أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
اطواق _ الجزء 4

بقلم : نبال شمس ... 6.6.07

انظري إلي أني ما زلت أعلو, انه علو سحري يا دانا, لكنه علو كاذب. سحرني وسحر أمي المتعبة. سحر من حولي وصدمهم بأناي الكاذبة . علو سحري ودائرة سحريه أنا بها وحدي, أصارع دورانها وحدي, لا أرى سوى محيطها وفراغها وعتمتها, طوقت جسدي وجعلتني لا أرى سواها, حتى صرخاتي أشعرها مطوقه. الأحرف تموت رويدا رويدا في حلقي, أغاني الطفولة تتناثر مع الهواء. البيت والشجرة والزهرة وكراسة ألواني لم أعد أجيد استعمالها, ما أميزه فقط صوت أمي وعيونها الزيتية المتسعة.
أصرخ وأصرخ ولا أدرك أني أصرخ, فهل أحدثك عن الدائرة أكثر يا دانا, الدائرة بفراغها الأسود, وعيون المارة الساخرة وصوت الأطفال ينادونني ب "الأخوث" . الدائرة ذات القطر الحاد الذي التف حول عنقي يحاول خنقي كل لحظة وخنق بسماتي وضحكاتي الطفولية؟ ذلك القطر الذي جعلني أدرك أن الحياة لا تكتمل دون تواصل مع الآخرين. ذلك القطر الذي جعلني أسير باتجاه شاذ وعكسي عن بني جنسي.
هل رأيت عيون الأطفال حوالي, وأيديهم وسخريتهم ولكماتهم لي؟ ماذا أقص عليك يا روح الروح؟أي ألم أرويه لك وأي ألم أنثره على صفحاتي؟ أكتب لك يا دانا بدمعي وحزني. عيونهم دمرتني وأعادت وجودي, فكم أنا إنسان ضعيف يا دانا, أنظري إلى أمي كيف تبكي من أجلي, أنظري لأناملها الصغيرة كيف ترتعد غضبا من العالم.
متعب يا دانا متعب يا صديقتي التي لم تفهمني. متعب يا دانا والأطواق حطمتني.
آه من عيون الأطفال وأيدي الأطفال.آه يا دانا من ألم حط على قلبي ونور اسود طوقني, فأية تجربة صعبة أمر بها مع هؤلاء الذين عرّفوني كم أنا منبوذ ومحتقر.
اشعر الآن بأصابعهم على ظهري وضرباتهم الثقيلة, أشعر بهم يا دانا ولا احد ينهرهم عني أو يقول "حرام". أشعر بهم بعد مضي عقدين ونصف العقد من عمري, أحملهم في داخلي, ما زلت أجر الألم من سنة إلى سنة, فماذا سيحتمل قلبي؟
مكان حقير جدا,ليس طوقا عاديا كباقي الأطواق بل بالنسبة لي مذبحا وجحيما, هُدر به دمي وقُتلت به إنسانيتي, ذلك المكان الذي كان عبارة عن غرفة جمعت ثلاثين طفلا وطفلة وجمعتني معهم داخل حلقة دمرتني.
هذا أعنف الأطواق التي طوقتني, فانظري إلى الأصابع تلاحقني وتلتف حولي, الأصابع الناعمة والأفواه المفتوحة, وأنا مدمر من داخلي, أصارع موتا حقيقيا ومرضا ليس له شفاء.
أصابع سرقت الورد الذابل من جانبي, سرقت ألوان الربيع وألوان الطيف والتفت حولي لتقتلني. أصابع ما زالت مطبوعة على جدران غرفتي وفي زوايا قلبي.
أطواق, أصابع, عيون, دوائر ولاشيء حولي, بل أن الأشياء في داخلي تكبر وتكبر كحقل شوك, فكم أنا مخنوق يا دانا, مخنوق ابحث عن الهواء والهواء يلف جسدي.
هذه الدائرة يا دانا ما زلت أسحبها معي منذ عقدين ونصف. ما زلت أحمل ذكراها في قلبي وشظاياها ما زالت فيَّ . فأنا مخلوق مصنوع من ألم ومولود من شوك, ولدت في النور وما زلت أبحث عن النور, وما أصعب البحث عن النور داخل النور, وما أصعب البحث عن الروح والروح معي, كمن يبحث عن الحياة في بنايات المقابر.
هذه الدائرة عرّفتني قدر ذاتي, عرّفتني مدى ثقلي في هذا الزمان, فأنا وجدت لأكون لا موجودا في كل الأمكنة, سوى مكان واحد هو حضن أمي, فأمي عاشت معي كل الأطواق طوقا طوقا, عاشت معاناتي وقسوة الطبيعة عليها أن تكون أما لطفل متوحد... طفل لا يعرف الاتصال بأحد... لا بلغة كلام ولا بلغة عيون. أمي عاشت الصدمة وعانتها وتقبلتها لأنها فقط أمي وأنا قطعة منها ومن رحمها. سامحيني يا أمي , سامحيني يا روحا تحلّق فوقي, فأنا لا أعرف كيف أمسح لك دموعك, سامحيني يا دانا الحب على ما قصصته عليك, رغم أنك تعانين ما أعانيه.
يا أنت ... يا أنا
يا روحا تسكننا لا نريدها ، ويا نفسا لا نريده .
لا تدعي عيونك ترحل, رافقيني ورافقي كلماتي, اقرأيها بأية لغة تريدين,افهميها كيفما شئت, هناك ستجدين عيونك الحائمة حولي, وجسدك الأبيض الجميل قطعة مذابة بين الحروف, ستجدين المتوحد ينسج أطواقا ودوائر من نور ونار, كأطواقك المنسوجة من دموع وصرخات.
تعالي يا دانا ولملمي أشلائي من مركز هذا الطوق. لملميها حبيبتي واكتبي بها : ذهب للطابق السابع يبحث عن روح أخرى أحب أن تكون بداخله.
تعالي يا دانا واعبري معي الدرج, هناك ينتظرنا الملاك ووجوه أخرى . سنصل سوية لحلقة أخرى كبيرة جوفاء ... حلقة فارغة مبنية من فراغ, والعالم كله فارغ من فراغ, فهل تقمصتِ الفراغ يوما يا دانا؟ هل عشتِ به أو كتبتِ له؟
فراغ ليس فارغا يا دانا, فراغ له حدود وأسوار عالية , فهل تتخيلين الفراغ المبني من ضوء عتمة؟ضوء عتمة قيد نفسي وطوق لساني.
ضوء عتمة
حط على جسدي
روحي مدفونة
في قارورة هواء
ليس لها لون ولا انعكاس
تموت البسمة
فوق شفاهنا
تدفن بحفرة الرياح
رويدك موتي
فكلماتي لم تخرج بعد
أحبك موتي
زنبقة في أرض العهر
سرد جميل أنت
وطن سرمدي
بلا وطن
أكرهك موتي
أنت تطفو بقاع الطهر
تنير عتمة بفتيلة مغموسة
بزيت الماء
حنانك
أطواقي نارية
تنبت فيها الزنابق
وأنت ستأتي ضمّة جوري
بين راحتي دانا
احبك
أكرهك
فدوائر نار أنت
هذا الطوق جمع أطواقي الماضية والحاضرة, انه العالم يا دانا,العالم الكبير الذي أشعربه ضيقا جدا ومحدود جدا, بشموعه وأعياده وأحزانه وأفراحه. هذا العالم الذي حاولت الهرب في أمكنته والترحال في أزمنته, دون أن أفهم ما معنى المكان أو ما معنى الزمان. في هذا الطوق اكتملتُ جسديا وأكتمل شبابي . وُلدت فلسفتي القاسية والناقمة فأين سأهرب داخل الأطواق ؟ فأنا إنسان موجود ولست موجودا, هنا يا دانا بدأت بالتعالي عن ألمي وحرفي وعدم وجودي . بدأت أفهم ماهية مرضي وقسوة من حولي عليَّ. هذا الطوق هو مدى مفتوح, فهل سمعت عن مدى مفتوح لآخر المدى؟
في هذا الطوق اكتمل توحدي مع ذاتي ونفسي, رأيت الشمس في دوائرك والقمر في أطواقك.تحمّلي عبوري يا دانا, تحملّي عبوري للعالم الآخر. تحملي وحدتي وعتمتي. تعالي إلي لنرسم العالم الآخر في عوالم دواخلنا وفي عيوننا التي لم ترَ إلا ّ البؤس . فيا ليتني حملت ذكريات ٍ جميلة ً لقصصتها عليك يا حبيبتي. قلبي ليس مخلوقا ً لحمل الذكريات الجميلة والمشي في الجبال بحثا عن أزهار الربيع والشتاء. جسدي ليس مكونا ليركض بين أجساد الأطفال تحت عرائش العنب وأشجار الزيتون . تكويني هو تكوين فريد.
هل تذكرين عزيزتي عندما كنت أخطف ألعابك وألوانك ؟ كنت تبكين بصمت حتى يأتي شخص آخر ويعيدها لك . كم كنت أريد أن أعيد لك أشياءك . كم أردت أن ألعب معك وأرسم معك, لكني محدود يا جميلتي, فتعاملي معك هو دائرة امشي بها باتجاه مقلوب ودوران عكسي كما مع كل الناس.
دائرة العالم كبيرة جدا يا دانا وأنا ضائع بها دون أمي, ضائع بها وأنا في غرفتي المبعثرة وغير المرتبة . كم أنا إنسان مبعثر من الداخل, إنسان يهوى التقمصات ولا يجيدها ولا يملكها . فأنا كمن يحارب الهواء في هذا الكون ، فهل تعلمين مدى طموحي للوجه الآخر وأن أكون إنسانا عاديا.
أريد المشي في الحدائق العامة وعلى أرصفة الطرقات, وعلى شواطئ البحار. أريد الذهاب إلى المطاعم وحدي وشراء حاجياتي بنفسي. أريد أن استنشق رائحة أخرى للأزهار ورائحة أخرى للبحر والشوارع والنهارات والليالي والفصول . فهل تعلمين يا دانا أن كل هذه الأشياء تساوي لا شيء, ومحاولاتي أيضا لا شيء, عبث أن أرى في عين أخرى, فهل تدرين أني جمعت العالم كله هنا في غرفتي, هل تعلمين أن قلمي كدوائرك المتعددة الأشكال والأحجام والوحيدة الألوان.
هل أبقى في هذا العالم الموحش, أصارع تقمص الأشياء وأفشل في كل محاولاتي؟ هل أبقى أصارع عتمة غرفتي دون نور داخلي يضيء ولو حرفا واحدا من كتاباتي؟ هل أحدثك عن النور يا دانا ومدى رغبتي وحنيني إلى النور؟ ليس نور العالم ولا نور الشمس., بل نور نفسي رغم أني أبحث عن نفس أخرى, إلا أني اشعر أن َّ ثمة قطعة نور تستوطن داخلي . قطعة نور بيضاء اكتسحها الطهر بعد مرورها تحت وطأة الخيانات. قطعة نور تقمصت من الطبيعة لون النرجس ورائحة الليمون . هذه البقعة يا دانا هي أناي الوحيد البعيد عن العالم, لم تصلها أصابع احد. قطعة نور استطاعت أن تختبئ داخل داخلي, لكن ليس لي القدرات أن أجعل هذه البقعة تكبر في داخلي, فأخاف أن تُلوث أو تُسرق مني. هذه البقعة هي إيماني بطهري وعدم مقدرتي العيش كما يعيش الآخرون . هذه البقعة دفعتني للبحث عن روحي الأخرى والصعود للطابق السابع وعبور الأطواق. هذه البقعة هي إرادتي القوية والضعيفة لأتمرد على أناي الذي حطمته البشرية وأدمته الأشواك وحطمته الأطواق, لكنها بقعة صغيرة غير قادرة على نثر بياضها في جميع أنحائي . صغيرة وغير مرئية لكنها موجودة يا دانا, موجودة في باطني وما أقسى ما يدور في باطني.
أنا إنسان متخبّط يا دانا, إنسان يبحث عن النور والنور يسكنه عميقا, ذلك النور اختاروا أن لا يروه فيَّ, اختاروا أن يروا أشياء أخرى, ظاهرة لهم أكثر وأكثر فما حاجتهم إلى نوري وعالمهم مكون من نور ونار. الحلقات الفارغة علمتني البحث عن نوري الداخلي لأحبه واعبده علمتني إني إنسان طاهر برغم مرضي , فنفوسنا عفيفة يا دانا عفيفة من مدى الصراعات التي مررنا بها وتحملناها . صراعات ليست سهلة وأطواق كبيرة وصغيرة وخانقة ، أطواق العزلة وأعوام العزلة في دوائرنا وآلامنا ، فهل الطابق السابع أصبح قريبا؟ هل تسمعينني يا دانا أينما ذهبت وعيونك التي كانت معي؟
روح دانا هربت , لم تعد تحلق معي . هل عادت إلى دوائرها أم عادت للطابق السابع؟
هربت دانا وتركتني وحيدا, أصارع ألمي وحدي ، فيا حزني على دانا وعلى نفسي ... من وحدة إلى وحدة ومن ظلام إلى ظلام.
دانا الجمال تركتني وحدي بين الحلقات, عادت أو علت فلا أعرف. اختفت دانا واختفى الأمل فهل يا ترى أصبحت ذئبا من ذئابها ذوات الألوان السوداء والرمادية والألوان الحادة؟
دانا أعادتني إلى نفسي والى مليون سؤال, فها أعود مثلها إلى عزلتي, أم أتابع سيري إلى الطابق السابع؟ كيف سأعود للوراء وأعبر الأشواك والدوائر ثانية؟ كيف سألملم قطرات دمي من على الطرقات؟ كيف سأعود بعد أن أقسمت لنفسي إني عال ٍ ومتعال ٍ عن العالم؟ لكني أحب دانا وأعشق دانا, فهي حوريتي وحبيبتي وحياتي ومدفني وسريري, فهل ماتت وأنا لا افهم ماهية الموت.
لماذا يا دانا تركتيني وحدي؟ لماذا تزيدينني ألما؟ لماذا اخترت الرحيل, وكم أكره رحيلك يا وحيدتي ويا نوري ويا طوقي المفتوح المدى ؟ يا نوري الساطع الذي رافقني بعبوري من دائرة إلى أخرى.
أصبحت وحيدا وروح دانا بعيدة عني . لقد هربت روح دانا لعالم الفراشات ولعالم الربيع . فعالمي ليس فيه إزهار ٌ ولا تويجات بألوان الطيف.
أتذكر الآن صراعي في رحم أمي, صراعي مع نفسي ومع النور . وها إني الآن بعد مرور عقدين ونصف أعود لأصارع ذاتي وعزلتي ووحدتي وتوحدي فلا أرى سوى نور ساطع أعمى بصري وبصيرتي . أهي بقعة النور التي تسكنني؟ هل خرجت من داخلي وأعمتني ؟ لست أدري لأني ما زلت أشعربها عميقا في باطني.أشعربها تتخبط كما تخبطتُ أنا بين الأشواك. فأنا أدرك أن نفسي الحالية لن تحرر بقعة النور تلك.
اشعر أن نفسي تطوقني وتذبحني , تلتف حولي وتقتلني, فأية نفس هذه وأية روح هذه وأي نور وأي نار؟ انه صراع دامي بين النور الداخلي ونور العالم والنور يولد من نار فهل نوري الداخلي ولد من نار؟ أم أن المعاناة كونت نوري الداخلي ، ومن ألمي ولد نوري ومن النور ولدت كلماتي ومن روح دانا البعيدة ولدت أنا.
شعورٌ غريب وقاس ٍ. جسدي يلتف حول نفسي لا يريد أن يعتقها, فكم تحملت تلك النفس من مآس ٍ وصراعات وأطواق. نُبذت, استعبدت واحتقرت, لكنها صمدت شامخة وعاليه , ضعيفة وقويه, فهل ابقى أنا بعد ما عانيتُ وما صارعت ُ، أم أعود للبحث عن نفس أردتها؟ هل يا ترى هذا هو الطابق السابع بالنسبة لي ، وهو أن أصل إلى درجة التعالي عن الألم والمعاناة ، أن أصل إلى درجة العودة إلى ذاتي ومعرفة ماهية إعساري والاعتراف بنقصي؟ هل الطابق السابع هو إيماني بنفسي وقدراتي وإمكانياتي المحدودة؟ هي ليست درجة نبوة, بل أنها قريبة جدا إلى النبوة, فليس هناك روح ٌ أنبل من تلك الروح التي احتملت ما احتملته روحي وروح دانا وأرواح فصائلنا من الناقصين.
هل يحق لروحي البقاء؟
نعم يحق لها البقاء ، فهي روح نبيلة ونبلها نادر جدا . سأرسم ذلك النبل على بصمات الأصابع الساخرة مني.
سأرسم هذا النبل على الزهر وأقول هذا"أنا"
اقبلوني كما أنا
اقبلوا دانا كما هي
توقف قلمي . تبعثرت حروفي . دانا مرت أمامي بوشاحها الأبيض جارّة دائرة جديدة . نظرتٌ إليها . نظرت إلي . صمتنا وعدنا نرسم دوائرنا الجديدة.