أحدث الأخبار
الأحد 05 أيار/مايو 2024
يقلعون شجرة…نزرعُ عشرا!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 18.12.2015

في طريقها نحو زراعة المليون الثالث من الأشجار في فلسطين، هذا الطريق الطويل الذي بدأ قبل اثني عشر عاما بزراعة شجرة واحدة، تبدو (العربية لحماية الطبيعة) نموذجا فذا يبدد ترف سؤال العجز المألوف الذي نسمعه دائما، كلما رأينا الأشجار تُقتلع والبيوت تُنسف أو تهدم والناس يقتلون، ذلك السؤال، هو: ماذا يمكن أن نفعل؟ وغالبا ما يكون سائله قد عقد يديه بإحكام على صدره، مؤكدا عجز عقله عن الإبداع وكرامته الإنسانية والوطنية عن الاستيقاظ، وإرادته عن الفعل.
(يقلعون شجرة، نزرع عشرا)، هو شعار العربية – العربية، في زمن التصهين العربي، وهو ليس مجرد شعار مثل تلك التي أصابتنا بالصمم لفرط ما تم ترديدها من الزعماء الجُوْف، بل هو أفضل خطة استراتيجية بسيطة وواضحة كالحرية ومعلنة كالشمس. وهو مسار حياة وعمل يجعلنا نتساءل: ماذا لو كان نموذج العربية هو النموذج المعمّم في حياتنا العربية، ماذا لو استطاعت كل مؤسسة أن تحقق إنجازا كهذا، وكل دولة استطاعت أن تحقق مثله أيضا؟
نكتشف أن العربية تقول لنا دون لُبس: هناك إرادة.. هناك إنجاز وإبداع. وخارج هذه الإرادة ليس هناك سوى الترهُّل، وطنيا وإنسانيا، لأن عبارات الشجب لا تورق فيها الأشجار، ولا تتفيأ في ظلها الجدات والأحفاد، لأنها الوصفة الأمثل لتصحّر الضمائر قبل تصحر الأوطان.
وإذا ما تذكرنا أن زراعة كل شجرة مكان الشجرة التي اقتلعتها يد العنصرية الصهيونية لا تتمّ إلا بعد معركة مع جيش العدو وذئاب مستوطناته، وسواهم، فإن معنى هذا العمل الذي تقوم به (العربية) يتجاوز المعنى البسيط لفكرة الزراعة، واخضرار الحقل، والبطن الجائع الذي سيجد ما يملؤه. إنه القدرة الفذة على إعادة تعريف النضال بتوسيع مداه ومدلولاته، في زمن تبدو الصحراء هي الأكثر قدرة على قطع المسافات الطويلة، في ماراثون الخنوع، لالتهام كل برعم يتفتح، وكل غيمة تفكر بالمطر.
وفي عمق هذه الحالة الاستثنائية التي تحقّقها العربية، لا على الأرض المُنتهكة التي يتمّ تدميرها وحسب، بل في كل محافل العالم التي لها علاقة بالبيئة والعدالة وحقوق البشر في سمائهم وأرضهم ومائهم وخضرتهم، في عمق هذه الحالة تطلّ حالات إنسانية بالغة الصفاء والقوة والجمال، مبدّدة، أيضا، ترف السؤال عما يستطيع الفرد أن يفعله.
عبد الرحمن قاسم (أبو أحمد)، الفلاح الفلسطيني الذي قطع برّ عقده الثامن، الفلاح الذي استضافته (العربية) في حفلها السنوي، مطلع هذا الشهر في عمّان، نموذج إنساني مضيء في قدرته على مقارعة الصهيونية وكيانها. فطوال ثلاثين سنة واصل (بطل من زماننا) النضال لاسترداد أرضه التي تم الاستيلاء عليها بقرار عسكري صهيوني، قبل أن تُلحق هذه الأرض بمستوطنة (بيت إيل). لم يتعب أبو أحمد، وفي وقت بدا فيه نضاله للبعض نوعا من مناطحة الصخر، واصل الحياة بلا كلل، وواصل الصمود بلا كلل.
على قطعة أرضه تلك أستُشهد ابنه الجامعي إبراهيم، واستشهد ثمانية شباب آخرون، وكلما سالت قطرة دم أصبحت أرضه مقدّسة أكثر.
كان لا بدّ للصهاينة من أن يلتجئوا إلى الإغراء بالمال، بعد أن أدركوا أن التهديد لم يأت بنتيجة، وكذلك الرصاص الذي اختطف أرواح الشباب التسعة.
يقدم المليونير الصهيوني العرض الذي يعتقد أن أحدا لا يمكن أن يرفضه: ثمانية وعشرون مليون دولار ثمنا لأربعة عشر دونما! فيرد أبو أحمد: هل تعتقد أنك لو ملأتها بكل هذه الأوراق ستغريني؟! لو ملأتها ذهبا لما قبِلت.
ويلجأ الصهيوني إلى السفارة الأمريكية، السفارة التي التجأ إليها فرسان المفاوضات التي لا تنتهي للحصول على وعد بدويلة! ويأتي القنصل الأمريكي إلى أبي أحمد حاملا عرضا جديدا فوق العرض الصهيوني: جوازات سفر أمريكية له ولأبنائه الستة، ولأحفاده الخمسة والعشرين، وفوقهما أيضا أي عدد من الملايين يحدده.
- لقد استشهد ابني على هذه الأرض، قال أبو أحمد، ورفع صورة الشهيد في وجه القنصل، واستشهد أيضا ثمانية آخرون، أربعة من مخيم الجلزون، وأربعة من دُورا. لو استشهد ابنك فوق أرضك، هل كنت ستبيعها يا سيادة القنصل؟!
- لا، أجاب القنصل.
- انتهى اللقاء إذاً. قال أبو أحمد.
يمكن أن يقال الكثير هنا عن أناس مثل هذا البطل الفلسطيني، الذين كرّمتهم (العربية لحماية الطبيعة) في السنوات الماضية، أولئك الذين ما بدلوا تبديلا. بعضهم سمعنا عنهم، وبعضهم لم نسمع.
تدافع العربية عن هؤلاء، وتقف إلى جانبهم، وتعيد زراعة أرضهم، ففي النهاية: قل لي عمّن تدافع أقل لك من أنت.
لقد وجدت العربية جيشا من الأنقياء الذين لا يُتقنون عقد الأيدي على الصدور، أولئك الذين يتبرعون لزراعة الأشجار، لتحمل كل شجرة اسمهم أو أسماء أحبائهم، ممن هم على قيد الحياة، أو ممن رحلوا، وأشجار تحمل أسماء شهداء سيعودون، وأسرى سيخرجون للقاء حريتهم رغم كل هذا الليل..
وبعد:
في الترابِ غصونٌ لها ألفةُ الظلِّ
جذعُ الزّمانِ القديمِ
لها شُرفاتٌ تُطلُّ على الرّوحِ والأوديَةْ
ولها خُضَرةٌ عكسَ يومِ اليباسِ
لها رقصةٌ ولها أُغنيةْ
غصونٌ تُقاسِمُنا ضوءَها
ونُقاسِمها كلَّ أشيائنا
…. ….
كلّ زيتونةٍ
حينَ نـزرَعُها
سوف تزرعُنا
قربَها ههنا

1