أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
أطواق- الجزء 1

بقلم : نبال شمس ... 30.5.07

اليه: الذي ليس هو
ما سأرويه في نصي الطويل هذا هو صراع ثلاثي: نفسي ، جسدي والروح التي أبحث عنها وأحلم في ملكها. نفسي الساكنة بي، التي هي خاصتي وروح أحب تقمصها.
هل يعقل أن جسدي يعيش بين نفسين؟
هل يعقل أن جسدا يستطيع تقمص نفسين؟
هل يجوز أن تتلبس روح على روح؟
الكثير من الليالي التي مضت ، صرخت واستصرخت ، ناجيت الهواء والسماء وحيطان الغرفة. أردت التحرر من نفسي الخاصة بي والمضي إلى نفس أريدها. هو حلم ونص وأشياء مكبوتة في داخلي لكنها حقيقة، كلها حدثت معي وأنا هنا في نفس المكان. نصي هو عبارة عن رجوع إلى ذاتي عندما فهمت مرضي وفهمت حقيقة شفائه المستحيلة.
الجسد المتخبط على السرير والوجه الباكي يصارع الوسادة ، الألم والمعاناة وحرارة الدموع التي أذرفها مرارا في وحدتي وتوحدي.
" أن أتقمص نفسا لا أريدها, يعني أن أجلد مرات ومرات في صميمي"
ولادتي كانت في الطابق السابع, ساعات صعبة جدا روتها لي أمي, فقد تمزقت أحشاؤها أثناء عملية الولادة. هناك كان صراعي الأول, هل أخرج إلى عالم النور؟ تباطأت إلى درجة الموت, فعندما كانت أمي تدفعني إلى الخارج, كنت أتمسك في أغشية رحمها, أشد نفسي إلى الداخل, فلم أرد ترك ذلك الرحم. خفت النور . أردت أن أبقى ملتصقا بها وبجسدها, لكن رغم الصراعات الشديدة وعملية الولادة المتعسرة دفعتني الطبيعة إلى عالم النور, النور الساطع الذي فتحت عيوني عليه. الطبيعة دفعتني إلى روح غريبة شعرت بها ليست لي, لكنها تلبستني وأنا لست لها, ولم أولد لأكون لها, فلا أعرف أي خطأ حدث في تلك اللحظة, بالنسبة لي لم تكن ولادة بل هزيمة فظيعة وفي غاية الفظاعة فمن يومها سربلتني الانكسارات والهزائم.
عندما كبرت قصوا علي كم كنت طفلا مشاكساً وقليل النوم , لكن أحدا لم يدرك ما طغى علي, شيء فوق طاقة طاقاتي, فأمي لم تعرف أني أريد الابتسام وأحب الابتسام, لكن نفسي لا تعرف كيف تبتسم ولا تستطيع تفهّم مواقف الابتسام, فلم أعرف متى علي الابتسام ومتى علي الضحك ومتى علي الصراخ.أمي لم تعرف إني أريد النوم والاسترخاء ككل رضيع ولم تدرك ماهية صراعاتي مع العتمة وأنا على كتفها وكتف والدي. لم يدرك أحد ٌ أني أريد أن أكون رضيعا هادئا, مسترخيا ومبتسما.
حياتي كلها صراعات رهيبة, من صراع إلى صراع ومن عذاب إلى عذاب, فولادتي في الطابق السابع هي بمثابة سقوط جسدي في هاوية عميقة أعمت بصري وبصيرتي, فأصبحت لا أرى إلا الرمادي من الأشياء, والأسود من الدنيا. ألوان الطيف هي أسطورة جميلة كنت ابحث عنها في نفسي التي تلبستني,نفسي التي أعيش معها الآن, لكن هذه النفس تكره الألوان وتكره ألوان الطيف, فألوان الطيف موجودة في تلك النفس التي أردتها لي. تلك النفس أراها هناك في ذلك الطابق البعيد, أراها وانتظرها وأريد لمسها وغمس أصابعي بها, لكني لا أصلها والهواء يفصل بين النفسين هواء شائك تنمو على ترابه أشواك السناريات ذات الألوان التي هي أيضا بألوان الطيف, لكن أي طيف أي ألوان وأي عبور سيدميني ويجعلني أموت نازفا دون أن يصل إلي أحد ٌ, فأنا أدرك أن ما بيني وبين الطابق السابع مسافات وعقبات, فحتى إن قررت العبور فنفسي الساكنة لن تعتقني. أنا أدرك أني لست عاديا فأحيانا أشعر انه تسكنني روح حيوانية وأحيانا هشة وضعيفة, فرغم هشاشة نفسي إلا أني أحمل طاقة كبيرة تجعلني لا أخاف أي خطر. طاقتي دفعتني إلى حقل شوك كبير, حقل شوك يفصلني عن الطابق السابع. طاقتي دفعتني إلى الشوك حافي القدمين وعاري الجسد من رحم امي إلى شوك النور.
اندفاعي ذكرني بالمشي حافيا على الحصى وعلى الشارع وعند كل هروب من البيت. كنت أحب أن امشي حافيا حرا وطليقا, لكن أحدا لم يفهم ما أردته, وما هي احتياجاتي التي أعيش معها.
اشعر بإبر الشوك على أنحاء جسدي تنسل كالسيوف إلى جميع جهاتي. انه نزيف داخلي يتحرر رويدا رويدا إلى الخارج لكنها لا تتحرر إلى الفضاء, فمن الصعب عليها تركي, فهذه الجراح هي قطع مروية بدمائي, قطع من شراييني وحزني ووحدتي وليلي, هي خطوط مرسومة بإتقان على جهات قلبي.رسمتها أنامل مرضي الذي علاجه ليس بحبة دواء ولا ضمادة, علاجه" ليس له علاج".
حياتي بدأت بسؤال, سؤال لا أعرف إجابته حتى الآن, عندما سمعت الأخصائية النفسية تقول لأمي: علاج مرض ابنك ليس بحبة دواء ولا بمرهم ولا بضمادة, هذه الكلمات ما زلت أحملها في داخلي منذ صغري.
أفهم ما يدور حولي تماما, أفهم ما يتكلمون عني, أبلع الكثير من القسوة منذ سنين, أصارع نظرات الناس إلي وأفهمها, لكني لا أستطيع عمل شيء سوى أن أداري روحي المنبوذة.
ببلوغي الثلاث سنوات ودخولي للروضة, ظنتني المعلمة أطرشَ ولا أسمع, وهي لا تعلم أني أسمعها جيدا وأفهمها جيدا لكن من الصعب علي التصرف والتعبير كباقي الأطفال, فما أصعب إدراكي بنقصي وأنا لا أستطيع فعل شيء, سوى صعوبة مداراة هذا النقص الذي تُرجم كثورات غضب وانطواء وحزن.
الانطواء رافقني دوما, لأني لا أجيد الكلام ولا أجيد النطق ولا تركيب الجمل. أجدتُ الصراخ ببراعة, والأصوات المزعجة والعالية التي أشارت على نقصي واختلافي عن الآخرين, فإلى اليوم أذكر كلمات المعلمة قالت لأحدى زميلاتها أمامي: " مكانه ليس هنا.."عندها أدركت أني لست مقبولا من أحد.
ما أصعب انك تدرك ولا احد يعرف انك تدرك. هذا كان يحدث لي مع الآخرين, ظنا منهم أني لا أفهم ما يدور حولي.
قالوا أن تأخري هو تأخر تطوري ولدي صعوبات في النطق والاتصال, لكن أحدا لم يدرك أن صعوباتي هي لغة تعلمتها وحدي دون أمي ودون معلمتي. صعوباتي بالنطق هي لغة خاصة بي نسجتها بجراحي وألمي, لا أستطيع الاتصال بصريا مع الآخرين لا بلغة ولا بحركات, لكنهم لا يدركون أن اتصالي مع نفسي هي قدرة علمتها لنفسي ولم أكتسبها, فكم من الأشياء تولد مع الإنسان وسهل اكتسابها, وكم أن هذه الأشياء لم تولد معي وكم جربت اكتسابها.
لا فرق لدي بين الحزن والفرح ولا أفرق بين الحزن والفرح ولا افهم ما معنى الفرح وما معنى الحزن, لأن أحدا لم يعلمني ما معنى الفرح.
سألت نفسي سؤالا لماذا ينعتني الأطفال ب "الأخوث", أو ما معنى كلمة "اخوث", في البداية عندما كنت أسمعها لم أكن أفهمها, ظننتها كلمة عادية وعليَّ تعلمها, حتى أني رحت أنعت نفسي بها , تماما كالأطفال, إلى حين أتى الوقت وفهمت وحدي أنهم قالوا لي ذلك, بسبب اختلافي عنهم.
أتساءل هل فعلا أنا تحملت هذا كله وحدي؟ صارعته نفسي وحدها؟ أنا لست إنسانا عاديا, بل ربما نبيا. نبيا متوحدا مع ذاته, فمن يصارع مرضا ليس له شفاء هو لا شك كائنٌ مختارٌ لذلك ليس كالكائنات الأخرى.
صدامات كبيرة وعنيفة استوت في رأسي, كنت أبكي مرارا في طفولتي , لا أريد مقابلة أحد, لكني لم أستطع قول ذلك, حتى أُجبرتُ في النهاية أن أكون موجودا وأنا لست موجودا, أن أكون بينهم جسدا وغائبا روحا.
مرضي هو "التوحد", ذلك المرض الذي يجعلني غير مرغوب من احد سوى امي وأبي, قروحي ليست قروحا من ابر الشوك, بل هي النفس المجروحة التي أعيشها وأعايشها يوميا, أغسل بها وجهي كل صباح أحمم بها جسمي كل مساء, والحف بوطأتها كل ليل, فهل كل هذا الشوك يحيى في داخلي؟
لا أريد أن أكون "أنا", ذلك الأنا المتوحد والمنبوذ والثقيل على العالم, فأين نفسي وأين العالم وأين الآخرون؟ فأبر الشوك التي تطعن جسدي وتأكل فيه لا تساوي طعنات ألسن الناس الذين أنا في ذاكرتهم " المتوحد, الأخوث " , فدمائي السائلة كدموعي هي حروف هذه النصوص التي لن يخلدها أحدٌ لأني أنا الذي كتبتها, مثل صديقتي دانا, صديقتي الوحيدة التي تركتها ترسم الدوائر والذئاب على أرض المدرسة, ترسمها بلغة تشبه لغتي وألوان تشبه ألواني, وصراخ يشبه صرخاتي, دانا لم تأتي معي إلى الطابق السابع ولم تصطحبني إلى الشوك. دانا فضلت أن تبقى هناك ترسم وتكتب بشكل عشوائي دوني, فهي لا تريد البحث عن روحها الأخرى, تريد أن تبقى كما هي, مشروع مؤجل, لكني أحبها جدا رغم صعوباتي في الكلام والبوح والتعبير عن مشاعري, تماما مثلها لأننا من فصيلة لا تجيد التعبير عن الذات بالكلام والحروف, تجيده برسم الحلقات والدوائر على الأرض وبكل الأحجام, هكذا نحن المتوحدون, نحب الأشياء المغلقة, نحب الدوائر المقفلة, نتقن رسمها ونتقن العيش في داخلها,دون تمرن على ذلك.
دانا اختارت أن تعيش في دوائرها السحرية وحلقاتها الفارغة,أما نفسي فقد اختارت الخروج من دوائري, اختارت العلو إلى الطابق السابع لتجد نفسا أخرى, رغم أن عيون دانا بقيت معي, فما أروعك يا دانا يا وجه القمر الذي هو دائرة جميلة من دوائرك. عيون دانا جاءت تستنشق رائحة دمي ورائحة روحي ورائحة الشوك المعمر, جاءت لتشم رائحة البحث عن الروح الأخرى والانا الآخر الغائب عني.
الشوك يعلو أمامي, وأمام جسدي فهو يكره أرواح المتوحدين مثلي, لا يحب إصرارهم وعزمهم على استنشاق أريج الازهار وعلى لمس ألوانها, فهل سأتحرر من ألوان الطيف التي أسرتني بسحرها؟
هل دانا تحلم مثلي؟ هل سيأتي يوم ٌ وتتحرر به إلى الطابق السابع بحثا عن روح أخرى؟ أفهم دانا عندما ترسم الدوائر, لكني لا أفهم لماذا ترسم الذئاب, هل ذلك يعود للّون الأسود؟ هل لأنه مفترس وهي ترى العالم هكذا؟
كلنا يحلم ماذا يريد أن يكون والذي مثلنا يحلم ببلوغ الخلاص من عزلته وغربته. ألخلاص من غربتي الغريبة ودنياي المظلمة التي أبحث فيها عن الإنسان بمعنى الانسانيه. ويبقى الإنسان حلما في زمن أللاانسانية. احلم واحلم عابرا جسورا ... جسرا تلو جسر, حتى جسر الموت عبرته, قاصدا بلوغ الكمال, حالما بالوصول إلى حلمي, وخلفي روحي المثقلة تمشي وتمشي وهي مكانها.

*قاصه فلسطينيه...الجليل.