أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
العمالة شقيقة الاستبداد !

بقلم : د. فيصل القاسم  ... 23.4.07

من حق المعارضين العرب، لا بل من واجبهم، أن يبذلوا قصارى جهدهم في مقاومة أنظمة الديكتاتورية والاستبداد والتخلف التي تحكم قبضتها على رقابنا منذ عشرات السنين. وهم بلا شك مشكورون على جهودهم في ذلك المجال المحفوف بالمخاطر والصعاب. وليس بوسعنا إلا أن نقف للمناضلين منهم إجلالاً وإكباراً على تضحياتهم الكثيرة. لكن أي معارضة سياسية تفقد قيمتها تماماً عندما ترتهن للخارج. واعتقد أن أي معارض، حسب كل نواميس الدنيا وأقانيمها الاستبدادية والديموقراطية، ماضياً وحاضراً، يصبح، قاب قوسين أو أدنى، عميلاًً جديراً بعقاب شديد عندما يتصل بجهات خارجية وينسق معها. لا بل إن الاتصال بالأجنبي، أو الاستقواء به تحرِّمه، وتجرّمه، ليس جميع القوانين والمبادئ الدولية، ولكن، أيضا، أبسط الأخلاق العامة، التي يجب أن يتحلى بها، حتى أصغر معارض وطني حقيقي. ومن هنا يمكن القول إنه لا فرق أبداً بين نظام ديموقراطي واستبدادي في التعامل مع الخارجين على السرب في قضايا الاتصال أو التعامل مع أوساط خارجية لأن المبدأ عام.
من قال إن الأنظمة الديموقراطية أكثر رحمة مع الذين يحاولون الاتصال بجهات أجنبية؟ إنها كذبة كبيرة من الأكاذيب "الديموقراطية" البائسة، وبدعة عوراء وفقعاء من بعض المروجين لحملة مشاعل التحرر الجدد. فـ"الديموقراطيات" لاتتورع أن تأخذ أقسى العقوبات بحق المخالفين لتعليماتها وقوانينها المتعلقة بالتعامل مع الخارج. لهذا يجب على بعض المعارضين العرب الذين يتبجحون بعلاقاتهم واتصالاتهم الخارجية بجهات فيما وراء حدود الوطن ألا يولولوا ولا يثيروا الزوابع الإعلامية عندما يجد أحدهم نفسه وراء القضبان بعد جولة أمريكية أو أوروبية. إنه أمر مضحك فعلاً أن يعلن بعض المعارضين العرب على الفضائيات أنهم التقوا خلال جولاتهم في العواصم الأوروبية والأمريكية مسؤولين من وزارات الخارجية ووكالات الاستخبارات ثم تثور ثائرتهم عندما يودعون السجون لدى عودتهم إلى بلادهم! إنه جرم جدير بالمحاسبة حسب الأنظمة الديموقراطية قبل الديكتاتورية.
لا أريد الدفاع هنا بأي حال من الأحوال عن أنظمة القهر والقمع العربية التي تحصي أنفاس معارضيها وتجشم على صدور العباد كالجبال الراسيات، فهي قضية لا يدافع عنها غير المعتوهين والمرضى نفسياً. لكنني أريد التركيز على جزئية يتم تجاوزها كثيراً أو أحياناً من قبل العديد من المعارضين العرب من باب أن كل فعل ضد الأنظمة الحاكمة المستبدة، مهما كان نوعه، هو حلال زلال. وهذا طبعاً خطأ سخيف ينتقص كثيراً من نضالات المعارضات العربية ويشوه سمعتها ويضع ألف إشارة استفهام على أهدافها. من المخطئ بربكم: الجهة التي أوقفتهم في المعابر الحدودية لدى رجوعهم من جولاتهم المكوكية الغربية أم المعارضون أنفسهم؟! لماذا يسمح بعض المعارضين العرب لأنفسهم أن يصولوا ويجولوا في الغرب في المقام الأول لأغراض هدفها الأول والأخير الاستعانة بجهات خارجية لتحقيق أغراضهم السياسية؟ أليسوا هم الذين يعيرون الأنظمة الحاكمة بعلاقاتها المشبوهة مع قوى خارجية لتعزيز مواقعها وتثبيت حكمها؟ لماذا ذلك حرام على الحكومات حلال على المعارضين؟ من يصدق هكذا معارضين بعد لجوئهم إلى نفس الأساليب البائسة التي يلجأ إليها الحكام؟ لماذا لا ينظر المعارضون العرب الذين يتفاخرون بعلاقاتهم الغربية إلى أسيادهم في الغرب وطريقة تعاملهم مع كل من تسول له نفسه الخروج على القوانين الداخلية المتعلقة بموضوع الاتصال بجهات معادية؟ ألم يسمعوا بما حصل للناشط الأمريكي من أصل عربي عبد الرحمن العامودي؟
لمن لم يسمع بقضية الدكتور العامودي، فهو يقبع الآن في أحد السجون الأمريكية بتهمة التعامل (التخابر)مع جهة معادية للولايات المتحدة، حسب القانون الأمريكي. صحيح أن من بين التهم الموجهة للعامودي الاشتراك في مؤامرة مدفوعة ليبياً لاغتيال ولي العهد السعودي وقتها الأمير عبد الله، لكن التهمة الأولى والرئيسية التي اعتقل بسببها هي قيامه بعدة سفرات إلى ليبيا دون الإفصاح عنها، والتقائه مسؤولين أمنيين ليبيين حسب لائحة الادعاء. وبموجب القوانين التي كان قد أصدرها الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان يُعاقب كل شخص يحمل جواز سفر أمريكياً يسافر إلى ليبيا أو يتصل أو يتعامل مع السلطات الليبية من دون إذن الحكومة الأمريكية، على اعتبار أن ليبيا كانت، بموجب القانون رقم 6 (ر)، دولة مصنفة في خانة الدول المعادية للولايات المتحدة.
ومن المعروف أيضاً أن أية شركة أمريكية تنتهك القوانين التي سنتها الإدارة الأمريكية بخصوص التعامل مع جهات خارجية معينة كانت تتعرض لعقوبات قاسية للغاية بالرغم من التشدق الأمريكي بحرية التجارة الدولية. وقد التزمت الشركات الأمريكية التزاماً صارماً بالقوانين التي تمنع المتاجرة مع إيران وكوريا الشمالية وليبيا "المعادية"، حتى لو تكبدت خسائر فادحة من جراء ذلك. وكلنا يتذكر قانون (داماتو) سيء الصيت الذي يجرّم أي تعامل مع بعض الدول. ولا يمكن أبداً النظر إلى القوانين الأمريكية على أنها شرعية والقوانين العربية على أنها تعسفية، فكلتاهما متشابهة من حيث الأهداف والمشروعية. فكما أن من حق أمريكا "الديموقراطية" أن "تتجسس"، وتراقب اتصالات مواطنيها مع الجهات التي تعتبرها معادية لمصالحها وتهدد أمنها، إذن، ودائما بنفس منطق "الديمقراطيين" إياهم، من حق الدول العربية أيضاً أن تعاقب أي شخص تشتبه في علاقاته مع جهات أمريكية أو أوروبية تشك في نواياها. فلماذا حبس الأمريكي الذي يتصل مع ليبيا ويلتقي مسؤوليها الأمنيين حلال ومشروع، وحبس معارض عربي انتهك قوانين الاتصال بجهات أجنبية والتقى بمسؤولين استخباراتيين غربيين جريمة لا تغتفر؟ لماذا هذا النفاق؟ لماذا لم نسمع "ليبرالياً" أو "ديموقراطياً" عربياً واحداً مثلاً دافع عن "حرية" عبد الرحمن العامودي في الاتصال بدولة على خلاف مع أمريكا؟ لماذا يُعتبر تصرف العامودي خيانة لأمريكا بينما يُعتبر تصرف معارض عربي ينسق ويتخابر مع جهات غربية عملاً نضالياً بطولياً جديراً بالطنطنة الإعلامية والحملات الحقوقية والإسهال الانترنتي الديماغوجي؟ ألم ير المعارضون العرب الذي يتباهون بتنسيقهم مع جهات أجنبية ما حل بالجاسوس الأمريكي الشهير جوناثان بولارد الذي يقبع الآن في سجن أمريكي بسبب اتصالاته المشبوهة بإسرائيل، أقرب المقربين للولايات المتحدة؟ ألم يفشل الإسرائيليون بكل جبروتهم وتأثيرهم أمريكياً في الإفراج عن عميلهم الأمريكي بولارد؟
قد يجادل البعض بالقول إن الحكومة الأمريكية حكومة منتخبة ديموقراطياً وتعاقب الخارجين على سلطتها بموجب القوانين المسنونة على أساس ديموقراطي. وهذا طبعاً أقرب إلى الهراء من أي شيء آخر، فكم مرة استشارت الإدارة الأمريكية الشعب الأمريكي لفرض قوانينها الجائرة وعقوباتها التعسفية على العديد من الدول والشعوب؟ هل لدى الأمريكيين أدنى معرفة بالقوانين التي سنتها إدراتهم من أجل أهدافها الخاصة التي تضر الشعب الأمريكي أكثر مما تفيده؟ ألم يـُظهر تحقيق صحفي قبل أيام أن السواد الأعظم من الأمريكيين لا يعرف أين يقع العراق أو أفغانستان أو سوريا؟ ومع ذلك فهناك احتلال أمريكي للعراق وأفغانستان وعقوبات وقوانين محاسبة بحق سوريا.
لقد آن الأوان لأن يميز بعض المعارضين العرب بين النضال من أجل الديموقراطية والتحرر من الاستبداد وبين الارتهان أو الارتماء في أحضان الخارج، خاصة إذا ما علمنا أن القوى الخارجية ليست مجرد جمعيات خيرية لمساعدة المعارضين لتحقيق الديموقراطية والرخاء والازدهار في بلادهم. وقد رأينا الثمن الذي دفعته المعارضة العراقية السابقة مقابل إسقاط نظام صدام حسين. لقد قايضت رأس النظام برأس الوطن. ويا لها من مقايضة!
متى يدرك بعض ممتهني حرفة المعارضة أن العمالة ليست، بأي حال من الأحوال، وجهة نظر أو رأياً آخر أو حرية شخصية أو شراً لابد منه، بل هي بسوء الاستبداد والديكتاتورية والفساد الذي يدّعون محاربته، إن لم تكن صنوته. وإذا كان الطغيان جديراً بالاستئصال فإن "المعارضين" السائرين على خطى ابن العلقمي جديرون بالكنس إلى أقرب حاوية نفايات، فالمتاجرة والمقاولة على الأوطان أنكى من اغتصابها؟ ومن يتاجر بوطنه يمكن أن يغتصبه بسهولة. والعكس صحيح.