أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
اللهم نجـّـنا من نار الديمقراطية!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 24.9.06

لا بد أن اعترف أولاً بأنني كنت من الذين خـُدعوا، على مدى الأعوام الماضية، بهمروجة أن الديمقراطية تحمي الأوطان من التهديدات والتدخلات الخارجية. وقد تعزز لدينا هذا الشعور بعد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط النظام العراقي أمام جحافل الغزاة، ظناً منا(وكل الظن أثم هنا) أنهم غزوا العراق عقاباً لنظامه "المستبد". وكم تشدق بعض الليبراليين العرب الجدد بأن الغزو الذي تتعرض له المنطقة العربية لا يعود إلى الأطماع الاستعمارية الحقيرة بل إلى تحكم الأنظمة الشمولية برقاب البلاد والعباد، وأن الطغاة يجلبون الغزاة، وأن الديمقراطية هي المضاد الحيوي الأنجع لحماية المجتمعات من الأخطار والتهديدات الخارجية. وقد أثبتت الأيام أنها كذبة من العيار الثقيل تلقفها الكثيرون من المثقفين وأشباه المثقفين ليكتشفوا لاحقاً أن الديمقراطية،من سخرية القدر، هي التي جلبت المصائب والكوارث لبعض بلداننا، لكن ليس لأن الديمقراطية كممارسة سياسية ليست مطلوبة عربياً، بل على العكس تماماً.
ما أن بدأ الحراك الديمقراطي يدب شيئاً فشيئاً في منطقتنا حتى ارتفعت وتيرة العدوان الأمريكي والصهيوني على هذه المنطقة. وقد كشفت العملية الديمقراطية الفلسطينية الرائعة زيف الإدعاءات الغربية. فقد عمل الفلسطينيون بمبدأ "إلحق الكذاب لورا الباب"، فأجروا انتخابات لا أنزه ولا أحسن، لكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر بالنسبة للذين كانوا يعيروننا بالاستبداد والديكتاتورية. فقد أصيب الأمريكيون والصهاينة ومن لف لفهم بخيبة أمل كبيرة بعد إعلان نتائج الانتخابات الفلسطينية، خاصة وأنها رفعت إلى سدة الحكم حركة المقاومة الإسلامية حماس التي تعهدت على رؤوس الأشهاد بأنها،كما فازت بطريقة ديمقراطية، فإنها ستحكم وستتصرف بطريقة ديمقراطية، لعلها بذلك تسحب البساط من تحت أولئك الذين كانوا يعيرون الفلسطينيين بديكتاتورية قيادتهم وفسادها.
وقد تمكنت حركة حماس فعلاً من إفحام الأوروبيين والأمريكيين وربيبتهم في المنطقة إسرائيل، لكنهم، بدلاً من التصديق على العملية الديمقراطية في فلسطين ومباركتها راحوا يرتبون الخازوق تلو الآخر للسلطة الفلسطينية المنتخبة، وكأنهم بذلك يقولون للفلسطينيين وبقية الشعب العربي التائق للديمقراطية والعدالة والحرية والنزاهة: إياك وإن تحذو حذو الفلسطينيين وإلا سنريك "نجوم الظهر"، خاصة وأن "سادة الديمقراطية" في العالم أوفوا بمثل هذا الوعيد مع الفلسطينيين، فسدوا كل المنافذ في وجوههم ومنعوا وصول أي مساعدات مالية إليهم مما جعل الموظفين والعمال الفلسطينيين يعيشون بدون رواتب لشهور وشهور، فتفاقمت الأوضاع الداخلية إلى حد الجوع.
ولما شعر تجار الديمقراطية الأمريكيون والأوروبيون والإسرائيليون بأن ضغوطهم على الشعب الفلسطيني عقاباً له على ديمقراطيته قد باءت بالفشل، أوعزوا إلى كلب حراستهم كي يؤدب ذلك الشعب، فانطلقت آلة الحرب الصهيونية الفاشية تدمر البيوت فوق رؤوس أصحابها الفلسطينيين وعادت طائراتها ودباباتها تعيث خرباً ودماراً حتى في المناطق التي كانت قد انسحبت منها. وقد وصل الأمر بـ"الديمقراطيين" الإسرائيليين إلى اعتقال معظم ممثلي الشعب الفلسطيني المنتخبين ديمقراطياً، أي أعضاء المجلس التشريعي وبعض وزراء الحكومة. وتوجت عقابها للديمقراطية الفلسطينية باعتقال رئيس المجلس التشريعي نفسه بمباركة كاملة من "أولياء" الديمقراطية في العالم، أي الأمريكيون والأوروبيون.
لقد كانت الديمقراطية وبالاً ما بعده وبال على الشعب الفلسطيني. ولو ظل الأمر محصوراً في فلسطين لقلنا إن الفلسطينيين وإسرائيل في حالة حرب منذ زمن بعيد وما ينطبق على الحالة الفلسطينية لا ينطبق على غيرها. لكن سرعان ما ازداد الموقف الأمريكي والإسرائيلي والأوروبي انفضاحاً، فما أن أحيا لبنان تجربته الديمقراطية العريقة بعد سنوات من التعثر والمعاناة حتى كانت له إسرائيل بالمرصاد، وكأنها تريد أن تقول للشعوب العربية أيضاً: إياك وأن تقلدي اللبنانيين وتسعي إلى الديمقراطية، وإلا سندمر مدنكم فوق رؤوسكم وسنعيدكم إلى العصر الحجري. وهذا ما تفعله إسرائيل مع الديمقراطية اللبنانية أيضاً بمباركة لا بل بتحريض كامل من "الديمقراطيين" الأمريكيين، فقد لحس الرئيس الأمريكي مواعظه الديمقراطية وشهادات حسن السلوك التي أغدقها على الحكومة اللبنانية بُعيد خروج القوات السورية من لبنان. ولعلنا نتذكر أن بوش أعطانا الانطباع في ذلك الوقت بأن قلبه يقطر دماً وحزناً على غياب الديمقراطية في لبنان في ظل الوجود السوري، مما حدا به وقتها إلى التأكيد على انتفاء القيمة الديمقراطية لأي انتخابات لبنانية تجري قبل خروج السوريين، مع العلم أنه فرض على العراقيين انتخابات مزورة من رأسها حتى أخمص قدميها تحت حراب أكثر من مائة وخمسين ألف جندي أمريكي محتلين وباطشين.
لكن ما أن أنجز اللبنانيون نوعاً من الديمقراطية، حتى أعاد الأمريكيون والإسرائيليون حساباتهم، فاغتنموا الحادث البسيط الذي قامت به المقاومة اللبنانية بأسر جنديين إسرائيليين، لا ليعيدوا لبنان إلى ما قبل العصر الديمقراطي فحسب، بل إلى العصور الوسطى، فحتى سيارات الإسعاف والمستشفيات لم تسلم من نازية آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة كاملاً من "سادة" الديمقراطية في البيت الأبيض. إنهم يريدون من لبنان بعد عمليتهم البربرية، لا أن يرمم ديمقراطيته الكسيحة، بل أن يمضي عقوداً وعقوداً في ترميم طرقاته وجسوره ومشافيه ومرافقه المهدمة، بحيث تصبح الديمقراطية بالنسبة له ترفاً ما بعده ترف.
هل ما زال الليبراليون العرب الجدد يعتقدون أن الديمقراطية تجلب الأمن والسلام للمنطقة وتجنبها ويلات الحروب وكوارثها وتبعد عنها الغزاة والمغول الجدد؟ أم العكس هو الصحيح؟ أليس من المفترض أن إسرائيل ولبنان دولتان ديمقراطيتان وأن الديمقراطيات لا تتقاتل؟ ألم يقولوا لنا إن الديمقراطيات تحترم بعضها البعض؟ ألم ينفضح أمر تلك الأكذوبة "الديمقراطية"؟ ألم يكن حرياً بإسرائيل وأمريكا وأوروبا أن تبتهج لانتخاب حكومتين لبنانية و فلسطينية بطريقة ديمقراطية لعلهما تتعاملان بشكل ديمقراطي مع إسرائيل "الديمقراطية" وتضعا حداً للحروب والاقتتال؟ لماذا انقضت إسرائيل "الديمقراطية" على "الزغاليل" الديمقراطيين في لبنان وفلسطين كما ينقض الذئب على الحمل؟ هل لاحظتم أن تل أبيب لم تمارس فاشيتها العسكرية الرهيبة إلا مع "الديمقراطيين" العرب، مما يذكرنا بمقولة غولدا مائير الشهيرة، وهي أن على إسرائيل أن تبدأ تخشى من خطر العرب عندما يشرعون بالصعود إلى الحافلة كل حسب دوره، فما بالك إذا نظموا انتخابات ديمقراطية شهد العالم بنزاهتها، كما حصل في فلسطين؟ لا شك أن الإسرائيليين لن يكتفوا بالخشية هنا، بل سيضربون بكل ما أوتوا من قوة، لأن أكثر ما يهددهم هو أن يصبح العرب ديمقراطيين فعلاً. وبما أن العرب غير قادرين حتى الآن على حماية أي إنجاز ديمقراطي من الخطر الصهيوني، فلا بد إذن أن يكتفوا بالديكتاتورية والاستبداد!!
لا أعتقد أن هناك شعباً عربياً يريد بعد كل ما رآه من همجية وفاشية إسرائيلية وأمريكية ضد الفلسطينيين واللبنانيين الديمقراطيين يود أن يكرر التجربة الديمقراطية في بلده. ولا أبالغ إذا قلت إن الشعوب العربية لعنت الساعة التي سمعت فيها بمفردة ديمقراطية، وإنها ستحمد ربها كل ساعة على حكوماتها "الاستبدادية" العظيمة. ويبشرونك بالإصلاح الديمقراطي والشرق الأوسخ، عفواً، الأوسط الجديد!!