أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
المشروع الأمريكي ينكسر أم ينتصر؟

بقلم : د. فيصل القاسم ... 1.4.07

لا شك أن عنوان هذا المقال سيثير غضب الحالمين بسقوط المشروع الأمريكي والمبشرين به. وليس من المستبعد أن يعتبروا كاتبه ناشراًً للإحباط واليأس في نفوس الجماهير العربية التائقة للتخلص من النير الأمريكي. فحسب تقديرات وتوقعات الكثير من المحللين والكتاب العرب فإن المخططات الأمريكية في المنطقة العربية على وشك الانهيار والإفلاس والهزيمة، وأن الهيمنة الأمريكية على العالم في طريقها إلى الأفول. لهذا فإن كل من يقول عكس ذلك فهو، برأيهم، انبطاحي يروج لمشاريع خاسرة.
ليس هناك أدنى شك بأن السواد الأعظم من العرب يحلم باندثار الامبراطورية الأمريكية التي سامتنا سوء العذاب، لا بل من حقنا أن ندعو ليد العم سام بالكسر ليل نهار لكثرة ما صفعتنا وأهانتنا، ولرجله بالشلل لكثرة ما داستنا وسحقتنا. لكن علينا أن لا نتوهم الكسر والشلل ليده ورجله فيما هو يزداد بأساً وتجبراً، فالجبروت الأمريكي لم ينكسر، كما يهلوس البعض، لا بل فهو مرشح لمزيد من التصاعد والتغول.
قد يحيلنا البعض إلى توقعات بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الشهير وريتشارد هاس رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، فقد توقع الاثنان انحسار المد الأمريكي في العالم وأفوله في الشرق الأوسط. لكن أليس علينا بالواقع لا بالتكهنات والتوقعات؟ أيهما أصعب على أمريكا التحكم بالعالم العربي، أم بأوروبا؟ لا شك أن منطقتنا التي تتمتع بقابلية مذهلة للاستعمار كانت ومازالت فريسة سهلة للقوى العظمى، وبالتالي قد لا تكون مقياساً دقيقاً لمدى اضمحلال السيطرة الأمريكية على العالم. أما إذا أردنا أن نعرف فيما إذا كانت القوة الأمريكية تتراجع أم تتصاعد فما علينا إلا أن ننظر إلى مدى تأثيرها في الاتحاد الأوروبي الذي يتألف من خمس وعشرين دولة قوية متحدة ذات كتلة سكانية عظيمة ونفوذ اقتصادي يكاد ينافس الاقتصاد الأمريكي. فبالرغم من عظمة أوروبا إلا أنها تزداد تبعية لأمريكا، لا بل إن آخر بؤرة ممانعة أوروبية، ألا وهي فرنسا، ستتخلى عن ممانعتها قريباً لتنضم إلى الركب الأوروبي الخاضع لواشنطن. لقد أصبحت باريس قاب قوسين أو أدنى على وشك إطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الأوروبي المستقل والانضواء تحت العباءة الأمريكية كتابع، وذلك على عكس كل التكهنات والتمنيات.
المقاتل لا يهرب من المعركة وهو على وشك الإجهاز على عدوه، بل يستبسل. لهذا لو كان المشروع الأمريكي يترنح فعلاً لاستمرت فرنسا في تعنتها ومقاومتها للأمركة لا بل استبسلت في مقاومته، خاصة وأن باريس تنظر إلى نفسها كقطب عالمي يتحدى الأمركة في المجال الثقافي ويحاول ذلك بغير نجاح كبير في المجال السياسي منذ عهد الجنرال ديغول، ناهيك عن أن فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة خارج حلف الأطلسي. ولا داعي لذكر المناسبات التي عارضت فيها السياسات الأمريكية بقوة، وكان آخرها الغزو الأمريكي للعراق. لكن يبدو أن هذا المشاغب الأوروبي قد أفلس أخيراً ولم يجد أمامه سوى الانصياع للجبروت الأمريكي المتصاعد.
لقد أصبح واضحاً للعيان أن نيكولا ساركوزي المرشح الرئاسي سيفوز في الانتخابات القادمة. ومعروف عن هذا المرشح أنه أمريكي الهوى والتوجه، لا بل إن بعض المعلقين السياسيين الفرنسيين يسميه "ساركوزي الأمريكي".
بعبارة أخرى فإن الفيروس الأمريكي "قد تمكن من الفتك بالديغولية التي تشكل عماد السياسة الفرنسية بل الأوربية المستقلة عن أمريكا". وكما يجادل الدكتور ثائر دوري، "يمكن القول براحة ضمير أن ساركوزي هو مزيج من توني بلير البريطاني و بيرلسكوني الإيطالي. فهو كبلير ينظر بإعجاب كبير للنموذج الأمريكي، و يعتبر أن مستقبل أوروبا متوقف على تبني هذا اقتصادياً و سياسياً. و بمحصلة الأمر إذا كنت مزيجاً من بلير و بيرلسكوني فمن البديهي أن تكون أمريكياً و تابعاً للبيت الأبيض... أما بالنسبة لمستقبل الإتحاد الأوربي فإن صعود أمثال ساركوزي إلى سدة الحكم في أوروبا سيطيح بالمشروع الأوربي المستقل لصالح المشروع الأطلسي، أي أوروبا تحت المظلة الأمريكية".
و حسب سمير أمين، فإن "التفاف الدول الأوربية حول المفاهيم الأمريكية يعني حكماً اختفاء الاستقلال العسكري و الاقتصادي الأوروبي و الخضوع للسيطرة الأمريكية". ونحن نقول: لقد خضعت أوروبا الكبرى للمشروع الأمريكي تماماً. وقد قالها بحزن شديد الأديب البريطاني الكبير هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل للآداب قبل فترة. فعندما سأله أحد الصحفيين عن هذه التبعية الأوروبية المخزية للعم سام، اعترف بنتر بهذا الواقع المرير. ومن سخرية القدر فقد راهن على النموذج اللاتيني، فهو يرى في تمرد دول أمريكا اللاتينية على النموذج الأمريكي الأمل الوحيد لهزيمة المشروع الأمريكي في العالم. لكن لنكن واقعيين، هل ينجح تشافيز في الوقت الذي تنبطح فيه فرنسا ساركوزي زعيمة أوروبا تحت أقدام المارد الأمريكي؟ لا شك أن كل التقدميين يحلمون بهذا السيناريو؟ لكنه هل هو أكثر من حلم؟ ألم ترنوا عيون اليسارين الغربيين في الماضي إلى موسكو لدحر الرأسمالية الغربية ثم خابت آمالهم شر خيبة؟ فهل ينجح فقراء بوليفيا وفنزويلا ونيكاراغوا حيث فشل الاتحاد السوفياتي وبعده أوروبا؟ لقد توفرت للأوروبيين كل مقومات المقاومة للجبروت الأمريكي لكنهم تراجعوا بسبب اختلال ميزان القوى لصالح اليانكي.
البعض قد يقول إن أمريكا وأوروبا في قارب واحد. فحتى فرنسا الديغولية لم تكن يوماً خارج السرب الأمريكي، إلا ربما ظاهرياً، وبالتالي فإن المراهنة على نهوض أوروبي في وجه الأخطبوط الأمريكي كانت مراهنة خاطئة تماماً، خاصة وأن أمريكا هي التي ساندت مشروع الوحدة الأوروبية أكثر من أي جهة أخرى. لكن حتى لو كان هذا الكلام صحيحاً فإن مجرد تأكيده اليوم على أرض الواقع من خلال المثال الفرنسي الفاقع يعطي المشروع الأمريكي زخماً أكبر ويسفه النظريات القائلة بتصدع القوة الأمريكية وتراجعها.
ماذا بقي لقوى المقاومة الضعيفة كي تواجه هذا التحالف المتصاعد والثابت الآن بين أوروبا وأمريكا؟ لقد كنا نواجه عملاقاً واحداً ونستنجد أحياناً ببعض جيوب المقاومة الأوروبية لمواجهة المشروع الأمريكي. أما الآن فقد أصبح العملاقان الأوروبي والأمريكي أقرب إلى بعضهما البعض من أي وقت مضى، فيما أصبحت روسيا والصين أشبه بشاهد "ما شفش حاجة" في مجلس الأمن الدولي. أما كوريا الشمالية التي طالما اعتبرها بعص الممانعين العرب رمزاً للصمود والتصدي للجبروت الأمريكي ومثالاً للكرامة الوطنية فهي على وشك التخلي عن برنامجها النووي تحت ضغط واشنطن، بحيث لم يعد بإمكان بعض العرب أن ينشدوا:"ليتني كوري شمالي!"
على ضوء ذلك هل ما زال بإمكاننا أن نلوم الأنظمة العربية على مسايرتها للمشروع الأمريكي بشكل أعمى بعد أن سبقها إلى ذلك ساركوزي الديغولي وكيم الكوري الشمالي؟ إن تصنيف العرب إلى معتدلين ومتشددين كما فعلت وزيرة الخارجية الأمريكية كونوليزا رايس قبل فترة تصنيف خاطئ ومظلل. فالسواد الأعظم من العرب يقبعون في معسكر الاعتدال أصلاً أو "حلف المعدّلين" كما يسميه فرج بو العشة، إن لم نقل الخنوع والاستكانة. وإذا كان هناك جيوب ممانعة عربية فهي قليلة جداً ولا تحتل حيزاً كبيراً من الساحة العربية، وبعضها بدأ يخرج من اللعبة كحركة حماس مثلاً.
أريد أن أعرف إذن أين هو ذلك الإفلاس والهزيمة والانهيار الأمريكي الذي يبشرنا به بعض الحالمين العرب؟ المضحك في الأمر أن أمريكا عندما تريد أن تهاجم بلداً ما تبالغ في تصوير قدراته وتقدمه عبر وسائل إعلامها على أنه أكبر خطر يحيق بالبشرية منذ نشوئها، بالرغم من أنه قد يكون من وزن الريشة، كما فعلت من قبل مع العراق وكما تفعل الآن مع إيران، أما نحن فلدينا نزعة سخيفة إلى التقليل من قدرات أعدائنا والتبشير بهزيمتهم وانهيارهم "عمـّال على بطــّال"، بالرغم من أنهم قد يكونون امبراطوريات رهيبة، كما يفعل الآن بعض المبشرين بسقوط المشروع الأمريكي العملاق. صحيح أن الأمريكيين يعانون الآن في بعض المناطق العربية، وصحيح أيضاً أن البعوضة تدمي مقلة الأسد، لكن هل يكفي إدماء المقلة كي نقول إن الأسد قد هُزم؟ هل يفـّل الحديد إلا الحديد؟ أين هو ذلك المعدن الذي يستطيع أن يفـّل الحديد الأمريكي؟ ألم يصبح العالم مليئاً بالقواعد العسكرية الأمريكية، من الصين حتى العراق؟ أليس من السخف التبشير بفشل المشروع الأمريكي في المنطقة؟ هل باتت الأنظمة العربية تتحدى المخططات الأمريكية، أم أنها تزداد خضوعاً ووهناً؟ ألم تسر القمة العربية الأخيرة على هدي التعليمات الكوندوليزية تماماً؟
أرجو أن لا يُفهم هذا المقال على أنه دعوة للاستسلام المجاني. معاذ الله! فحتى العصافير تدافع عن أعشاشها بمناقيدها الغضة ضد المعتدين. لكن ألم يحن الوقت للتوقف عن ممارسة التفكير الرغبي wishful thinking المبني على الرغبات والأمنيات؟ متى نتوقف عن معاقرة ما أسماها نزار قباني "تجارة الأوهام"؟