أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
الغزو الذي أعاد الهيبة للأنظمة العربية....!

بقلم : د. فيصل القاسم  ... 15.4.07

كان العالم العربي قبيل الغزو الأمريكي للعراق قبل أربعة أعوام يشهد حراكاً مدنياًً ملحوظاً ويحلم بتحرير حقيقي من الطغيان، فقد تصاعدت الأصوات في العديد من البلدان للتخلص من الاستبداد والنهوض الديمقراطي بعد أن وصلت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بعض الدول إلى الحضيض وبعد أن ضاقت الشعوب ذرعاً بالديكتاتورية والتسلط. وقد وجد العديد من الأنظمة العربية نفسه في أزمة تحت وطأة المطالبين بالإصلاح. وكان بعض الدول على موعد مع نوع ما من التغيير. لكن سرعان ما ركبت أمريكا عربة الإصلاح وراحت تزايد على الإصلاحيين العرب. ويمكن القول إن الوعود والضغوط الأمريكية اللاحقة المطالبة بالإصلاح في العالم العربي جاءت لقطع الطريق على المنادين بالديمقراطية وإجهاض مساعيهم لأن أي ديمقراطية وطنية حقيقية لن تكون في مصلحة الأمريكيين. لهذا سارعت واشنطن بالضغط على الأنظمة الحليفة لها بأن تجري بعض "الروشتات" الإصلاحية لذر الرماد في العيون وسحب البساط من تحت أرجل الحركات الوطنية المنادية بالتغيير. لا بل خطت أمريكا خطوة أخرى باتجاه تثبيت وتدعيم الأنظمة الحاكمة التي تضعضعت أوضاعها في أكثر من بلد. وتمثل ذلك بغزو العراق الذي كانت الحكومات العربية الأخرى أكبر المستفيدين منه. صحيح أن هناك أهدافاً أمريكية أخرى وراء الغزو، لكن أحد تجلياته تمثل في ترسيخ النظم الحاكمة وإعطائها حياة جديدة وليس إضعافها كما كان يتصور بعض المغفلين بعيد سقوط بغداد.
لقد ظن الكثيرون أن إسقاط النظام العراقي سيكون مقدمة لإسقاط الآخرين وأن المنطقة مقبلة على موجة عارمة من التغيير الذي طالما حلمت به الشعوب الرازحة تحت نير القهر والظلم والطغيان. وفعلاً استبشر العديد من الشعوب العربية بالخير بعدما رأوا تماثيل النظام العراقي تتهاوى في ساحات بغداد ظناً منهم أن الحبل على الجرار. وأتذكر أنني قدمت برنامجاً بعد سقوط بغداد وأرفقته باستفتاء شعبي. وكان السؤال المطروح للاستفتاء: "هل ستدافع الشعوب العربية عن أوطانها فيما لو تعرضت لغزو خارجي على ضوء التقاعس الشعبي العراقي في الذود عن بغداد وتركها تسقط أمام الغزاة انتقاماً من حكامها؟" وقد كانت النتيجة متقاربة، فقد أعرب حوالي نصف المصوتين بأنهم لن يدافعوا عن أوطانهم في وجه الغزاة ظناً منهم أن الغزاة قد يحررونهم ويكونون أكثر رحمة بهم من حكامهم الوطنيين. وقد استشعرت وقتها أن هناك توجهاً لدى الشارع العربي يرحب بالتغيير حتى على أيدي الشيطان بعد أن طفح به الكيل. وبعد أسابيع أجريت استفتاء آخر. وكان السؤال:"أيهما أفضل الأنظمة العربية الحاكمة أم الاستعمار؟" فتبين أن أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من المصوتين فضلوا الاستعمار على الأنظمة العربية الحاكمة مما جعل بعض أعضاء البرلمان البريطاني يتندرون بالنتيجة في مجلس العموم كما أخبرني جورج غالاوي.
كم كان الشارع مغفلاً وساذجاً وقتها، فقد ظن، وبعض الظن إثم، وهو فعلاً إثم كبير في هذه الحالة، أن أحلامه بالتغيير تقاطعت مع التوجهات الأمريكية في المنطقة وبأنه لا بأس في الترحيب بها كونها ستجرف معها الطغيان والاستبداد. لكن هيهات، فقد تبين لاحقاً أن أحلام التغيير التي رافقت سقوط بغداد تحولت إلى كوابيس مرعبة. وقد حل الخراب والدمار محل الإصلاح والديمقراطية. وتجلى ذلك في أنصع صوره في العراق ذاته الذي أصبح ساحة للقتل والاقتتال والإرهاب والتناحر الطائفي والنهب والسلب. ولا شك أن ذلك وقع برداً وسلاماً على الأنظمة العربية التي كانت خائفة من التغيير والإصلاح لأن الغزو عزز مواقعها وجعلها تبدو بالمقارنة مع المشروع الأمريكي في العراق ملائكة رحيمة. ولا شك أيضاً أنها كانت تود أن تقول لشعوبها: "ما بتعرف خيرو لتجرب غيرو".
لقد أنقذ الغزو الأمريكي للعراق معظم الأنظمة العربية. وقد تغير موقف الشعوب بعد ثلاثة أعوام على الغزو مائة وثمانين درجة. وكم تختلف نتائج الاستفتاءات الحالية عن نتائج تلك الاستفتاءات التي أعقبت الغزو. فلو سألت مواطناً عربياً هذه الأيام:"هل ستدافع عن بلدك فيما لو تعرض لغزو خارجي؟" سيقول سأدافع عنه بالغالي والرخيص ولن أسمح للمغول والتتار الجدد أن يقلبوا نظام الحكم في بلدي، فهو،على علاته، يبقى أفضل مائة مرة من الوعود الغربية بالديمقراطية. لاشك أن تجربة العراق جعلت الملايين يلعنون الساعة التي حلموا بها بالتدخل الخارجي.
لا أعتقد أن هناك أنظمة أكثر سعادة من الأنظمة العربية بعد ثلاثة أعوام على الغزو الأمريكي للعراق، فقد أعاد لها الأمريكيون الهيبة من حيث دروا أم لم يدروا. وقد أصبح السواد الأعظم من الشعوب العربية يريد الحفاظ على الوضع الحالي مهما بلغ من السوء، فهناك سيئ وأسوأ والأسوأ، وهم باتوا يعتقدون أنهم في وضع سيئ، لكنه أفضل بكثير من الأسوأ المتمثل بالتدخل الأمريكي. وقد قابلت أشخاصاً عاديين في بعض الدول العربية كانوا يتذمرون دائماً من الوضع في بلدانهم ويطالبون بالتغيير والإصلاح. أما هذه المرة فقد غيروا لهجتهم تماماً وأعربوا عن تأييد منقطع النظير لأنظمة الحكم في بلدانهم التي كانوا يتهمونها قبل ثلاثة أعوام بكل الموبقات. لقد تعلموا درساً مريراً مما حل بالعراق والعراقيين وهم بلا أدنى شك يرفضون الانتقال من الرمضاء إلى النار. وقد سمعت أحدهم يقول: "لم أعد أريد لا ديمقراطية ولا "ضرّاب السخن"، فقط أريد أن أأوي إلى بيتي بسلام في آخر النهار وأربّي أولادي في مدارس آمنة وأحافظ على ما جنيته من رزق بسيط."
لقد تبخرت كل الأحلام الوردية بالتحرر والديمقراطية وبات هم الملايين محصوراً في تأمين البيت والأولاد والاستقرار مهما حمل من آلام ولتفعل الحكومات ما تشاء طالما أنها أمنت لنا على الأقل الأمن والأمان وبعض الفتات. ماالذي أجبرك على المر غير الأمر منه؟ كأنك يا بو زيد ما غزيت.هكذا يلهج حال الذين حلموا يوماً بعالم عربي أفضل قبل الغزو الأمريكي للعراق.
أما لسان حال الحكومات العربية فلا شك أنه يعجز عن شكر الأمريكيين، فهم جديرون بكل الحب والتقدير على خدماتهم الجليلة للأنظمة الحاكمة التي تضحك في سرها وتقول: "اللهم نجـّهم كما نجـّونا ولو على حساب أرواح مئات الألوف من القتلى والجرحى والثكالى وأنـّات الجوعى والمرضى والمشردين وأنقاض المدن والقرى العراقية المدمرة". آه كم كان البعض مغفلاً عندما ظن أن الحكومات العربية كانت آيلة للسقوط بعد غزو العراق! هل كانت ضارة نافعة لها، أم أحد تجليات الاستراتيجية الأمريكية لبعث الروح من جديد في أنظمة ماتت وشبعت موتاً والتفافاً خبيثاً على أحلام الشعوب بالتحرر والإصلاح والنهوض والتغيير الحقيقي؟ لكن لا أعتقد أن جرعة الإنعاش التي حُقنت بها الأنظمة العربية ستدوم طويلاً ومن غير الممكن أن تسلم الجرة دائماً.