أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
طائر اللّيل !

بقلم : دينا سليم ... 15.11.06

وجد طائر الليّل نفسهُ على قمة شجرة عالية معمرة، جذورها ظاهرة، تشقق الأرض بغلاظتها، قويّة تنافس أساس بيت ما في ضيعة نائية، غادره ساكنوه ليس من زمن بعيد. حام حول البيت قاصدا، حبّ الفضول حثّهُ على الاستمرار في البحث داخلهُ، وإذا به يتنبهُ لوجود طائر مختلف يستكين في بطن البيت.
غراب أسود قبيح، يوّزع نحيبهُ عبر الحجرات الخالية، يعاوده الصدى، صيحة تلو أخرى توقظ عجوز من نومه، ويا ليتها ما أيقظته!يصيح بصوته الأجش ناهراً، يحملق في الفراغ، يطبق عينية المثقلتين، ينغلق السقف المنخفض عليه ويعود إلى سباتهِ ويملأ الشّخير المكان…يحتار طائر اللّيل بما يسمع ويرى، الأصوات تزعجه والمكان يكدرهُ، يقرر الرجوع من حيث أتى بلا عودة، يحاول اللّحاق بأسراب مغادرة تراقص السّماء بأجنحتها.يقضي النهار بطوله في الرواح، مجانحة الرّياح ومراقصة الطيور التي لا تكف عن الغناء، تزقزق سعادة وتمرح فرحا حتى يجن الّليل، فتلوذ بأماكنها الأمينة، تتزاوج، تبني أعشاشها وتستعد لرحلة الحياة الجديدة. تقتات على حبة قمح وتكفيها قطرة ماء عذبة.ما هي إلا لحظات ويقرر العودة، فكرة الرجوع ليلا حيث البيت المهجور عذّبتهُ وأرقته، لكنه في قرارة نفسه أدرك تماما أن ثمّة علاقة وطيدة تربطهُ بالمكان!
دخل خلسة وفي أحدى الليالي المعتمة، دون أن تلحظهُ الغربان والعجوز مستغرقا في نومهِ. بحث في الزوايا، الأروقة والحجرات، علّهُ يجد إشارة أو علامة تدلهُ على حقيقة البحث وتفك لغز حيرتهِ.أمضى اللّيل بطوله بالبحث والتقصي، دار عدّة دورات حتى توقف أخيرا لدى سرّ البحث، سرّ المغادرة دون عودة… يحيط عنق العجوز الغليظة المتهدلة وحول معصمهِ، في أنفاسهِ، جيوبهِ وثيابه…يحوم ويحوم، يخطط للسلب، تمنى أن تترك الغربان المكان، وأن يتقوقع اللّيل حتى يستمر العجوز في سباتهِ، المهمة شاقة تتطلب وقتا طويلا وتركيزا جماً، إتقان لملمة الذكريات ليست هيّنة، فالأعوام التي أمضاها طائر اللّيل بمعية هذا الرّجل طويلة، إنها لا تحصى، الذكريات قابعة لا تأفل حتى لو ولج الصّباح مئات المرات فتبقى عالقة في كل مكان، على الجدران ومحفورة في المرايا.
ما أصعب ما يقوم به طائر اللّيل الآن، الحائم بحركاتهِ الدائرية وحركاته المنتظمة، يلملم مسترجعاً جميع ما جمعتهُ الأيام من خوف، نكسات، تردد، مراوغة، خيانة، و و و و والقليل القليل من السّعادة، ليس كي يحتفظ بها، لا وألف لا ! بل كي يلقيها وهو عائد داخل مياه محيط عميق هائج مجهول، يخفي جميع المعالم فتختفي الذكريات بمعية الأمواج المتكسرة على الدوام.
الكاتبه : روائية فلسطينية تقيم في استراليا