أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
ادوارد سعيد...:"الاستدمار" أم "ألاستعمار"!!

بقلم : خالد كساب محاميد  ... 1.11.06

ادوارد سعيد – الخيارات اللغوية كبداية الثورة الفكرية لحل أزمة الفكر العربي : "الاستدمار" ام "الاستعمار"
في تلخيصه لجذور المشكلة الحضارية التي يعاني منها الشعب العربي حدد المفكر العربي ادوارد سعيد عناصرها في مقالة له كتبها سنة 1972 تحت عنوان التمنع والتعجب والتعرف, والتي استطيع أن ألخصها في النقاط التالية 1. " مشكلتنا أننا لا نملك على ما أعرف مؤسسات أو تقاليد لمعرفة الذات". والتي بالتالي نتجت عن – وهو النقطة الثانية 2. تجنبنا " عن تعهد الغنى العقلي. تجميع الممتلكات شيء مرئي : القيم العقلية والثقافية مخبوءة وهي لا تتكدس في أعمدة ولا تجيء إلا بإنفاق مجهود فكري جبّار".
ولأن الأمر كذلك, يحلل سعيد, بأن العرب عندما يفكرون بإسرائيل وعندما تَحْضُرْ في " أذهاننا والحيز النفسي الذي تشغله فينا والدور الرمزي الذي تمثله." فهي "بهذا المعنى, خوف يضغط علينا ومشكلة تحدق بنا, ولكن الوضع كذلك لأننا نتركه كذلك فلا نحن نتعرف على دورنا , ولا نتعرف على طبيعته. وهذا يمثل نهجنا غير التحليلي في كل شيء. فنحن شديدو الثقة بأن الأشياء هي كما هي حتى أننا لا نعود إليها بالتحليل أو التأمل ولا نعيشها من جديد...بما في ذلك ماضينا وحاضرنا أو ذواتنا " وكأنه يقول المثل العربي "اللي ما بيعرف الصقر بيشويه" والذي يقال للشخص الذي يفعل شيئاً لا يعرفه.
وسعيد يقترح لأجل أن نخرج من هذه الأزمة "أن نعرف اللغة التي كتبنا فيها بألفاظها وقيمها, بأساطيرها وتاريخها المتغير, ونحتاج فوق ذلك أن نتعرف كيف تنتمي كلغة إلى أسرة اللغات وكيف تحتفظ في ذلك بتميزها, كما ينبغي أن نسأل عما إذا كانت أساليبنا التحليلية قد وفت بالغرض, وما إذا كانت ملائمة لقراءتنا ومعرفة جوهر بنيتنا وما إذا كانت تساعدنا على كتابة أنفسنا بحيث نكون نصاً متماسكاً لا مجرد عبارات متفرقة بعضها كتبناه نحن وبعضها كتبه الآخرون. وينبغي أخيراً –كما يفعل الكتاب الكبار أن نعيد الكتابة ثم نعيد ونعيد" ](من كتاب إدوارد سعيد مقالات وحوارات تحرير محمد شاهين ص 56-59[
ولذلك نرى بأن سعيد خصص جزءا كبيرا من نظريته التحليلية للعلاقة المتبادلة بين الحضارات معتمدا على تحليله اللغة ووظيفتها وكيف يربطها بالسيطرة على المعرفة عن طريق استعمال المفردات والتي بالتالي تؤدي الى خلق مفاهيم وبالتالي مواقف فتصرف سياسي مقصود وهذا ما يفسره لنا الكاتب " تيري كوتشران" في استعراضه لأعمال سعيد بمقالة تحت عنوان " مادة اللغة" وردت في كتاب "الحق يخاطب القوة" من تحرير بول بوفيه ص 125 : " وفي السنوات العشرين الأخيرة و ومنذ نَشْرْ "الاستشراق", كان لنظرية التاريخ, كما قدمها مقال نيتشه, أصداء مهمة في النقد المعاصر. وأياً كانت أهدافها النهائية, فإن ردود الأفعال هذه, تنتهي لدي أقل إيمائة بإتجاه التضمينات السياسية لتلك النظرة المادية للغة....ورغم أن دومان يسعى إلى قراءة للرموز المجازية في نص نيتشه ليوضح كيف أن تجسيداتها تُفقدها قوة تأكيداتها, فإن تعليقاته تكشف عن القوة المزدوجة الكامنة في اللغة. ويشير دومان إلى تلك القوة على أنها قوة ""إبستمية""و ""استراتيجية""و ترتبط في ذات الوقت بإنتاج المعرفة بالحث والإقناع والتحريض على الأفعال. وبتعبير آخر, فكنتاج لتكوين مؤسساتي مستمر, فإن اللغة تفرض, وتتحايل, وتُقنع, لكن قوتها أكثر خبثاً لأنها تكمن في مفاهيمها, أي في مادة الفكر نفسها. وتسبق هذه القوةو مفاهيمياً, عملية التمييز والمقارنة, وتعمل باسم السطوة, مثلما لا يستطيع القاضي فعل شيء أكثر من تأكيده عدم تحيزه" وهذه المفاهيم التي طورها سعيد في تداوله أعمال "دي ساسي" في كتابه "الاستشراق"
ولأهمية اللغة كما يعرضها لنا سعيد وما لها من مكانة في تفكير المبدعين العرب رأى شاعرنا محمود درويش أن يخاطب لغته قائلاً في قصيدة منفى (1) نهار الثلاثاء والجوُّ صافً الواردة في ديوانه كزهر اللوز أو أبعد :
لَسْتُ فتيّاً لأحمل نفسي
على الكلمات؛ ولست فتيّاً
لأكمل هذي القصيدة/
أمشي مع الضاد في الليل-
تلك خصوصيتي اللغويةُ – أمشي
مع الليل في الضاد كهلاً يحثّ
حصاناً عجوزاً على الطيران إلى برج
إيفل. يا لغتي ساعديني على الاقتباس
لأحتضن الكون. في داخلي شُرفَةٌ لا
يَمَُرَّ بها أَحَدٌ للتحيَّةّ. في خارجي عالم
لا يردُّ التحيَّة. يا لغتي ! هل أكون
أنا ما تكونين؟ أم أنت – يا لغتي-
ما أكون؟ ويا لغتي دَرِّبيني على
الاندماج الزفافيّ بين حروف الهجاء
وأعضاء جسمي –أكن سيّداً لا صدى.
دَثِّريني بصوفك يا لغتي, ساعديني
على الإختلاف لكي أبلغ الإئتلاف. للِدِيني
أَلِدْك. أنا ابنك حيناً, وحيناً أبوك
وأمُّك. إن كنتِ كنتُ, وإن كُنْتُ
كُنْتِ. وسَمِّي الزمان الجديد بأسمائه
الأجنبيّةِ يا لغتي, واستضيفي الغريب
البعيد ونَثْرَ الحياة البسيطَ لينضج
شعري. فَمَنْ – إن نطقتُ بما ليس
شعراً – سيفهمني؟ مَنْ يُكَلّمني
عن حنينٍ خفيٍّ إلى زمن ضائع إن
نطقت بما ليس شعراً؟ ومن – إن
نطقت بما ليس شعراً – سيعرف
أرض الغريب؟ (ص 122)
ولفهم سعيد أهمية اللغة رأى أن ينظر إلى أعمال الدول الإمبريالية في استعمالاتها للغة كطريقة للسيطرة على الدول المستضعفة وبكلماته يكتب في كتابه الاستشراق ص 318 الاستشراق : "في كل ما لم أزل أناقشه, تلعب لغة الإستشراق دورا طاغياً. فهي تقر بالأضداد بوصفها "طبيعية" , وهي تقدم الأنماط الانسانية بعبارات جاهزة ومناهج بحثية , وهي تنسب الحقيقة والقدرة الاشارية لأشياء (هي ألفاظ أخرى) من اختراعها. ان اللغة الاسطورية إنشاء, أي أنها لا يمكن أن تكون منتظمة , والمرء في الحقيقة لا يصنع الأنشاء متى شاء, او التقريرات التي يتضمنها, دون أن ينتهي أولاً – بشكل لا واعٍ في بعض الحالات, انما لا اراديا في أية حال- الى العقائدية والمؤسسات التي تضمن وجودها. وهذه المؤسسات هي دائما مؤسسات مجتمع متقدم يتعامل مع مجتمع اقل تقدماً, ثقافة قوية تواجه ثقافة ضعيفة. والملمح الرئيسي في الإنشاء الأسطوري هو أن يخفي أصوله كما يخفي أصول ما يصفه. "فالعرب" يُعرضون في صور أنماط سكونية, مثالية تقريباً, لا كمخلوقات ذوي طاقة كامنة في طريقها إلى التحقق ولا كتاريخ يُصنع. وتسمح القيمة المبالغ فيها التي يكدِّسها الإستشراق فوق اللغة العربية للمستشرق بجعل اللغة معادلة للعقل, والمجتمع, والتاريخ, والطبيعة. واللغة, بالنسبة للمستشرق. تنطق الشرقي العربي, وليس العكس."
هذا ما كان كتبه ادوارد سعيد والذي كما يعترف جهابذة العالم على حد قول السيد الكاتب " تيري كوتشران" قد احدث "أصداء مهمة في النقد المعاصر". إلا اننا كعرب كما ألاحظ لم نرتفع الى المستوى الذي نستطيع أن أقول فيه بأننا استوعبنا ما كتبه لنا ابن امتنا العربية لنستخدمه في إدارة الصراع مع خصومنا.
ولذلك أرى في أن مهمتنا هي أن نترجم ما أبدع فيه سعيد وتحويله إلى آليات سياسية نتداولها في صراعنا وخطابنا اليومي مع أعداء حضارتنا العربية ليس حصرا بل تحديدا لإحتدامية الإنشاء في المقال.
ولعلني أكون مخلصا لبعض الكتاب العرب فيما أظهرت من خلال قراءتي لأعمالهم في أن تفكيرهم يصب إلى ما عناه سعيد من أن واجبنا هو التحدي عن طريق تحليل المصطلحات التي نستعملها وذلك لنساهم في تقوية تملكنا "لمؤسسات أو تقاليد لمعرفة الذات". و " تعهد الغنى العقلي. بإنفاق مجهود فكري جبّار". على حد تعبيره.
فدعونا نفحص كيف " تلعب لغة الإستشراق دورا طاغياً. فهي تقر بالأضداد بوصفها "طبيعية" , وهي تقدم الأنماط الانسانية بعبارات جاهزة ومناهج بحثية , وهي تنسب الحقيقة والقدرة الاشارية لأشياء (هي ألفاظ أخرى) من اختراعها." في تحليلنا لاستعمال مصطلح "الإستعمار" الذي لم يرَ سعيد نفسه أي شائبة في استعماله وهكذا لربما نستطيع أن نرى إخفاقةً حتى لديه بتطبيق علومه وثقافته في حين اقترحت أنا في كتابي "الفلسطينيون ودولة المحرقة - الى متى سيدفع الفلسطينيون وطنهم ثمنا لآثام الأوروبيين وكيف سيستردونه"" الذي أصدرته في شهر ايار 2006 استعمال كلمة "الإستدمار" بدلا من كلمة "الإستعمار" .
وكان تعليلي لذلك في النص كما ورد في الكتاب ص 18 "فلو كان الأوروبيون والأمريكيون يعتبرونها دولة طبيعية (إسرائيل) ذات سيادة كاملة، لكان عليهم ان يطلبوا اليها التصرف بحسب كونها كذلك. والمقياس على هذه الطبيعة يأتي، للمفارقة التاريخية، من خلال تحليل شكل تعامل إسرائيل مع الأقلية الفلسطينية التي تتمتع بما يسمى "المواطنة الإسرائيلية". فإذا كان العالم كله قد خاض الصراعات الدامية إبان فترة الاستدمار (ما يسمى الإستعمار)، وفترة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفترة الحرب الباردة، ليتوصل في النهاية إلى النتيجة بأن ما يجعل الدول المستقلة ذات قوة بناءة تحافظ على استمرار وجودها هو مبدأ الديمقراطية, المساواة، الحفاظ على حقوق الإنسان، حرية التعبير عن الرأي، حرية الصحافة، نبذ العنصرية، حق الملكية الخاصة المقدس , فصل السلطات وحكم القانون وباقي المبادئ التي تعتمد عليها أوروبا الغربية وأمريكا وتتشدق بها ليل نهار، وإذا كان هنالك إدّعاء بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في منطقة العالم العربي، فلماذا يُسمح لاسرائيل إذن بعدم تطبيق هذه المباديء؟ لماذا يسمح الاوروبيون والامريكيون لإسرائيل بأن تمارس سياسة غير منصفة تجاه الاقليات فيها، والتي من بينها مصادرة أراضي السكان العرب لأغراض عامة، واعطاؤها بالتالي للسكان اليهود."
وكان المفكر العربي مرزوق الحلبي قد نشر مقالا في موقع ايلاف في تاريخ 8-10-2006 تحت عنوان لزوم انعتاق المسألة الفلسطينية من أسرها!.. يُظهر ما أعتبره شخصياً الأسس الثورية الناهضة بالحضارة العربية من سباتها كما عرضناها أعلاه حول تفكير المفكر سعيد ادوارد, نلخصه في هذا الاقتباس الهادف " وأخال كل ما هو متعارف عليه فلسطينيا من إنشاءات وتراكيب لغة وأنساق ومبان فكرية واستراتيجيات وأدوات تفكير وعمل، كلّها ينبغي أن تخضع للمراجعة المعمّقة والمنعتقة من أسر ثقافة الثورة الحلم والمشاريع المتقادمة."
على أن هذا التلخيص يضمن براعم التفكير بأمر المأساة العربية ودور اللغة في مهمة رسم استراتيجية هجومية على الثقافة الامبريالية والصهيونية وليس فقط التصدي كرد فعل لمبادرات الامبريالية والصهيونية.
وهذا هو ما كان خلاصة تفكير ادوارد سعيد كما المسه في تفكير المفكر العربي مرزوق الحلبي الذي أيضا أبى الاّ أن يعبر عن أفكاره حول اللغة بقصيدة شعر سماها "لغة الغريب" كتبها قائلاً :
"لا أفق للأفق
والمكان سدّت عليه لغة الغريب جميعَ الجهات
كلّما راودتنا حرّيةٌ مرتجاةٌ
أغلقت المدنُ أبوابها وحاصرتنا الزقاقات
لغة الغريب باغتت منا الطفولةًَ
ومطالعَ القُبلات
وجرّحت وجه الأماسي
وعكّرت صفوَ الصباحات"
نجد نفس المفاهيم التي لمستها في مقالة للكاتب محمد نفاع بمقالته التي نشرت في جريدة الاتحاد وموقع الجبهة يوم الأثنين 30/10/ 2006 تحت عنوان "الدمقراطيات الغربية والاستعمار" يتداول فيها الضرورة الثورية في أن يتمحص الوطنيون العرب في المصطلحات التي يستعملونها في خطابهم السياسي ويمثل لنا بادءا بمصطلح "الاستعمار" ويعلل لنا بأن هذا المصطلح لا يعبر عن المفهوم والدلالات التي تشكله الظاهرة التي تسببت "بان غالبية قتلى البشرية في العصر الحاضر الطويل هم ضحايا الاستعمار لهذه الدمقراطيات وحروبها الاحتلالية واللصوصية" و "بان كل المصائب التي اصابت وتصيب هذا العالم الثالث والرابع من فقر وامية وتأخر وجوع وتلوث بيئة وازمة سكن وجنوح ونسبة جريمة عالية هي بالاساس نتيجة لهذا الاحتلال. ويقترح ان نكف عن تسمية هذه الظاهرة بالاستعمار واستعمال المصطلح الملائم لهذه الظاهرة وهو "الاستدمار".
وهذا هو المفهوم الذي كنت قد أكدته في كتابي إياه "الفلسطينيون ودولة المحرقة" حين كتبت ما يلي : " ان الإعتماد على القيم الاخلاقية غير المنصفة "إثنيا"ً العقيمة التي تنفي مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان، والتي هي المبادئ نفسها التي تسمح لاسرائيل بمصادرة الاراضي ومعاملة الفلسطينيين بهذا الشكل، هي المبادئ والقيم الاخلاقية ذاتها التي أدّت إلى نشوب الحرب العالمية الاولى والثانية ومحرقة أبناء أبينا إبراهيم. فانظروا إلى ما آلت اليه هذه القيم الاخلاقية العقيمة التي سمحت باحتلال الهند ودول اخرى – ماذا كانت النتيجة، تدمير اوروبا كلها مرتين ومذبحة أبناء أبينا إبراهيم. وماذا كان مصير بريطانيا "العظمى" واين هي عظمتها؟ ص 207
ولعلنا نجد في هذا التفكير ما يبشر لنا بنبوت البذور لثورة فكرية عربية جديدة معتمدة الاصول الانسانية الشاملة بدءاً بأدوارد سعيد بالكاتب محمد نفاع والمفكر مرزوق الحلبي وأنا قمت بدوري المتواضع وأدعو المفكرين العرب الى شحذ عقولهم والتعلم من تجربة ادوارد سعيد وتطبيق ما كان قد أنتجه وأود أن أشير إلى أن لدي شكوكاً كثيرة بأن مصطلح "النكبة" فيه كثيراً من مواضع للتفكير والتمحيص وعلى ذلك أطلب من المهتمين التمعن في هذا المصطلح ولكي أنهي بكلمات سعيد اقول "وينبغي أخيراً –كما يفعل الكتاب الكبار أن نعيد الكتابة ثم نعيد ونعيد." كي "نعود إليها بالتحليل والتأمل وأن نعيشها من جديد" لكي تنفعنا "بإنتاج المعرفة" وبالتالي "الحث والإقناع والتحريض على الأفعال."

الناصره