أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
ما أحوج لبنان والعراق إلى ديكتاتور!!

بقلم : د. فيصل القاسم ... 3.12.06

لابد أن أنوه أولاً إلى أنني أحتفظ في درج مكتبي بكتاب عزيز جداً على قلبي، ولا أملّ من قراءته، المرة تلو الأخرى، ألا وهو كتاب "طبائع الاستبداد" للراحل العظيم عبدالرحمن الكواكبي، الذي أبدع في فضح الطغيان والطواغيت وتعريتهم. لكن لو كان الكواكبي حياً هذه الأيام لربما نصح،على مضض، الشعبين اللبناني والعراقي بالبحث عن طاغية بـ"سراج وفتيله"، البارحة قبل اليوم، على الأقل مرحلياً حتى يتخلصا من آفة الطائفية القاتلة، وحكم العصابات، والمليشيات، والباكاوات، والزعران، الذي يتوارى أمامه حكم أبشع الطغاة خجلاً، مع الاعتراف طبعاً بأن المستبدين لا يؤمنون بمرحلية السلطة، ولا يغادرون كرسي الحكم إلا إلى القبر.
لكن لو قارنا العيش تحت نظام مستبد بالعيش في ظل "الديمقراطيتين" اللبنانية أو العراقية المزعومتين مثلاً، لترحمنا على الطغاة والمستبدين، ولطالبنا باستنساخهم. فديكتاتور يؤمّن للشعب الجزء الأساسي من"مثلث ماسلو" أفضل بألف مرة من حكومات تحكم البلاد على طريقة العصابات، والمافيات، وقطاع الطرق، تحت ستار الديمقراطية، ولا تؤمّن للشعب أبسط مقومات الحياة، كالماء والخبز، والكهرباء، والطاقة، والنظافة، والطبابة، ناهيك عن الأمن الذي أصبح في بغداد وبيروت أندر من لبن العصفور، ولاعجب، فعندما يكون نظام الحكم قائماً على مصالح طائفية ومذهبية، وفئوية، وعصبوية، ومافياوية، وميليشياوية، وباشاوية، وإقطاعية، فمن الطبيعي أن يكون الأمن والاستقرار عملة نادرة.
لا أعتقد أن هناك مثيلاً للبنان والعراق في العالم من حيث تركيبة الحكم الكوميدية، فكل دول العالم تتبادل سفيراً واحداً يمثلها لدى الدول الأخرى. أما العراق فله في الدول التي تربطه بها علاقات، عشرات السفراء غير السفير الرسمي، فهذا يمثل عبدالعزيز الحكيم، ، وذاك يمثل مقتدى الصدر، وذاك يمثل السيستاني، وذاك يمثل الجعفري، فحتى الأحزاب الشيعية لكل منها ممثله الخاص في الخارج. وحدث ولا حرج عن ممثلي أحمد الجلبي، وإياد علاوي، ومسعود البرزاني، وجلال الطالباني، وغيرهم. باختصار فإن لكل شرذمة عراقية "سفيرها".
وقد سبق اللبنانيون نظراءهم العراقيين إلى هذا التقليد العشائري المضحك، فلكل طائفة أو حزب لبناني ممثله الخاص في الخارج، هذا بالإضافة طبعاً إلى سفير الجمهورية. فللكتائب ممثلهم خارج لبنان، وكذلك القوات اللبنانية، وحزب الله، والتيار الوطني الحر، وحزب جنبلاط "الاشتراكي"، وحركة أمل، وتيار المستقبل الذي يمثله عشرات السفراء في كل بلد. لمَ لا، فالفلوس كثيرة، "واللي عنده قرش محيّرو يشتري فيه حمام ويطيّرو"؟
ولو كانت الأمم المتحدة تسمح بتعدد السفراء في مقرها في نيو يورك، لوجدنا ممثلاً لسمير جعجع، وآخر لجنبلاط، وآخر للحريري وعمر كرامي، إلخ،إلخ..... لاحظوا التشظي داخل الطائفة الواحدة! ولربما ضاقت مقاعد الجمعية العامة للأمم المتحدة بسفراء الشراذم اللبنانية، فما زال لبنان بلد الطواويس الزعاماتية، والمشيخات، والطوائف، والعقائد المتناحرة والمتكاثرة، على عكس الهند مثلاً التي استطاعت فعلاً أن تتخلص من تناقضاتها الطائفية والعرقية الخطيرة، ومهراجاتها، بالنظام العلماني والديمقراطي الحقيقي الذي صهر الجميع في إطار واحد، هذا بالرغم من أن أصغر ولاية هندية فيها من الطوائف، واللغات، والعقائد، والعرقيات أكثر مما في لبنان من سكان وسنديان. لكن مع ذلك فإن عدد الزعماء، والقادة، والسفراء اللبنانيين "ما شاء الله" يفوق عدد أعضاء البرلمان الهندي، ومهراجات بلاد الهند والسند مجتمعين.
هل هذه ديمقراطيات بربكم، أم عزب جاهلية متقيحة، جديرة بالاستئصال،عن بكرة أبيها؟ أيهما أفضل، هذا الإسهال الطائفي، والعرقي، والحزبي، والعبث التعددي، أم قبضة الديكتاتور الحديدية "الرائعة" التي تمنع تجار الطوائف والمذاهب، ومتعهدي الأحزاب، وسماسرة البرلمانات، والمقاولين، ولوردات الحروب، والقتل على الهوية، من العبث بخيرات البلاد، وثرواتها، وأمنها، وتركيبتها، وهيبتها، ووضع الطوائف، ومكونات المجتمع في حالة تناحر، واحتراب دائمين؟
من يستطيع أن يضبط أكثر من عشرين طائفة متصارعة في لبنان، ديمقراطية الطوائف، أم جنرال عضوض يؤدب الشياطين بكل من تسول له نفسه أن يحول البلد إلى دكاكين، وبوتيكات، ومحميات، وإقطاعيات سياسية قذرة؟ أليس لكل هذا الكون العظيم رب واحد؟ ماذا كان سيحدث لكوكبنا لو كان يديره "أرباب" على الطريقتين العراقية واللبنانية؟ ربما كان حال العالم مثل حالة اللبنانيين والعراقيين المساكين الذين أصبحوا فــُرجة تراجيدية للعالمين!
صحيح أن الطغاة حكام دمويون باطشون، لكن من قال إن زعماء الميليشيات، والطوائف، والعصابات المسيطرة في العراق ولبنان، ليسوا أسوأ من أسوأ ديكتاتور. إن نظرة بسيطة إلى تاريخ قادة الطوائف، والميليشيات اللبنانية تــُظهر لنا كم من الجرائم، والفظائع قد ارتكبوا بحق الأبرياء. هل لاحظتم أن "الديمقراطي" سمير جعجع مثلاً يرأس حزباً اسمه "القوات"؟ ديمقراطية وقوات، يا سلام!! أليس معظم قادة الطوائف اللبنانية لوردات حرب؟ أليس معظمهم تجار أزمات، ومتعهدي قتل، وسفاحين من الطراز الأول؟ كم من الرؤوس جزّوا، وكم من المجازر نفذوا؟ مع ذلك فما زالوا يتربعون على عروش لبنان الكثيرة، ويتدثرون بثوب الديمقراطية الملطخ بدماء ضحاياهم.
هل قادة المليشيات والطوائف العراقيون الذين برزوا على الساحة عقب الغزو الأمريكي أناس رحيمون، أم أن جرائمهم وفظائعهم ملأت العراق مقابر جماعية من كل الأصناف والأحجام، بحيث تقف "مقابر" النظام السابق خجلاً أمامها؟ مليون قتيل حتى الآن، والحبل على الجرار!! ومئات الألوف في المعتقلات و"الغولاغات" الشبيهة بغولاغ ستالين وهتلر. وعشرات الألوف يهجرون البلد يومياً. كل ذلك بفضل ديمقراطية عبدالعزيز الحكيم والجلبي وعلاوي والبرزاني والطالباني ومقتدى والكهنوتات الحاكمة التي عادت بالبلاد إلى عصر ما قبل الدولة.
لقد تحسّر كاتب عراقي أمامي قبل فترة على أيام "الديكتاتور الرائع" كما سماه معارض قديم، فعلى الأقل كان هناك،حسب قوله، "صدّام واحد، وعُدي واحد، وقـُصي واحد، أما الآن فلكل طائفة، ومذهب، وعصابة، وميليشيا، صدّاماتها، وعُديّاتها، وقـُصيّاتها. ما أرحم حكم الديكتاتور الأوحد!!" يتنهد صاحبنا، مترحماً على تلك الأيام الخوالي، في ظل "الديكتاتورية والاستبداد"، على مبدأ: "رب يوم بكيت منه، فلما صرت في غيره بكيت عليه!!.
ولو اقتصر هذا الفلتان على الإسهال الحزبي، والدبلوماسي في لبنان، والعراق لهان الأمر، لكنه انسحب أيضاً على الإعلام، ففي لبنان والعراق من القنوات التلفزيونية والصحف أكثر مما في بريطانيا أم الديمقراطيات. فكلنا يعرف أن عدد القنوات التلفزيونية البريطانية خمس لاغير، بينما يستحوذ كل عرّاب طائفة، أو عصابة في العراق ولبنان على عدد من التلفزيونات، والصحف، بحيث يحسده طوني بلير، وحتى جورج بوش على امبراطورياته الإعلامية المتناسلة كديدان المقابر.
أيهما أفضل وسائل إعلام رسمية يسيطر عليها الديكتاتور وحزبه، وتكتم أنفاس العابثين، وتجار المعارضة وسماسرتها، وتحفظ وحدة البلاد الترابية، والسكانية، وتمنع العبث بها، أم وسائل إعلام طائفية، ومذهبية، وشرذمية، وحاراتية، وزقاقية، لا هم لها سوى إثارة النعرات، وبث الفـُرقة، واللعب بالنار، والتهييج الأعمى، والتغني بأمجاد عرّابيها على طريقة المافيا؟ تباً لديمقراطية كهذه تسمح بتكاثر القنوات التلفزيونية، والصحف الطائفية الصفراء، كالفئران وجرذان المجارير، لتعيث خراباً، وفساداً، وفـُرقة، وقرفاً في نفوس المنكوبين بجرائمها، ومجازرها، وهمجيتها، وبلطجيتها البربرية؟
إن العراق ولبنان بأمس الحاجة لرجل قوي، سمه ماشئت، يجتث من الجذور، مدمني الفتنة، ومقاولي الطوائف، وتجار الدم والاغتيالات السياسية المدبرة والرؤوس المقطوعة والجثث المتفحمة، ويضرب بيد من حديد تلك الرؤوس العفنة، والنفوس المريضة، المسرطنة بالأنانية، والحقد، والطائفية البغيضة،التي تتستر بالديمقراطية، والتعددية، فيما تتصرف على الأرض على طريقة "الكابوني"، ومصاصي الدماء، وآكلي لحوم البشر.
البعض قد يجادل بأن هذه مرحلة مخاض ضرورية للعراق ولبنان كي ينتقلا إلى الديمقراطية الحقة مهما بلغت التضحيات. لكن الواقع يكذّب مثل هذا الطرح، فالعابثون بلبنان والعراق، حسبما نرى، سينقلون البلدين إلى رحمة الله!
وقد يقول البعض الآخر إن الأنظمة الديكتاتورية والطائفية هي من صنع أمريكي لأغراض أمريكية بحتة، وبالتالي لا داعي للتهليل للديكتاتورية وشتم "الديمقراطية" الطائفية. وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن البلدان التي حولتها أمريكا من ديكتاتورية إلى "ديمقراطية" طائفية منفلتة، تلعن الساعة التي فقدت فيها نظامها الشمولي الصارم، على علاته الكارثية. ولو افترضنا جدلاًَ أن النظامين منتوج أمريكي، لرجحت كفة الديكتاتورية، حسبما يرى أعتى منتقديها، وحسبما يظهر على الساحة.
لقد سفكنا على مدى الأعوام العشرة الماضية حبراً غزيراً في ذم الاستبداد، والطغيان، والديكتاتورية، وعلينا أن نسفك المزيد لتحرير عالمنا العربي من الطواغيت، وتحقيق نظام العدالة والحرية. لكن عندما يكون الاختيار المتاح أمامنا بين الرمد، والعمى، فلا شك أننا سنختار الرمد، على أمل الشفاء منه يوماً ما، واسترجاع أبصارنا.