أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
أحزان خليجيّة..

بقلم : رشاد أبوشاور ... 10.5.07

توقعت أن يكون الصديق سعيد سيف- هذا اسمه الذي عرفناه به في بيروت، واسمه الحقيقي عبد الرحمن النعيمي- في استقبالنا في مطار ( المنامة)، ولكنه غاب، فالتمست له العذر بسبب زحام ضيوف المؤتمر القومي العربي في دورته الثامنة عشرة...
المفاجأة المحزنة كانت بانتظارنا صبيحة اليوم التالي: صديقكم الدمث، والنبيل، والكاتب، والمناضل السياسي.. في غرفة الإنعاش!
صديقنا حسين موسى المعارض البحريني الذي كان لسنوات أحد ( مواطني) الفاكهاني في بيروت، قبل الرحيل عام 82، فاجأنا ( بتخفيه) في ملابس خليجيّة بحرينيّة: دشداشة وكوفيّة بيضاء تنسدل على جبينه، وبطاقة عضوية على صدره تحمل اسماً غريباً لم نسمع به من قبل!
يضحك بجلبة كما كان يفعل في الفاكهاني، ويحتضنني، فأتراجع لتأمّل ملامحه والتأكد من أنه صديقنا القديم...
_ أنت تذكّرني ببطل رواية جورج أمادو ( كان كان العوّام الذي مات مرتين)، فأصحابه انتزعوه من بيت ذويه، وألبسوه ملابسه القديمة، وارتاحوا وهم يستعيدون شخصية صاحبهم كما عرفوها في الميناء، حيث عاشوا كمجموعة صعاليك!.. أنت الآن مواطن معارض داخل البحرين لا خارجها!
في اليوم التالي حضر حسين وقد ارتدى بدلة خفيفة، فصحت :
_ صاحبنا كان كان البيروتي!.
ثمّ جثم الحزن علينا ونحن نستعيد أيامنا، ونستحضر شخصية صديقنا سعيد، النعيمي ( أبو أمل) المسجّى في غرفة الإنعاش...
من فضائل المؤتمرات أنها تتيح للأصدقاء أن ( يدخلوا) بعض القطار العربيّة المحرّمة عليهم، وتمنحهم فرصة اللقاء لساعات يقتنصونها ليلا رغم التعب، وأثناء تناول الوجبات، أو بالتغيّب عن بعض الجلسات، لأن الفرصة ربّما لا تعود في المدى المنظور...
افترقت أنا والصديق محمّد عبد الحكم منذ سنوات، أعوّض بمتابعته في ( القدس العربي) وعلى الفضائيات، وهو أخبرني بأنه يلتقيني ويلوّح لي بيده محيياً عندما يراني على فضائيّة ما، ثمّ ها نحن نلتقي في ( المنامة) لنتأمّل حال الأمّة...
لقاء صاخب في المطار بين القادمين من عمّان، والقاهرة، وبيروت...
أصدقائي الناصريون يقدمونني للدكتورة هدى جمال عبد الناصر، التي التقيتها قبل سنوات في المسجد الذي يحمل اسم القائد، في احتفالية بذكرى مولده، فأجدني وقد انخرطت في حديث بلا ضفاف عن القائد الخالد، مستذكراً ما رواه والدي وأهل قريتي عنه، وقد عرفوه في حرب 48...
ولأننا وصلنا في المساء فلم يكن متاحاً لنا أن نرى شوارع وملامح ( المنامة)...
في الصباح استيقظت مبكّراً، فجابهني طقس شرس رطب، رغم أن فصل الصيف لم يبدأ بعد. إذا كنّا في نهاية نيسان هكذا فكيف سيكون الجحيم في تموّز وآب وأيلول؟!
ووجدتني أتساءل: كيف كان عرب ما قبل النفط والكهرباء والسيّارات المكيّفة، والطائرات التي تنقلهم من بلد خليجي إلى آخر في ساعة أو بعض ساعة.. يعيشون؟! لاشكّ أنهم كانوا صبورين، عنيدين، حتى يتحمّلوا شظف العيش، وجهنميّة الطقس.
ولأن المؤتمر في دورته الحاليّة مشغول بنهضة الأمّة، فلم يكن مستغرباً وجود هذا العدد من المفكرين، والكتّاب، والمثقفين والمناضلين الذين يكتبون وينافحون عن أفكارهم.
فيصل جلّول حضر من فرنسا، منذر سليمان حضر من أميركا، والجميع يدفعون ثمن تذاكر سفرهم، والاستضافة على الجهة ( المحليّة الداعية).
أتعرّف على وجوه كثيرين، بعضهم لم تجمعني به صلة من قبل، ولكننا تعارفنا عبر الكتابة، والفضائيات، وفي لحظات، وبعد سلام حّار ننخرط في النقاش وتبادل الأفكار، وكأننا نستأنف حواراً بدأناه في وقت قريب، حرارته من ضغط القضايا المؤرّقة: فلسطين، العراق، السودان و.. لبنان و.. هل ننسى الصومال؟! ناهيك عن قضايا الفساد، والوراثة في الحكم، وغياب الديمقراطيّة...
أنا والصديق محمّد أبوميزر غامرنا بالمشي من فندق ( نوفاتيل) إلى فندق ( ديبلومات) حيث تنعقد الجلسات، وزخخنا عرقاً كأنما حشرنا لساعات في غرفة ساونا، ناهيك عن الرطوبة والغبار الذي تنفسناه.
رغم أن المسافة بين الفندقين تزيد قليلاً عن كيلومتر واحد، فقد كانت تلك مغامرة كررناها مرّة واحدة في مساء اليوم التالي اعتقاداً منّا أن المساء سيكون حنوناً رحيماً.. والحمد لله على سلامتنا، فقد عانينا فقط بعض الصداع وضيق التنفّس، وأثنينا على العرب الذين عاشوا هنا، وتحمّلوا، وأحبوا هذه البلاد ببحرها، ورملها، وجحيم طقسها في الصيف بطوزه ورطوبته وتقلباته المباغتة!
في السيارة سألنا صديقنا القديم الدكتور باسم سرحان، أستاذ علم الاجتماع في جامعة البحرين، الباحث في مركز الأبحاث سابقاً، عن سّر تسمية البحرين، فأخبرنا أن الأمر لم يخطر بباله، ولذا سأل بالخلوي صديقاً بحرينيّاً، فأجابه : البحرين كانت فيها ينابيع مياه حلوة، ومن هنا اكتسبت اسمها فهي على بحر مالح، ومن أرضها يتفجّر بحر ينابيع عذبة...
على مقربة من حيث أجلس قرأت اسم تلك السيّدة: رزان ميشيل عفلق!.. وغير بعيد من حيث أجلس كانت الدكتورة هدى جمال عبد الناصر بهدوئها، وتواضعها، وبساطتها.
سيدتان تنتميان لأبين، أحدهما قاد الأمّة، ومازال حضوره هائلاً، والآخر أسس الحزب الذي انتشر في المشرق العربي، وأثّر في مصير سوريّة والعراق بشكل مباشر.. والحركة السياسيّة العربيّة بشكل عّام...
تساءلت في نفسي: ترى كيف ستكون مشاعرهما لو التقتا معاً، وجلستا تتبادلان الحديث عن الأبوين، والصراعات السياسية التي عصفت بالحركة القوميّة ؟
في الاستراحة رأيتهما تجلسان على أريكة في صالة المجاورة لقاعة الاجتماعات، والصحفيون يتحلقون حولهما، والمصورون ينهمكون في التقاط الصور.
قلت للدكتورة رزان وهي تعود للجلوس:أحسب أنكما استعدتما أزمنة، وذكريات، وأصداء معارك فكريّة وسياسيّة، ولعلّ في هذا اللقاء الذي جمعكما، في مؤتمر معني بالنهضة العربيّة، بالوحدة العربيّة، بفلسطين والعراق والمقاومة، ما أجج مشاعر، وأحيا أسئلة في نفوس كثير من المشاركين الذين رأوكما تتحدثان بألفة وأخوّة.. فيا لدورة الزمن!...
في نادي العروبة حيث دعينا للعشاء، عرض فيلم ( جمال عبد الناصر) لمخرج لبناني حظي بثناء من شاهدوه...
جمال عبد الناصر في البحرين، على الخليج ( الثائر) لمخرج لبناني، بجمهور عربي، فيه الناصري، والبعثي، واليساري الماركسي، والديمقراطي المعني بحقوق الإنسان...
المفكر البحريني الدكتور علي فخرو- زميلنا في القدس العربي- الذي لا يفتأ يحذّر وينذر من الأخطار الداهمة التي تتهدّد كل منطقة الخليج العربي.. بكارثة تنضاف لنكبة فلسطين، من جديد يعود للتنبيه والتحذير، كما لو أنه زرقاء اليمامة...
في حين يطوي الرجل أوراقه، ويبدو مثقل المنكبين والنفس، استعيد ما سمعته قبل أيّام من وزير المالية الهندي- وزير الخارجيّة السابق- في لقاء مع الجزيرة: هناك مصالح مشتركة في الخليج، فنحن عندنا ثلاثة ملايين ونصف المليون هندي!
الهنود وحدهم- هناك أقوام أخرى- عددهم يفوق عدد عرب: البحرين، الكويت، الإمارات، قطر.. مجتمعة!
لماذا لا تكون العمالة العربيّة هي الأساس في دول الخليج؟
تحذير المفكر علي فخرو من نكبة لبلدان الخليج، يجب أن تشغل بال كّل العرب المعنيين بمستقبل الأمّة، فاللغة العربيّة في خطر، والمواطنة والانتماء في خطر، والثروة النفطية وأموالها في خطر الزوال ما دامت مجرّد أبنية على الرمال ( مدن ملح)!
في الساعات القليلة لتجوالنا في سوقين استعدت تحذيرات الدكتور على فخرو.. فالأيدي العاملة من البائع إلى عامل التنظيفات هنود وغيرهم، وهو تماًما نفس ما شاهدته من قبل في أقطار الخليج التي زرتها...
سألني صديق رآني مهموماً :
_ أأنت حزين على الخليج ؟
_..على الخليج و..الخليل..معاً، يا أخي في العروبة