أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
الفوضى «الهلاّ كة»..!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 25.2.07

لست معنياً كثيراً باللفظ العربي للخطة الأمريكية المسماة «الفوضى الخلاقة»، وما يعنيني فعلاً هو كيف يلفظها الأمريكيون بلكنتهم الإنجليزية، فهو الأصح والأكثر تعبيراً عن فحوى الخطة ومراميها، فنظراً لأن اللغة الانجليزية لا تحتوي على حرفي الخاء والقاف، فإن الاستراتيجي الأمريكي مضطر، وهو يلفظ ذلك المصطلح، لأن يستبدل حرف الخاء بـ الهاء والقاف بـ الكاف، فتصبح «الفوضى الهلاكة»، أي التي تؤدي إلى الهلاك. وهذه ليست المرة الأولى التي يفصح فيه واضعو السياسات الأمريكية،، عن أهدافهم الحقيقية من دون قصد. فعندما كانت وزارة الدفاع الأمريكية تحضّر لغزو العراق طلبت من جهازها الإعلامي والمعنوي أن يضع لها عنواناً براقاً لعملية الغزو، فسموها «Iraq Liberation Operation»، لكن سرعان ما انتبه الخبثاء في الوزارة إلى أن الأحرف الثلاثة الأولى لـ«عملية تحرير العراق» تشكل كلمة «Oil»، أي النفط، وهو الهدف الحقيقي من وراء الغزو، وليس التحرير، فسارعوا إلى تغييرها كيلا ينفضح أمرهم من البداية. وكذلك الأمر، على ما يبدو، بالنسبة لمصطلح «الفوضى الهلاكة»، فهي، كما ظهر لنا حتى الآن، لم تخلق لنا سوى الموت والدمار والهلاك.
لم تعد الخطة الأمريكية أعلاه للاستهلاك الإعلامي، بل أصبحت حقيقة مرعبة واقعة على الأرض، من لبنان إلى البحرين إلى الكويت إلى السعودية واليمن والصومال، فضلاً عن العراق وقبل ذلك إيران وتركيا. فليس صحيحاً أبداً أن الرئيس الأمريكي يتخبط في سياساته الشرق أوسطية، بل على العكس تماماً، فخططه تسير على قدم وساق، حسب ما هو مرسوم لها.
لقد حك المخططون الأمريكيون رؤوسهم وتساءلوا: كيف يمكن لنا أن نشعل فتيل الفوضى والاقتتال والتناحر في الشرق الأوسط كي نمرر سياساتنا المنشودة؟ هل نحرض الشعوب على الحكومات؟ بالطبع لا، فهذا ليس في مصلحتنا ولا في مصلحة حلفائنا الحاكمين، ناهيك عن أن النضال السلمي والمدني ضد الحكومات في العالم العربي صعب للغاية، فما بالك بالعنفي. وجدتها، وجدتها، صاح المخطط الاستراتيجي الأمريكي: ما هو أكثر الاسلحة تدميراً في تفجير المجتمعات العربية والاسلامية، ونسف استقرارها، وتعطيل تنميتها ونهضتها؟ إنه السلاح الايديولوجي الذاتي: المذهبي والطائفي، أي سلاح استغلال الدين في الألاعيب السياسية، كما يجادل زين العابدين الركابي في مقال رائع له. «لنحدث إذن حروباً أهلية على أسس مذهبية وطائفية وسلطوية، فهي كفيلة بتمرير كل مشاريعنا ومخططاتنا دون أن نطلق رصاصة واحدة». ويبدو أن مبتكري نظرية «الفوضى الخلاقة» ومهندسيها قد سجلوا هدفاً في هذا المجال. صحيح أنهم لم يصنعوا اللغم المزلزل القاتل، لكنهم وظفوه في خدمة نظريتهم، والا كيف تكون الفوضى؟ وبم يتحقق التفجير؟
ولو أخذنا ما يحدث في العراق مثالاً لوجدنا أن المشروع الأمريكي هناك لم يغرق في المستنقع العراقي، كما يشيع البعض، بل على العكس يحقق معظم أهدافه. لقد انتقد الكثيرون قيام الحاكم الأمريكي بحل الجيش العراقي وما تبعه من انهيار وفلتان أمني وحرب أهلية. وقد تظاهر بعض الأمريكيين أنفسهم بأنهم أخطأوا في حل الجيش. لكن حل الجيش في واقع الأمر لم يأت اعتباطياً أبداً، بل كان مقدمة مطلوبة لما آل إليه وضع العراق الآن.
لقد كان هدف إسرائيل منذ زمن بعيد تقسيم العراق إلى كانتونات حسب وثيقة «كيفونيم» الشهيرة. وها هي الآن تحقق ما حلمت به قبل عشرات السنين بمساعدة آل الحكيم والجعفري والجلبي والعلاوي والبرزاني والطالباني. هل كان هذا التقاتل الطائفي والمذهبي ليتحقق لولا حل الجيش العراقي الذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من خطة «الفوضى الهلاكة»؟ بالطبع لا. صحيح أن المقاومة العراقية أدمت أنف الغازي الأمريكي، لكن متى كان نزيف الأنف قاتلاً؟ هل كانت واشنطن تريد أكثر مما حققت في العراق حتى الآن، ربما، لكن الذي تحقق لها حتى هذه اللحظة يعتبر إنجازاً كبيراً جداً بمفهوم الغزو. فلم يعد العراق يشكل أي تهديد يذكر لا للدولة العبرية ولا للمصالح الأمريكية في المنطقة. وهذا إنجاز تاريخي بكل المقاييس بالنسبة لأمريكا وإسرائيل، خاصة أن أمريكا نجحت أخيراً في تحييد المقاومة العراقية وتحويل «جهادها» إلى حرب مذهبية، كما أظهرت تقارير «الغارديان» البريطانية الأخيرة، أي أن الحرب أصبحت في بعض جوانبها أهلية، وليست ضد المحتل.
وحدث ولا حرج عن الوضع في لبنان، فهو يسير في الاتجاه المرسوم له أمريكياً حسب نظرية «الفوضى الهلاكة»، فقد غدا الحديث عن الصراع الطائفي والمذهبي أمراً يومياً بعد أن كان من المحرمات قبل ظهور النظرية الأمريكية سيئة الصيت. وكما في العراق، بدل أن تتوجه البنادق إلى قلب الأعداء الخارجيين غدت موجهة إلى قلب الخصوم الداخليين، تماماً كما ارتأت «الفوضى الهلاكة».
وفي فلسطين، نحج محمد دحلان في تنفيذ مخطط الفوضى على أكمل وجه عندما صاح بأعلى صوته أنه مستعد أن يرد الصاع صاعين لحماس وخصومه الآخرين، كما لو أن الذي يحتل فلسطين هي حركات المقاومة. وبدورها بدلاً من أن تهتم قوى المقاومة بمقاتلة المحتل انخرطت في لعبة التصارع الداخلي، كما حدث مع حزب الله في لبنان، وكأن ادخال حركة حماس في «اللعبة الديمقراطية» ومن ثم فوزها في الانتخابات وتسلم السلطة كان مجرد وصفة من وصفات «الفوضى الهلاكة» كي تصل الامور إلى ما وصلت إليه من تناحر وطني يخدم المشاريع الأمريكية والإسرائيلية خير خدمة. صحيح أن مكونات الطبخة الأمريكية الإسرائيلية الفوضوية في فلسطين لا تقوم على أسس مذهبية وطائفية كما في العراق ولبنان، إلا أن الجانب العقدي ليس بعيداً عنها، فحركة حماس مثلاً تـُعتبر، في المفهوم الأمريكي، إحدى فصائل التطرف الديني في المنطقة، وإذا تعذر وجود المعادل المذهبي والطائفي لها في فلسطين فلا بأس أن يكون خصمها فصائلياً. فلا يهم طالما أن النتيجة واحدة: «الفوضى الهلاكة».
ولم ينس منظرو «الفوضى الهلاكة» السودان، فعندما وجدوا أن النزاع العقدي بين الشمال والجنوب قد تمت تسويته من خلال اتفاقية نيفاشا، رأوا أنه لابد من إثارة فوضى جديدة في دارفور على أساس عرقي لأنه يتعذر إثارة شقاق طائفي أو مذهبي في المنطقة، كون سكان دارفور مسلمين وحافظين للقرآن الكريم.
صحيح أن «الفوضى الهلاكة» لم تتجذر بعد في الدول العربية الأخرى، لكنها تبقى ناراً تحت الرماد، ولا تحتاج سوى إعطاء الإشارة الأمريكية للاعبين حتى يبدأوا الكارثة، خاصة أن مجتمعاتنا تقف على برميل بارود بسبب السياسات الاقصائية الظالمة التي اتبعتها بعض الأنظمة الحاكمة بمباركة أمريكية منذ عشرات السنين، وكأن الأمريكيين كانوا يشجعون ذلك النوع من السياسات العربية التفتيتية الرهيبة للحظة المناسبة كي يستغلوها في عملية تفجير المجتمعات العربية من الداخل لتمرير سياساتهم ومخططاتهم المرسومة منذ زمن بعيد.