أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
أبوعبد الله الحجل..

بقلم : رشاد أبوشاور ... 16.4.07

يمشي على رؤوس أصابعه، سواء أكان ينتعل صندلاً في الصيف، أو حذاءً ثقيلاً في الشتاء... هو من إحدى قرى رام الله. مرّةً يدّعي إنه من ( بيت ريما )، ومرّةً يقول بأنه من( دير غسّانه)، ومرّةً من( أبو جخيدم)، وهو في كل حال كما يرّد متبرّماً على إلحاح سائله: من دنيا الله يا أخي، فّك عنّي وخلّصني من السؤال عن أصلي وفصلي. أنا أصلي وفصلي هذا، أرغولي، ثمّ ينفخ في قصبتي الأرغول مدلّلاً على قوله...
يعيش أبو عبد الله على كرم الأجاويد، فهو لا يفاصل على إحياء ليالي الأعراس. أبو عبد الله لا حرفة له، فهو لا يزرع أرض أبيه التي أورثه إيّاها. لم يشاهد زارعاً أو حاصداً. هو على باب الله، يزهو في الصيف مع موسم الحصاد والأعراس، وعيشته مستورة فهو لا يتذمّر، ولا يطلب فوق ما يجود به الخيّرون لقاء إحيائه ليالي الأفراح التي يشيع فيها البهجة بأرغوله.
طويل القامة، عريض المنكبين، رأسه ضخم، يبدو مدوّراً عندما يخلع كوفيته. لغداه ينتفخان بالهواء حين يبدأ العزف، ووجهه يتكوّر ويحمّرحتى يصير كالشمندرة الحمراء.
يردّد مع بدء السهرة مستفّزاً حميّة الدبيّكة:
_ أنا أدوّخ الدبيّكة الشباب ولا أتعب...
عند انعقاد حلقة الدبكة يحمّي بأنغام مديدة كأنما ينادي على ناس بعيدين، يريدهم أن يسمعوا، ويهرعوا للسهر والانبساط، بالأنغام التي ترقّص الحجر، كمايردّد محبّوه إعجاباً وثناءً على عزفه.
يندمج مع المغنّي الذي يدور حوله، والدبيّكة الذين يكرجون بطيئاً، ثمّ يتحمسّون فيطيرون عالياً مستجيبين للويح يتقافز بخفّة الحمامة، يرعّش جسده كلّه كأن به مسّاً، وهو يدوّر منديله الخرزي وقد أمسك به برشاقة بين الشاهد والإبهام، في تناغم بين الجسد الليّن والمنديل المرفرف.
ما أن أطّل أبو عبد الله الحجل، ولحظته قريبات العريس، حتى لعلعت الزغاريد، وانتشرت البهجة، فالعرس سيبدأ في هذه الليلة الصيفيّة المقمرة، في ( العبيدية) التي يفصلها عن القدس وادي النار...
من يقف على طرف البلدة يخيّل إليه أنه يستطيع ملامسة قبّة الصخرة، فالقبّة والقرية على مستوى واحد، والنظرة الأفقيّة تبدي المسافة قريبةً عكس الطريق المتعرّج الخطر في الوادي...
مدّ الفراش وتجعّص الضيوف وأقارب العريس من كبار السّن، وقد جعلوا وجوههم صوب قبّة الصخرة وسور القدس وبيوتها، ثمّ صلوا العشاء جماعة، ومن بعّد دارت أكواب الشاي المطيّب بالقرفة، في حين تحرقص الشباب متلهفين على بدء السهرة...
قال اللويح خليل الورد مخاطباً الحجل:
_ الليلة للفجر على نفس واحد يا عجوز...
أخرج أبو عبد الله أرغوله، ونفخ أنغاماً قصيرة، مدوزناً نفسه وأرغوله، ثمّ أخرج مبسمي الأرغول من فمه:
_ الليلة للصبح يا ولد!.. أنا الحجل، لقبّوني الحجل لأني أكرج كرجاً. أنا دوّخت أباك شيخ الدبيكة قبلك...
_ ما دام هيك: فللفجر ياعّم حجل، على نفس واحد بدون توقّف، لا لأرغولك ولا للدبيّكة...
_ للفجر، وإذا لم أغلبكم فأنا لست الحجل.
_ إذا تعبت قبلنا تعلن انك مغلوب، وتقّر بأنك صرت عجوزاً، وإن...
_ لا تكمل يا ولد.. سأغلبكم. الليلة سيعرف الناس من الذي قلبه وصدره ما زال شباباً...
_ وإن غلبناك؟
_ لا آخذ أجرتي على هذه الليلة، أو أقول لك: آخذها وأطعمكم بها كنافة بكره في القدس...
اصطّف الدبيّكة على شكل الهلال.اللويح يطيّر المنديل الخرزي وهو يربت بقدمه على الأرض، مع هّز كتفيه في أعلى وأسفل، وصوت منغّم من بين أسنانه: إس سس سسس...
ارتفع صوت المغنّي الذي بدأ الدوران حول الحجل واضعاً راحة يده اليمنى حول أذنه اليمنى، منغّماً صوته الصادح:
يا ام الشليش ويام الشليشي
جننتي المشايخ والدراويشي
تحرم علي بعدك العيشي
جرحتي قليبي وانا ازغنونا..
هزّ اللويح منكبيه، وارتفع صوته:
_هاه..يلاّ..اطلع...
وفجّت الزغاريد، فسهرة الليلة بدأت...
مهما قلتلك يا نفسي توبي
قلتيلي ما أقدر أنسى محبوبي
أصبر عالجفا صبر أيوبي
حتى الحبايب يعاودونا..
ارتفعت أصوات الدبيكة منتشية بالغناء وأنغام الأرغول:
الله الله الله الله
_ يلاّ، اطلع...
ويلاّ اطلع من اللويح تعني: طيروا، حلّقوا عالياً يا شباب...
وطارت الأقدام عن الأرض، وبدن الحجل وأنغامه امتزجت، جنّت، صعدت من الأرض إلى الفضاء، تداخلت مع ضوء القمر المكتمل الذي يذوب نوراً يملأ السماء.
رائحة الشاي بالقرفة، وعطر القرنفل الذي يفحفح من أجساد قريبات وجارات العريس، والبنات اللواتي جملّتهن أمهاتهن ليعرضنهن الليلة أمام أمهات عندهن عرسان، أفعمت الجّو وأنعشته...
الحجل يحني هامته، يدوّر جسده كالدرويش، تخفق أصابعه الرشيقة على ثقوب القصبتين، بخبرة وألفة عمر تعود إلى خمسين سنة، بدأها وهو في العاشرة، برعاية (أبو الليل) شيخ عازفي الأرغول في منطقة (رام الله).
يدور الحجل مع الدبيّكة، يدوّر رأسه مع الأنغام، وقصبتا الأرغول تتجهان بفوهتيهما إلى الأعلى كأنما يشرب بهما ذوب نور القمر. يدوّر القصبتين كأنما يدوخ مع الأنغام، يرقّص كتفيه، يهّز خصره بلطف، يموّج رأسه، يصير في حالة وجد ونشوة وقد تخفف من عبء الجسد، ثمّ يعود إلى الأرض، فيرسل نظرات يمّر بها على وجوه الدبيّكة، كأنما يتوعدهم متحديّاً بوّد يستفّز حميّتهم: الليلة ليلتي وسترون...
الحجل يتلاعب بالدبيكة، من (الدلعونا) إلى الطيّارة ( المجنونة) إلى ( الشماليّة)، يهدّيء، ويسرّع أنغامه، والشباب مع انطواء ساعات الليل، يأخذ منهم التعب ببطء، ولكنهم يستمرّون بفرح عنيد، بينما المغنّي يدور حول الحجل، مهيّجاً الدبيّكة، ومستحثّاً النسوة أن لايبخلن بزغاريدهن التي تبعث الحميّة وروح التنافس:
نزل عالدبكة اللويح الشاطر
يا لوحة إيده تشرح الخاطر
واللويح يستجيب لمديح المغني، فيخفق منديله فوق رأسه، وتهتز عضلاته الناضحة عرقاً غزيراً يبلل قمبازه الروزا الأبيض، قمباز ليالي الأفراح وحلقات الدبكة...
وهنت الزغاريد، وفرد العجائز عباءاتهم على أجساد لفحتها نسائم آخر الليل، والقمر مال مبحراً في سماء شاحبة خفيفة.
ارتفع صوتك أحد الوجهاء:
_أتعبتم الحجل يا شباب..خذوا نفس، ارتاحوا...
لكن الحجل استدار صوب الصوت، وأخذ يحرّك قصبتي أرغوله إلى الأعلى، ويرفع حاجبيه علامة الرفض، أمّا الدبيّكة فلم يجيبوا، وتبادلوا النظر مع اللويح الذي أمعن في ترعيش جسده كأنما يقول: نحن شباب وأجسادنا لا ينال منها التعب...
أمال المغنّي رأسه وهمس في أذن الحجل، ولكن الحجل هزّ رأسه وأدار له ظهره، فوقف المغني حائراً، وأرسل نظراته إلى عيني اللويح الذي هزّ منكبيه، وكأنما يقول له: اقنع صاحبك أن يتوقف عن العزف...
من بوابة بيت العريس انسربت النسوة فالفجر اقترب، بعد أن غنين وزغردن وتبادلن الثناء على بناتهن العرايس اللواتي ينتظرن عرساناً من شباب القرية أو القرى المجاورة من قرى عرب ( السواحرة).
رفع الشيخ يوسف آذان الفجر، فنهض الرجال ليتجهوا للمسجد لأداء الصلاة جماعةً.
باغت الحجل الدبيّكة بنغمات ( الطيّارة) المجنونة، فارتبك اللويح والشباب، بسبب الأذان، ولأن الوهن دبّ في عضلاتهم، والنعاس أخذ يثقل أجفانهم...
ارتفع صوت من بين الرجال الذين نهضوا وتحلّقوا حول الدبيّكة:
_ حرام.. يكفي.. ألا تسمعون آذان الفجر.. وقت لفرحك ووقت لربّك.. يكفي.. والعقبى للعزّابيّة.. ويخلف عليك يا حجل...
انفّض الدبيّكة، ونفخ الحجل قليلاً في أرغوله، ثمّ أخرج المبسمين من القصبتين، ونفخ فيهما حتى ينظفهما من اللعاب...
سأله أحد العجائز :
_ ألا تصلّي يا حجل؟!
_ طبعاً أصلّي..كيف لا أصلّي؟! أنا أحّب الصلاة في الهواء الطلق، أرتاح لملامسة جبيني للتراب، حتى بّت أميّز الفرق بين روائح أراضى قرانا، ونكهات أزهارها وأشجارها وثمارها لكثرة صلاتي وركوعي عليها. سألحق بكم إلى المسجد بعد أن آخذ نفساً ينعش رئتّي...
تمدد الحجل على الفراش، وأسند رأسه إلى وسادتين وضعهما فوق بعضهما، ولّف كوفيته على رأسه ووجهه، ونام بعمق، بعمق شديد، حتى إن الشمس صارت عاليةً في السماء، بينما هو نائم تماماً، نائم بلا نفس، ولا حركة، وأرغوله ممدد على صدره، كأنما ينام بعمق لصق قلب ورئتي صاحبه، بعد رفقة عمر طويلة...