أحدث الأخبار
الأحد 29 كانون أول/ديسمبر 2024
المال السائب يُعلّم السرقة!!

بقلم : رشاد أبو شاور ... 13.06.2012

ينطبق هذا المثل على كل حالة فساد، ولكننا نعرف بالخبرة أنه ما وجد فاسد إلاّ وله مُفسد، وله شركاء في الفساد، وأن في مقدمة أسباب الفساد: التسيّب!
والتسيّب نقيض للضبط والربط، للثواب والعقاب.
المؤمنون يخشون العقاب في الآخرة، حيث يقفون أمام الله، وغير المؤمنين يخشون العقاب في الدنيا، والوقوف أمام القضاء، ومع ذلك فهناك من يتملصون، ويتهربون، ويضللون، دون الاهتمام بحساب عقاب الآخرة الإلهي، أو عقاب الدنيا الوضعي البشري.
في الثورات يحكم بقانون ثوري عادل وإنساني وأخلاقي صارم، حيث يؤسس للقانون الذي سينظّم مجتمع العدالة القادم الموعود الذي تبشّر به الثورة، والذي يضحي الثوار بحياتهم في سبيل بلوغه..فهم يموتون حتى يتحرر الوطن، وترفل الأجيال القادمة بأثواب العز والكرامة والمساواة.
من أوّل الدروس التي تلقيناها في العمل التنظيمي، أن التنظيم في شكله، وعلاقات أفراده، والقيم التي تسوده، يمثل صورة المجتمع الذي ستبنيه الثورة حين انتصارها.
إذا ساد الفساد في التنظيم، فلن يقود هذا إلاّ إلى تفككه، واندثاره..أو (خيانته) للمبادئ التي بشّر بها، وهذا ما حدث في كثير من ثورات التحرر الوطني في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، والفساد بدا دائما من الرأس..والمثل يقول: تفسد السمكة من رأسها..من رأسها لا من ذيلها، والخبراء بشراء السمك يشمون السمكة من رأسها ليقرروا إن كانت طازجة، أم عفنة فاسدة!
الرأس قد يكون فردا، أوعدّة أفراد ـ قيادة فاسدة ـ وفي عالمنا (الثالث)، كما كان يصنف قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، في البلدان المتخلفة، التي لا تقودها ثوراتها قوى ثورية جذرية، تسود الرخاوة، والانتهازية، وتختلط القيم والمفاهيم، ويكون الميل للمساومة غالبا رغم بلاغة الشعارات وراديكاليتيها خاصة في البدايات، وهو ما يفسح المجال للانتهازيين، والمارقين، والمساومين، وأصحاب النفس القصير، وسريعي التعب، ومفتقدي الاستعداد للتضحية، والذين يرهنون مصائر الشعوب بأعمارهم الشخصية، وهو ما يجعل مصير الثورة رهنا بتقديراتهم ومصالحهم و..النهايات (السعيدة) من وجهة نطرهم، فيفاوضون، ويخسّرون الثورة، والشعب، والوطن!
الأحزاب الثورية، والقوى الثورية، والثورات..تعيد النظر في مسيرتها، تنتقد، تعيد البناء، تنتبه بحدة للسلبيات، لبوادر الانتهازية، للفساد الفكري، والسلوكي، والأخلاقي ـ والثورة لمن نسي: أخلاق ـ فإن افتقدت المراجعة والمرجعية سادت الفردية، وتفشت أمراضها التي تجر الخراب..والكوارث، والنهايات التعيسة!
منذ خروجنا من بيروت عام 1982 وحتى يومنا هذا، مررنا بمحن، وتهنا في الطرق، واقتتل بعضنا مع بعضنا، وتفككت منظمة التحرير، وخسرنا بأوسلو خسائر لا تحصى، ثمّ بالاقتتال والاحتراب في غزة، وانشقاق الصفوف في السباق على الهيمنة، ثمّ ها نحن نسمع عن (مسلسل) المصالحة الممل، واللقاءات البائسة التي ما عادت تحظى سوى بسخرية شعبنا، و..لا شيء سوى ضياع الأرض، ومتاهة القضية، وتسول الدعم المادي الذي هو قطرات ماء في فم مريض ليس هذا علاجه!
لا فصائل اليسار، ولا فصائل اليمين، راجعت مسيرتها، وأعادت النظر في رحلتها المديدة طيلة عقود من التراجع..فكلها على صواب..وكلها (مُصيبة)!
من جديد تفجرت (موضوعة) خالد سلام الذي كان يوصف بأنه (المستشار) الاقتصادي للقائد ياسر عرفات..وبلغ الأمر أن طلبت السلطة تسلمه بواسطة الإنتربول، و..قرأت أن الإنتربول رفض ملاحقته وتسليمه لأن السلطة ليست دولة، فكان أن أصدرت محكمة الفساد في السلطة حكمها غيابيا: 15 عاما مع الأشغال الشاقة و..غرامة 15 مليون دولاراً!
لا أريد أن أشكك في نزاهة المحكمة التي لم أسمع أنها حاكمت أحد الفاسدين من قبل، والتي لا أعرف إن كانت محكمة (دولة)، أم (سلطة) تحت الاحتلال..أم ( ثورة)، ولكنني أتساءل: لماذا الآن تمّ التفطن لموضوع خالد سلام، والذي علمت منذ سنين أنه سوّى وضعه مع ( السلطة) وتنازل عن مبلغ بمئات الملايين..وحصل على براءة ذمّة!
وأتساءل كأي فلسطيني منكوب: من يؤكد لنا نحن الفلسطينيين أن خالد سلام قد أعاد (كل) مال الشعب الفلسطيني، مال (الثورة) ..مال الأيتام، والأرامل، والأسرى، والشهداء؟!
في العام 2002 كتبت عن موضوع خالد سلام، ولم أحمله المسؤولية الأولى عن تبديد وضياع المال الفلسطيني، ولكنني طرحت بوضوح أن من يتحمل هذه المسئولية هو أولا الرئيس عرفات الذي طالما تصرّف بالمال وحيدا، دون مشاركة، فلا لجنة تراقب وتتابع وتحاسب وتعاقب، ولكنه وحده من يعرف كل شيء عن المال، وكأنه سيعيش خالدا مخلدا!
أمّا من يتحملون المسئولية بعده مباشرة فهم قادة فتح (اللجنة المركزية) تحديدا، وأعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئاسة المجلس الوطني الفلسطيني، وأعضاء المجلس الوطني، وقادة المنظمات الشعبية، فكل هؤلاء صمتوا صمت القبور، وارتضوا بما قسمه عرفات لهم، وخشوا غضبه، وعقابه لهم، وتنحيتهم عن مواقعهم!
كتبت عن الموضوع وعرفات حي يرزق، وكان في المقاطعة، ورغم حصاره كان قادرا على الرد والتوضيح ولكنه لم يفعل.
كتبت متسائلاً عن (سر) ثقة عرفات بخالد سلام، وتحكيمه بالمال الفلسطيني!
المقال طويل، وفيه معلومات لا أريد أن أكررها، ولكنني أذكّر بأن (موضوع) خالد سلام برز بعد أن حوصر الرئيس عرفات، ومع سفور طموحات أحد رؤساء الأجهزة الأمنية لإزاحة عرفات، واحتلال موقع رئيس وقائد الشعب الفلسطيني مكانه بحجة أنه (ختير)، وأنه من جيل شاخ..وأن أوان الشباب قد حان، و..بمباركة أمريكية، ورضى (إسرائيلي)، ودعم من دول عربية تتقدمها مصر مبارك!
لست أذيع سرا إذا ما ذكرت بمانشيت عن إغلاق خالد سلام، وكان في القاهرة، للهاتف في وجه عرفات..الذي استنجد بالصديق والزميل عبد الباري عطوان مستغيثا: الحقني يا اخويا..ده سكر التلفون في وشي ..والفلوس معاه!
'القدس العربي' موجودة، ومانشيتها يكشف للقراء ماجرى، وعرفات رحل..والمال ضاع، ومن جاءوا بعده لم يكشفوا الحقيقة لا لأعضاء اللجنة التنفيذية، ولا للمجلس الوطني المغيّب، ولا للشعب الفلسطيني!
خالد سلام الذي وفد إلى الفاكهاني فقيرا جدا، مثل حالنا جميعا..وأكثر، صار رجل أعمال مشاريعه تمتد من كردستان إلى النمسا إلى أمكنة أُخرى، ومن الحق والواجب أن يوجه السؤال له، ولغيره: من أين لك هذا؟!
ما هو دور رجل أمن فلسطيني بعينه في تشجيع خالد سلام على إغلاق الهاتف في وجه عرفات، والاحتفاظ لأسرار مال (الثورة) الفلسطينية؟!
هل فكر ذلك الشخص الأمني بأن وضع اليد على المال يضعف عرفات المحاصر، ويعجّل في نهايته، ويسهل مرور انقلابه، فالأمن معه والمال معه؟!
لماذا لم يطرح اسم ذلك الشخص..وغيره في موضوع خالد سلام؟ وهل يجوز التعريض بخالد سلام فقط لأنه عراقي كردي؟ ألا يوجد فلسطينيون شديدو الفساد..رائحتهم تزكم الأنوف، ومع ذلك مازالوا يتشدقون بالكلام الثوري؟!
المحاكمة الثورية تكون شاملة، ومعلنة، ولا تنتقي، وتكشف للشعب الفلسطيني كل من نهبوا وبددوا ماله..فهل هذا هو ما يحدث؟!
ألا تلاحظون أن الموضوع يعالج من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، و(أطره) التي يفترض أن تكون فاعلة..وهي غير فاعلة، وهذا هو سّر الفساد..فغياب المؤسسات، وتسيّد الفرد..أخذنا إلى النهايات التي لا تسر صديقا..وفقط تفرح قلوب الأعداء.