشاقته، وشعرها ما زال فاحمًا كقطعة من الليل ينطنط على ظهرها وردفيها، والويل لك إذا أشرت لها بأنك تعرف أن شعرها مصبوغ، وأنك تعرف بأن ابنتها البكر مخطوبة وهي على وشك الزواج، وأن زوجها في السادسة والخمسين، وهو ليس مديرًا في شركة بل هو موظف بسيط في البلدية، وأن أقرباءها الذين تتحدث عنهم لا وجود لهم أصلا إلا في خيالها، وأن جمالها بهت وذبل ولم يعد هناك من يطاردها ويتحرش بها إلا كهل أو مسنّ هذا إذا وجد أصلا، وأن الذين كانوا يطاردونها ويلاحقونها كي يحظوا بقبولها أصبح جزء كبير منهم في عالم الغيب، وهاجر كثيرون منهم، وبعضهم لن يتعرف عليها لو رآها الآن، ومن يتعرف عليها سوف يتساءل بدهشة 'أهذه هي التي كنا نتمنى في يوم من الأيام ابتسامة أو كلمة منها'!
كنت أحاول بين فترة وأخرى ومن باب عمل الخير إعادتها إلى صوابها وإقناعها بأن لكل سن جماله وليس عليها سوى الاعتراف وملاءمة لباسها ومظهرها وتصرفاتها مع سنها، حينئذ ستشعر بسعادة بل وبإمكانها الإحساس بجمالها إذا ما قارنت نفسها بمن هم في مثل سنها أو قريبات منه!إلا أنها مضت في غيها حتى ضُرب عقلها تماما، فزهد بها زوجها وصارت عينه تلعب خارج البيت والأسرة وهذا زاد من اكتئابها وجنونها.
حال هذه السيدة مثل حال بعض جماعة في عالم السياسة والحكم، بدلا من الاعتراف بالواقع المتغير لجأوا إلى الحيلة والكذب على أنفسهم وعلى الجمهور حتى أصيبوا بالجنون، فبنوا عوالم افتراضية يعيشون فيها ويصدّقونها وينكرون واقعهم الجديد، ويوهمون أنفسهم بأنهم ما زالوا محبوبي الجماهير، ويحاول بعضهم الاعتماد على صوره أو بعض إنجازاته القليلة من الماضي البعيد، هؤلاء المرضى يعتقدون أن الجمال حكرٌ عليهم والحب لا يكون إلا لهم وأن السلطان والحكم لا يمكن أن يكون إلا من نصيبهم، وأن الدنيا ستخرب من دونهم، وكي يرضوا عنك يجب أن تواصل الكذب على نفسك وعليهم وتصرخ ليلا نهارًا بأنهم هم الأجمل والأفضل في كل زمان، وأن سن اليأس لن تدركهم أبدًا لا في الحاضر ولا في المستقبل، وإذا تجرأت على مصارحتهم بحقيقة أمرهم تنقلب فورًا إلى عدو مبين حاقد ومتآمر يجب القضاء عليه بأي طريقة كانت وبأسرع ما يمكن..