أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
عازف الأرغول (أبو حسن)..

بقلم : رشاد أبو شاور ... 15.11.06

متى رأيته وأين في المرّة الأولى؟
لا أستطيع تحديد الزمان والمكان، ولكنني تعلّقت به منذ سمعته يعزف على أرغوله. يخرج قصبات أرغوله من جيب صدر، ويدخلها المبسمين الرقيقين في القصبتين المشدودتين لبعضهما، ويأخذ في العزف دائراً حول نفسه كما لو أنه درويش يؤدّي رقصة (الميلويّة)، ثمّ يلوّح بيده اليسرى وأصابع يده اليمنى تلعب على ثقوب أرغوله، وكأن أصابع يده تنادي دبيّكة يتخيلهم، أو يستدعيهم من الذاكرة، ثمّ ينهي وصلته بالجلوس صامتاً وفي عينيه دمعات جمدت...
يدس يده في جيبه، ويفتح قبضته فإذا بها مليئة بكمشة ملبّس على نعنع، يوزّع الحبّات على الحضور، ويسرّب واحدة في فمه الأدرد، هازاً رأسه مع تنهيدة، ثمّ يطوي جسده ويغمض عينيه، ويستند بظهره إلى الجدار إن كنّا نتحلّق حوله في الشارع، أو يريحه على مسند الكرسي إن كان في أحد المكاتب، ماداً ساقيه قليلاً، مطقطقاً عظامه، متنهداً، ثمّ يغرق في الصمت آخذاً قسطاً من الراحة بعد أن نفخ أنغامه في أرغوله، وأبسط (الشباب)، ورقّص بعض المولعين بالدبكة، وانتزع إعجاب حتى المسؤولين الوقورين الذين يبدون تحفظّاً خاصة وهم في حضرة مرافقيهم الذين كانوا فدائيين في (القواعد) قبل أن يؤتى بهم إلى (الفاكهاني) ليحرسوهم، ويقضوا حاجات أسرهم البيتيّة.
سمعته يقول بأنه من مخيّم (خان الشيخ) وأنه يعبر الحدود السوريّة اللبنانيّة عن الطريق العسكري - طريق الفدائيين - باحثاً عن ابنه الذي اختفى فجأةً، ووصلهم خبر التحاقه بالفدائيين في قواعد جنوب لبنان.
هو أبو حسن ولا شيء آخر، ولو فكّرت في سؤاله عن بلده الأصلي، واسم عائلته فإنه يتناوم، أو يمد أصابعه البنيّة الغامقة المكرمشة الجلد، ويعرض عليك حبّة حلو منعنعة تعطّر بها فمك، أو قد يعن على باله إن كان مزاجه رائقاً أن يلتقم مبسمي أرغوله ويأخذ في التقسيم الترتيلي الذي يحرك المشاعر فيشجي، ويهيّج ذكريات الحاضرين منتزعاً من صدورهم الآهات، والدهشة من عيونهم الشاخصة إلى أصابعه الرشيقة ولغديه المنفوخين.
هو اليوم هنا في بيروت، تراه أمام بناية (الإعلام الموحّد)، ربّما يتبادل الحديث الفكه مع (ماجد أبو شرار)، أو يتوجّه إلى مقهى (أم نبيل) ليأخذ فنجان قهوة مستجيباً لدعوات ملحاحة من مثقفين لا يخفون استطرافهم لشخصه وحنينهم لآباء يشبهونه لم يروهم منذ سنين، رافضاً بتاتاً أن يعزف وهو في المقهى، رغم الرجاءات والإلحاحات من شباب فلسطينيين يريدون أن يتباهوا به أمام اللبنانيين، والعراقيين، والسوريين، وبعض الضيوف الأجانب الذين يحضرون من بلاد بعيدة إعراباً عن تضامنهم مع (الثورة الفلسطينيّة)...
صديقي رسمي يعلّق وهو يميل رأسه:
- هذا العجوز أفّاق، إنه يتسلّى، أنا لا أصدّق أن له ابناً فدائيّاً، وأنه تائه عنه ولا يعرف شيئاً عن ابنه ذاك، وأنه يبحث عنه في قواعد الفدائيين.
أرّد عليه عادةً:
- ولكنه لم يطلب تسجيل اسم ابنه في أسر الشهداء، وهو عف النفس فلا نسمعه يسأل أحداً مساعدته، وهو لا يأخذ مالاً على عزفه، فقط يأكل لقمات قليلة عندما يجوع...
- لأنه لا ابن له استشهد...
- ربما ما زال ابنه حيّاً. الرجل يعيش على الأمل.. أتنفر منه يا صاح؟!
أسأله بشيء من الفصحى التي يميل للتحدّث بها أحياناً، سخريةً، أو تعمّقاً، أو كما نقول: تثاقفاً...
أغمض رسمي عينيه كما يفعل عادة عندما يتريّث في التعبير عن فكرة راودت عقله:
- إنه يتسلّى، إنه موسيقي شعبي كبير، وهو إلى ذلك ساخر كبير، إنه يسخر من الدنيا، يتعامل معها كعرس عابر، عرس غير دائم، عرس يتخلل حالة موت وحزن دائمين، رجل يعرف كيف يكسر الملل من الحياة...
- يمكنه أن يتسلّى في بيته، أو في الأعراس، ويحصل على شيء من المال يعين به نفسه على مشقّة الحياة!
تمر سيارة فدائيّة، يلوّح له شاب يجلس بجوار السائق، ويدعوه للذهاب معه إلى (صيدا)، فيهب أبو حسن قبل أن يكمل فنجان قهوته، مثيراً ضحك رسمي وتعليقاته الطريفة.
- جاكيتته لا تتغيّر، واسعة وبالية ونظيفة وإن كنت لا أعرف متى يغسلها. يبدو أن جاكتته كانت بنيّة بخطوط بيضاء، وحالت الخطوط البيضاء إلى صفراء معتمة متماهية مع اللون البنّي الذي بهت مع الزمن. يبدو أنه يرتدي جاكتته منذ الخمسينات، أقصد من أيّام توزيع (البقج) علينا أول الهجرة، هل تتذكّر أيام (البقج)؟!..
يضحك مضيفاً:
- مخلوق بالي المظهر، لكنه طريف، وعزفه لا كلام عليه، أنا لم استمع لعازف أرغول بهذه البراعة والشجن والطرب، مخلوق بالٍ غني الروح، لعلّه آخر عازفي الأرغول من بني جلدتنا.
يضحك مميلاً رأسه على كتفه الأيمن:
- يستحق أن يوضع في متحف للفنون الشعبيّة، نحنّطه، ونعلّق على صدره (قارمة) مكتوب عليها: عازف أرغول فلسطيني من القرن العشرين، من الأسرة الأخيرة لعازفي الأرغول...
سألته مسترسلاً مع جموح خياله:
- ولكن كيف مات، وأين، وكيف بقي محتفظاً بجسده سليماً؟ أكانت ميتته طبيعيّة، أم أنه استشهد في إحدى القواعد التي قصفت بينما كان يبحث عن ابنه الفدائي الذي ترك الدراسة في جامعة دمشق - كما يدّعي هو -و..؟! رسمي!.. خلقت لنا مشكلة، فنحن لا نملك وطناً، فمن أين لنا أن نؤسس متحفاً؟!.
كنت أجلس مع رسمي في مقهى (أم نبيل) غارقين في حالة حزن بعد قصف بعض القواعد الفدائيّة في الجنوب.
كنّا قلقين على العازف العجوز الذي توجّه في سيّارة عسكريّة أمس إلى القواعد في منطقة (النبطيّة) حيث وقعت الغارات، وسقط شهداء وجرحى...
كالعادة فاجأنا بظهوره على الرصيف قرب (دوّار الكولا)، وهو يعزف ماشياً حتى بلغ مكتبة (دار الطليعة) ليتوقّف ملوّحاً بيده اليسرى بينما أصابع يده اليمنى تلعب على الثقوب منغّمةً ألحاناً تنادي (الشباب) ليحضروا، وفي لمح البرق يلتف حوله فدائيون يحرسون المكاتب ملبين أنغامه وتلويحات يده...
تساءل رسمي وهو يبرم وجهه على عادته عندما يبدي دهشته من أمر ما يستثيره:
- ما هذا الجنون الفلسطيني يا صاح؟!
- سرياليّة فلسطينيّة يا صاح، لامعقول فلسطيني مبهج...
تركت رسمي في المقهى وتوجهت إلى حيث (أبو حسن) الذي باتت بيني وبينه مودّة:
- ها، ملصت من الطائرات في الجنوب، إلى أين ستتجه؟
- بعد ما انثيّع (نشيّع) الجناذات (الجنازات) لمقبرة الثهداء (الشهداء) ثأتجه إلى الثمال (سأتجه إلى الشمال)، فابني لو سمع عذفي (عزفي) سيحضر ولن يختبئ ويختفي عنّي. أنا لا أعترض على أن يثير (يصير) فدائيّاً، وكل ما في الأمر أنني أريده أن ينهي دراثته (دراسته)، ويثير مهندثاً (ويصير مهندساً)!.. أأنا غلطان يا ابن أخي؟ (هو يخاطب الكبار عمراً بابن أخي، أمّا الشباب فيخاطبهم يابا، فكّل واحد منهم عنده هو بمثابة ابن له).
وقبل أن أجيبه، أطلقت سيّارة جيب عسكرية منبهها، ولوّح له نفس الشاب الذي رأيناه أكثر من مرّة يصطحبه من الفاكهاني إلى حيث قواعد الفدائيين في الجنوب والشمال والبقاع.
تنبّهت على صوت رسمي، وأنا أعود لآخذ مكاني في المقهى الرصيفي الذي يمكّن الجالس فيه من رؤية أي عابر في الشوارع المتقاطعة حول جامعة (بيروت العربيّة):
- اكتشفت لعبة العجوز وابنه. وجدتها، وجدتها! الذي ينقّله إلى القواعد هو ابنه، إنهما أفاقان.. ما رأيك في استنتاجي هذا؟!
نقّلت نظراتي بين سيارة الجيب العسكريّة التي توارت، وملامح وجه رسمي المندهشة الساخرة، ووجدتني أنفجر بضحكة مجلجلة دون تعليق، منتظراً مفاجأةً جديدة من مفاجآت أبو حسن، ووصلة من عزفه على أرغوله التي تمنح الحياة في (الفاكهاني) ألفةً وطرافةً...
ستكون خسارة لو أن (أبو حسن) وجد ابنه واقتاده معه إلى دمشق الشام، ليعيده إلى الجامعة. من سيعزف لنا عندئذ، ومن يرقّص الدبيّكة الشباب، ومن يثير دهشة صديقي رسمي؟!
تنويه: هذه واحدة من حزمة قصص عن عازفي الأرغول، الذين عرفت بعضهم مباشرة وطربت لعزفهم، وسعدت واستمتعت بالدبكات التي امتدت بفضلهم في ليال خلت، وهم ينحنون على آراغيلهم، ويدورون في الساحات، ينفخون من صدور تدرّبت طويلاً على النفس الطويل وتحويله إلى أنغام راقصة في ليالي الأعراس الصيفيّة القمريّة - خّاصةً في مخيمات (أريحا) - الحزينة المتفجعة عندما يكون واحدهم في حالة حزن وشعور بالوحدة، أو عندما يمضّه الحنين لمن رحلوا من أحبابه، أو تدهمه ذكريات أيام البلاد قبل نكبة الـ48...

* كاتب وروائي من فلسطين يقيم في الأردن