أحدث الأخبار
السبت 28 كانون أول/ديسمبر 2024
إدوارد سعيد : مساهمته الجبارة في اكتناه أزمة الفكر العربي وما العمل بإنجازاته؟

بقلم : خالد كساب محاميد ... 30.9.06

لربما نستطيع أن نتساعد بقصيدة شاعرنا محمود درويش\منفى (4) . طباق (الى ادوارد سعيد)- من ديوان كزهر اللوز أو أبعدلنلخص في بعض الكلمات الملحمة الانسانية التي مثلتها حياة ادوارد سعيد ومساهمته لقول كلمة فلسطينية ينبغي لرأيي أن ندرسها جيدا ونعمل نحن العرب على استعمال آلياتها بالأخص في مواجهتنا للغرب الأمر الذي وظف حياته ونفسه له ادوارد. فمحمود درويش ينظم :
" نيويورك. إدوارد يصحو على كسل
الفجر. يعزف لحناً لموتسارت. يركض
في ملعب التنس الجامعيّ. يفكر في
هجرة الطير عبر الحدود وفوق الحواجز.
يقرأ "نيويورك تايمز". يكتب تعليقَهُ
المتوتّر. يلعن مستشرقاً يرشد الجنرال
الى نقطة الضعف في قلب شرقيّة....
... على الريح يمشي. وفي الريح
يعرف من هُوَ. لا سقف للريح.
لا بيت للريح. والريح بُوصلةٌ
لشمال الغريب."
يفرض فكر ونتاج إدوارد سعيد العلمي الثقافي الثوري السياسي على أبناء الشعب الفلسطيني الوطنيين أن يأخذوه بالجدارة والأهمية والجدية الملائمة ليتسنى للقضية الفلسطينية أن تستحوذ على مخيلة ليس فقط داعمي الشعب الفلسطيني بل, على حد قول إدوارد نفسه, "مخيلة مضطهدينا أيضا" وأن "يضع تاريخنا على الأجندة العالمية لرفع مظالم التاريخ".
لقد واجه إدوارد سعيد في نشاطه الفكري مفكري الغرب الإمبرياليين وكان قد أوقف هؤلاء على حدهم ويعود سبب انتصاره على هؤلاء لأسباب جذرية هي من الأهمية التي لا يجب أن نغفل فهمها وتدريسها لأبناء شعبنا الفلسطيني في صراعنا مع خصومنا التاريخيين.
أولا : لقد انطلق إدوارد سعيد في "مسحه" للفكر الإنساني الشامل من منطلقات إنسانية شاملة ولم يتقوقع في أن يرى التاريخ وكأنه ابتدأ فقط منذ 200 سنة أي منذ السيطرة الإمبريالية الغربية على العالم. فبالتناقض مع ما قام فيه الامبرياليين من "مسح" للثقافات التي أرادوا مصادرتها وبكلمات ادوارد " المعرفة في رؤية بلفور (آرثر جيمس المشؤوم إياه) تعني المسح (كما في علم المساحة , لا المسح بمعنى الإزالة) الكامل لحضارة ما من أصولها الأولى إلى ذروتها ثم انحطاطها- وتعني, طبعا, على امتلاك القدرة على القيام بهذا المسح." (الإستشراق ص. 64(
لقد أتت نظرية ادوارد – الإستشراق - لنا بمفهوم جذري معناه أن الشرق قد شُرقن بمعنى أنه أُعطي تفسيراً غربيا وكذا بدا الشرق في مخيلة الغرب كتلك الصورة التي رسمها الغرب نفسه لنفسه عن الشرق أو بكلمات إدوارد نفسه" طريقة للوصول الى تلائم مع الشرق مبنية على منزلة الشرق الخاصة في التجربة الأوروبية الغربية" الذي جاء "كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه." الذي يشكل "الفرع المنظم تنظيماً عالياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق- بل حتى أن تنتجه- سياسياً, واجتماعيا, وعسكرياً, وعقائدياً, وعلمياً, وتخيلياً, في مرحلة ما بعد عصر التنوير." وهو هنا يفسر لنا تقوقع المفكرين الغربيين في توظيف كل جوانب الحياة وبالاخص الفكرية منها لخدمة مصالحهم الامبريالية الضيقة. إن "شرقية" إدوارد سعيد جعلته يستمر في النهج الفكري الذي تواجد في الشرق, ورضعه مع حليب أمه, المولودة لآل بدر من الناصرة في الجليل, والذي أعاده ليس فقط إلى ما أنتجته الحضارة الاسلامية والنبي محمد والديانة المسيحية والنبي عيسى والديانة اليهودية والانبياء ابتداء من ابراهيم بل الى الحضارات التي انكشفت للغرب "حين كشف الشرق بشكل محدد عن عمر لغاته مبطلا بذلك اقدمية نسب العبرية الإلهي". وحتى الرجوع الى زمن غابر أكثر قدما كما وصف في التواريخ المدهشة الخرافية, إلى مرحلة الجماعة المسماة السليمانيين السابقين على أدم" وهذا ما اعنيه بأن المعضلة الأساسية التي وضعها إدوارد أمام ناظريه لإيجاد حل لها انما كانت مشكلة "الإنسان" فلذلك نرى في كتاباته وكأنه يلخص التجربة الانسانية شاملة دون ان يهدف الى ان ينفي أي من الثقافات التي انتجتها أي فئة سكانية على وجه الارض بل بالعكس كان قد استقى من كل حضارات وثقافات الشعوب باحترام جليل لهذه الثقافات ما أنتجته من نصوص وما أتيح له أن يطلع عليه. وهذا ما اظنني عناه الشاعر محمود درويش "يفكر في هجرة الطير عبر الحدود وفوق الحواجز." وهو بهذا كان قد "مسح" الثقافة العالمية الشاملة ليتوصل الى طرحه الذي لخصه في نظريته – الإستشراق.
ثانيا : تجربته كلاجئ فلسطيني فقد وطنه . التراجيديا الفلسطينية تُستَشَف في كل نص كتبه ادوارد. واظنني اكون صادقا بان ادوارد ما كان يكتب ما كتب لولا كونه فلسطينيا. وهو يعبر عن هذا محللا حين كتب "ذلك ان ثمة شيئاً في الوجود كالمعرفة التي تكون أقل, بدل من أن تكون أكثر, تحيزاً من الفرد الذي ينتجها (بكل ما في ظروف حياته من عوامل تعاضل وتشتت) . بيد أن هذه المعرفة ليست, نتيجة, لا سياسية." او كما نصها في مكان أخر " وللثقافات كيان بيولوجي الى حد ما, إذ أن جانبا مهماً منها يحدد (فلسفياً ووراثياً) كما أنها تنمي دافعا عدوانيا في وجه الكيانات الأخرى" . ويرتبط كون ادوارد فلسطيني بالخصم السياسي الذي كان على ادوارد ان يقدم طرحا سياسيا فكريا "يتغلب" فيه عليه وعلى داعميه.
والأمر الأهم هنا هو ان فكر ادوارد يتصف بعلم الجدلية التضادية المتشابهة مع اسلوب المهاتما غاندي واسلوب الانبياء محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام في التفكير واستعمال قوة ملكة المنطق وهو الشيئ الذي حاول ادوارد ان يحدد بأنه وكأنه أزمة الفكر العربي في مهماته المتحدية للغرب واعداء الامة العربية. فهو يقر بأن على العرب كثقافة أن تعمل على " الإقرار الجذري بالحقيقة, وهو تلك اللحظة الحاسمة حيث يرى الإنسان نفسه مُجَدَدَاً فينقض عليه ركان من المخاوف والتناقضات والرعب الصاعق ويحاصره من كل الجهات وجوده وقدره وهويته- كما في حال أوديب حين تواجه هويته كقاتل لأبيه وزوج لأمه وحاكم للمدينة في آن, فيرى ذلك كله". (من مقالة التمنع والتعجب والتعرف, 1972) فبدل أن يدخل التجربة ويدفع الثمن "على جلده" بريد هو أن يدرسها ويسيطر عليها ويتسلط على فكره.
ولرأيي يعلمنا اسلوب سعيد اسس التحدي الذي ينقص الرؤية العربية لادارة الصراع مع العالم الامبريالي.
فعندما نتحدى يتوجب ان نتحدى انفسنا أولاً في قولنا لانفسنا "لا". نعم "لا" لانفسنا فبقولنا ذالك نكون قد حددنا ما هي قدراتنا وما هي امكانياتنا على التاثير على محيطنا. وبالعكس من ذلك عندما ندعي بأننا قادرون على كل شيئ نكون قد اسلمنا كل احقيتنا في التفكير والابداع والانتاج والسيطرة لاعدائنا.
هكذا كان المهاتما غاندي هكذا كان نلسون مانديلا هكذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم هكذا كان المسيح وهكذا كان النبي موسى عليهما السلام. لحتى أن المهاتما غاندي لهدف معرفة الذات والهوية دخل في تجارب السيطرة على الذات عن طريق توظيف علم التغذية للجسم الانساني وكان ابدع في اعداد الوجبات التي امن في نجاعتها لخدمة الجسد الانساني في توظيف هذه التجربة لإنجازات تخدم الانسانية جمعاء. فلذلك نراه يقول "لا" لرغباته الغذائية وتقشف كذلك جنسياً لمدة طويلة من الزمن. هكذا اوجد نفسه مدربا كينونته الفكرية على تحدي ذاته ليطور بذالك اسلوب التحدي والتضاد الجدلي في علم المنطق في فكره.
لاننا بهذه المرحلة من زماننا نحن في مهمة مجابهة "المحافظين الجدد" الانجيليين الهارماجيدييون" والامبرياليين. ولاننا نريدا ان نتوصل بنشاطنا الانساني الى ان نوقف مغتصبي ارضنا على حدودهم.
ان الفكر العربي الذي توصلت عن طريقه الامة العربية الى اعلى الانجازات اعتمد على "الجدلية" وعلى "علم المنطق" وعلى ادخال "التضاد" في نفس كل كاتب مفكر عالم مبدع وحاكم. اعني ان الكاتب نفسه كان يدخل نفسه في تضاد مع نفسه وهكذا وقف ناقدا لاعماله هو وبهذا دائما قال لنفسه "لا" . وكأنه كان قائلاً "ان ما اريده هو اسمى مما انتجت وان ما انتجته لن يقف امام القوى الطبيعية السياسية والثقافية والعلمية وخاصة في مجابهة القوى العدائية ولذلك سينهار" هكذا اوجد نفسه العقل العربي في تحد دائم لنفسه ولذلك كانت النتيجة بتطور الامة العربية الى ما وصلت اليه.
هذا بالذات هو الذي يريدنا الاستدمار (ما يسمى الاستعمار) الامبريالي ان نتناساه. ويريدنا ان نتناسى انجاز انساني هو نفسه يعتمد عليه. فالغرب يعتمد على الانجازات الحضارية للامة العربية الشرقية(الاسلامية المسيحية اليهودية) وثقافات العالم أجمع وفي نفس الوقت يريدنا نحن العرب ان نتناساه لامر بسيط : لكي لا نتوصل الى الأسس البانية لثقافة التحدي. فلذلك نرى صناديق الثقافة الاستشراقية الامبريالية تدعم الجمعيات العربية التي همها الوحيد هو ترجمة الثقافة الغربية ومصطلحاته (مثل فضاء , حيز, رواية, مساحة, حتلنة, استعمار والخ من مصطلحات امبريالية) التي بالذات يستعملها الاستشراق الاستدماري الامبريالي ليتسنى له ان يسيطر على ثقافتنا. وهذا ما فسره إدوارد باستخدامه انجازات نيتشه دستويوفسكي وفرويد مثلاً كالتالي : " إن فرويد, ششأن نيتشه ودستويوفسكي, يعلمنا ان ننظر إلى الإنسان كمخلوق يكمن القسم الأكبر من حياته تحت السطح الخادع, سطح العقل والبساطة. مخلوق تكتنفه العقد والرغبات الجنسية البدائية والدوافع الممزقة اللاأخلاقية. مع ذلك فإن فرويد يفرض علينا علماً يتعرف على هذه القوى المظلمة ويحاول بالتالي معالجتها, إن جوهر الإنسان الغربي اليوم وطبيعة واقعه قد تبدلا تبدلاً كاملاً بنتيجة اكتشاف فرويد إلى درجة أننا نتكلم اليوم عن الإنسان السيكولوجي وهو كائن تبدلت جذرياً مفاهيمه عن العقل والزمن والفضاء والتاريخ والثقافة واتخذت صورة أكثر تعقيداً وتحدياً من الصورة التي نعرفها من المستويات التقليدية التي يزودنا بها العقل البسيط, الأحادي البعد. هذا كله حجب عن العربي المعاصر الذي ما زال يعتقد أن ما تعلمه من الغرب وما انفك يتعلمه صحيح تماما: المظاهر هي ما يهم وأن العقل ليس أكثر من كلمة أو شيء "كالذراع" أو "القدم" وأن الصحيح هو ما يراه الإنسان وأنه بمجرد ان نحفظ بعض قواعد سريعة يصبح العالم في متناولنا. ولقد حجب هذا عن العربي لأن الثقافة العدائية التوسعية تكتفي بإيصال المستويات السطحية من واقعها, وتستخدمها للتحكم بالأذهان الغربية وتحويلها لخدمة أغراضها. وأفضل طريقة للتصدير هي أن تقنع الآخرين – كما تفعل الرسوم الخادعة بالناظر- بأن مفاهيم كالنظام أو التقدم أو العلم لا تعني إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ لا ما تعنيه عميقا...ذلك أن النظام والعلم والتقدم تنشأ من صراع الثقافة مع القوى الخفية الكامنة فيها, هذه القوى التي تدعم الظواهر فيما تحاربها" (من مقالة التمنع والتعجب والتعرف, 1972) ,وهكذا نرى بان كل من يصبوا الى استعمال ترجمات للمصطلحات الاستدمارية الغربية الامبريالية (بمرافقة كتابة المصطلح الانكليزي) انما يعمل كالبرغي الصغير في الة الاستشراق الغربية ليلائم فهمنا لسلطة المعرفة التي يرسمها الاستدمار لنا ليتمكن لهذا الاستدمار ان يلائم فهمنا لاحتياجاته التسلطية . انها ما يسمى مصادرة الثقافة الوطنية.
ومن هنا نستطيع ان نرى الى ما يشير لنا ادوارد سعيد به وكأنه العصا السحرية التي نستطيع فيها ان نقوم بتحدياتنا العصرية وننهض بأمتنا من الوضع المأساوي الذي هي فيه . انه ببساطة الانجاز العربي الذي تحاول "الة الإستشراق " ان تطمسه من الوجود. انه آلة العلم الذي توصلت اليه الامة العربية عندما ساهمت على مدار الف سنة من الزمان من الانجازات العلمية وعلى رأسها نقل العلوم اليونانية لخدمة الانسانية جمعاء.بمعنى اخر فأن الألة التي تستطيع فيها الأمة العربة أن تستخدمها للنهوض الحضاري هي ببساطة : العقل العربي الشرقي بما يشمل من ترسبات ثقافية وعلمية تعتمد بالاساس على جدلية التفكير والمنطق . وهذا ما يحاول الامبرياليين ان يحييدونا عنه بأيهامنا بان علينا فقط ان نترجم انجازاتهم هم لنتمكن من النهوض. بينما كانت إنجازاتهم تلك أنشأت لهدف واحد وهو مصادرة ثقافتنا وطمس تاريخنا ونهب ثرواتنا.
ان تجربة ادوارد الفلسطينية الشرقية الانسانية الشاملة, لاعتقادي , هي مرشد طريق في تحديدنا للتحديات الحضارية التي تواجهنا كأمة وبالاخص كشعب فلسطيني. لقد وضع إدوارد سعيد لرأيي أسسا نستطيع أن نعتمدها لإدارة الصراع مع القوى الإمبريالية. من هنا واجبنا ان نلخص تجربة إدوارد وأن نعتمد قدرتنا على الإستفادة من التجربة الفلسطينية في " ملحمتنا " مع مخلفات عصر التنوير الإمبريالي . ولإعتقادي ليس لنا نحن العرب والفلسطينيين بالأخص أي ثروة فكرية نعتمدها كأسس لتمحيص الخيارات الاكثر فعالية للتغلب على خصومنا غير إنتاج مفكرينا العرب والأخص الفلسطينيين في تجاربهم النضالية الفردية والجماعية.

محامي من مدينة الناصره.