أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
في مخيم اليرموك...!

بقلم : رشاد ابوشاور ... 13.12.06

زرت دمشق، بالأحرى مخيّم اليرموك، في شهر واحد مرتين، لا لشمّ الهواء، ولا للتسوّق، وبالتأكيد ليس للمشاركة في حوارات الطرشان الفلسطينيّة.
في المرّة الأولى، وبعد أن فجعت بنبأ رحيل صديق العمر مأمون حيفاوي، العميد ألركن في جيش التحرير الفلسطيني، للمشاركة في ( أربعينه)، هو الذي رحل في اليوم الأوّل من شهر رمضان بنوبة قلبية.
تخرّج صديقي مأمون حيفاوي - المولود في صفد عام 1942، وأصل عائلته من حيفا - في الكليّة العسكريّة بحمص، وبعد سنوات قليلة وقعت هزيمة 5 حزيران، فحمل الكلاشنكوف وغادر ثكنات الجيش، وتوّجه خفيفاً إلى أغوار الأردن، ومن بعد جاب الجبال، والتلال، والوديان حتى جنوب لبنان.
هو عميد حقيقي، وليس مّمن منحت لهم الرتب للترضيّة، وشراء الولاء، لمن صار بعضهم في هذا الزمن ( نجوم) فضائيات، مشهورين وإن بما لا يشرّف، أثرياء ( ثورة)، ومراكز قوى يعبثون بمصير شعب، بينما ( الأبطال ) الحقيقيّون مجهولون عند شعبهم!
نحن في زمن ينسى فيه العقيد عبد الله صيام، والعميد سعد صايل و..ويشتهر فيه جنرالات خلّب !
الزيارة الثانية تلبية لدعوة للمشاركة بتكريم صديقي الروائي والقّاص الفلسطيني المقيم في دمشق، وهو من مواليد منتصف الخمسينات، يعني من الجيل الثالث بعد جيل غسّان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وسميرة عزّام، وإميل حبيبي، والجيل الثاني الذي أنتمي إليه...
في كل الزيارات، ومهما كانت الأسباب، فإنني لا أتخلّى عن الإقامة في مخيّم اليرموك، ضيفاً في بيوت الأصدقاء القدامى.
يوم 6 الجاري، الأربعاء، وهو يوم تكريم الصديق حسن حميد، توجّهت إلى دمشق، مؤمّلاً أن أصل إليها في غضون ثلاث ساعات، لآخذ قسطاً من الراحة قبل موعد الاحتفال في الساعة السادسة، ولكن سفرتنا تعثّرت بسبب وجود سيّدة عراقيّة معنا، وحال العراقيين بات كحال الفلسطينيين، فهم موضع شّك وريبة، ولذا يطول معهم السين والجيم في كّل حدود بلاد العرب، ومطاراتهم.
سألت السيّدة العراقيّة وقد علمت أنها تحتاج إلى محرم معها، وكان ذووها ينتظرونها ولكنهم لأمر ما تأخروا قبل الوصول إلى مركز الحدود ( نصيب)، ليصطحبوها معهم بعد التعريف عليها:
- من أين من فلسطين حضرتك ؟
تأملتني بدهشة، وأجابت:
- أنا عراقيّة أرمنيّة !
- أنت عراقيّة ولكنك بعد الاحتلال الأمريكي الديمقراطي صرت فلسطينيّة، فبعضكم يقيم في الخيام، وبعضكم تشرّد، وبعضكم مشتبه به مشكوك في أمره على الحدود و.. بعضكم يموت دون أن يعرف بأي ذنب يقتل!...
المسافرون، والسائق الخبير بمتاعب الفلسطينيين ضحكوا، أمّا الأرمنية العراقيّة فغرقت في الصمت، ربّما متّاملّة كيف تحوّلت هي العراقيّة الأرمنيّة إلى.. فلسطينيّة!
في شارع اليرموك التقيت بصديق قديم هو محمود عبد العزيز، الذي سيذكّركم اسمه بالممثل المصري الكبير بطل ( الكت كات)، ومسلسل ( رأفت الهجّان)، والكثير من الروائع.
هذا الصديق يباهي دائماً بأنه ( بروليتاري) – حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي - وهو يحلم بالعدل والحريّة، فالحياة هكذا لا تطاق، وعلى رأيه: عيب، عيييب نقبل بهالحال يا رفيق!
أمال رأسه، وعلى وجهه طيف ابتسامة ذاوية، وبعد أن شدّد بأن أتغدى عنده من الموجود، فلا راتب منذ ستة أشهر، وهو في قاع السلّم الوظيفي في منظمة التحرير، وراتبه أقّل من مائة وخمسين دولاراً، خاطبني بعتب:
- يا رفيق، أنتم الكتّاب، ماذا تكتبون، ها؟!
لم ينتظر جوابي:
- هل تعلم أن أسر الشهداء، تبيع الثلاّجات المتواضعة، والمسجّلات، والتلفزيونات، وحتى الكراسي، والأسرّة المخلّعة، والطاولات التي يدرس عليها الأبناء والبنات؟! ستة أشهر والناس بلا دخل، وأسر الشهداء تحصل على ملاليم، ولكن هذه الملاليم كانت تكفي للخبز، وأقلام ودفاتر..؟ هل هؤلاء الذين ( يتحاورون ) ويدوّخوننا بالحديث عن حكومة الوحدة الوطنيّة، وتلبيّة شروط الشرعيّة الدوليّة، والاعتراف.. يجوعون هم وأسرهم؟ لماذا لا تكتبون؟!
أخذ يروي لي حكايات مخجلة، متعبة للنفس، عن أسر باتت تنام على الطوى، الأبناء يتركون المدارس ليبيعوا العلكة، والكعك، تقريباً يتسوّلون!
- نحن نكتب يا صديقي، ولكن ما نكتبه لا يصل إليكم هنا، فالقدس العربي لا تصلكم، و..صمّت، لأنني خجلت أن أنصحه بالدخول إلى الإنترنت ليبحث عن موقع القدس العربي، متّبعاً أساليب حرب العصابات لتخطّي (الحصار) للاطلاع على ما نكتب...
أبو أيمن لم يعد مرحاً كأيّام زمان، وصاحب مقالب محببة، فالحزن رغم الابتسامة على الفم، يفيض على الكلام، وتقاطيع الوجه، وحتى مشيته المتثاقلة وهو يبتعد عنّي بظهر منحن، وكتف مائل من ثقل غير منظور.
عريسنا عنتر عبس !
عريسنا ليس عنترة العبسي، ولكن الفلسطينيين يغنّون عادة لعرسانهم هكذا:
عريسنا عنتر عبس
عنتر عبس عريسنا
في شارع متفرّع من ( اليرموك)، كان صخب الغناء للعريس الذي نذر والده أن يزفّه على حصان كأنه ( أبجر) عنترة!
السيّارتان اللتان تضمّان زواّراً وفدوا من فلسطين ال48، لم تتمكنا من دخول الشارع الفرعي...
مشهد الزفّة شدّ أنظار فلسطينيي ( البلاد)، فهم يرون عرساً من أعراس الشتات لأوّل مرّة.
قالوا: ننزل ونتفرّج. نزلوا:
يا شمس غيبي من السما
عالأرض في عنّا عريس،
قال القادمون من البلاد:
- يا عمّي هذي نفس الأغاني عندنا، والزغاريد هي هي، كأننا في الجليل، في حارة ( الصفافرة ) في الناصرة!..
ثمّ تهامسوا، ودسّوا أيديهم في جيوبهم، وتداخلوا مع المحتفين بعريسهم، وسألوهم عن ذوي العريس، فهنأوهم، وقالوا لهم:
- نحن من أهلكم من البلاد...
وهات يا قبل، ودموع، وزغاريد ترحّب بالحبايب...
لمّا عرف العريس أن هؤلاء من ريحة البلاد، نزل عن الحصان، فأخذه أهله القادمون من البلاد بالأحضان، ودسّوا مبلغاً من المال في جيبه جمعوه من بعضهم، وقالوا له:
- هذا نقوط من أهلك في الجليل، يسلمون عليك، ويقولون لك: أنجب أولاداً وبناتاً حلوين، وربيهم كويّس.. ونحن ننتظرك وننتظرهم هناك.. لا تتأخّروا علينا!
في شارع اليرموك قد تلتقي بزفّة عريس، وقد تلتقي بمن يخبرك بأن أسر الشهداء تبيع ممتلكاتها الفقيرة لتعيش بشرف، في زمن تبيع فيه (قلّة) من المارقين كّل شيء، وتدفع بشعبنا إلى الكارثة!