أحدث الأخبار
الجمعة 19 نيسان/أبريل 2024
"حكاية جدار» رواية استثنائية…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 06.04.2023

كيف لجدار ملطّخ بشتى القاذورات والروائح في زنزانة سجين محكوم بالمؤبّد، أن يتحوَّل إلى جدارٍ فيلسوفٍ ومفكّرٍ وناقدٍ ومختصٍّ نفسيٍ ومعشوقٍ.
الأسير ناصر أبو سرور يُؤَنِّس الجدار المقابل لسريره في زنزانته ليجعله ركيزته ومرجعيته، فهو المستشار والصديق والرفيق والحضن الدافئ.
اعتقل ناصر أبو سرور من مخيم عايدة -بيت لحم، منذ أواخر العام 1993 وما زال قابعاً على سريره أمام جدار زنزانته، ومنها وقّع تاريخ الانتهاء من كتابة روايته-معتقل هداريم، زنزانة رقم 33 الجمعة -6 -7 -2019 والتي صدرت عام 2022 عن دار الآداب- بيروت، وترشحها الآداب لجائزة البوكر العربية. والكاتب درس خلال فترة سجنه وحصل على ماجستير في الدراسات الإقليمية.
علّق الأسير حياته بعاملٍ حاسم كي يبقى على قيد الأمل والحياة، هو تخلّيه عن كل ما خلف جدار زنزانته، لأنّ تمسّكه بغير المقدور عليه يزيد من عذابه، حتى إنّ وعيه وفي دهاءٍ دفاعي، صار يقلب عقوبة العزل الانفرادي إلى مكسبٍ معنويٍ، إذ يجدها فرصة للقراءة والتأمّل، بعيداً عن يوميات السجناء، بما في ذلك المشاحنات الفكرية والتنظيمية بين الفصائل.
اعتدنا على أدب سُجون يتحدّث عن ظروف السِّجن، وصراع السُّجناء مع السّجانين وتفاصيل التعذيب الجسدي والنفسي والإذلال، ولكن تتميّز هذه الرواية بحفرها أكثر في الفضاء النفسي للسجين، وقدرته على كبح رغباته وغرائزه الطبيعية.
فيها تفكيك لمفاهيمَ تبنيناها عن الحرية والنّضال والتضحيات والتضامن والعروبة والأممية وحتمية النّصر، التي يسمّيها كذبات نضطر إلى التمسّك بها، وأن نضيف إليها كذبة أخرى، كلّما واجهنا خذلاناً آخر.
يبدأ المؤلف بتوطئة قصيرة لروايته التي كُتبت بلغة أقرب إلى الشعر المنثور، من البيت الذي ولد فيه في المخيم، والأكاذيب التي يتمسّك بها الجميع، مثل الإيمان بحتمية النصر إلى درجة النوم العميق. رواية كشف الغطاء عن المُقَولَبات، حتى الاعتراف خلال التحقيق الذي يصفه البعض بأنّه خيانة، يصف الكاتب هذا التقييم بأنّه «أشنع أدبيات نضالنا الفلسطيني، وهو حكم مُسبق ومتجرّدٌ وغير مبالٍ، أصدرته أيادٍ لم تختنق برائحة الحديد المعتّق»، «حكمٌ يظلُّ يجلدك بلا رحمة ويثقل وزنك المشبوح، حكم يتطاول عليك بفوقيته وتعاليه، وأنت في قمة سقوطك».
تنطلق فكرته من مقولة قرأها للفيلسوف كيركغورد، يدّعي فيها أن أفضل الطرق للحفاظ على الحب هو التخلّي عن الحبيب والتنكّر لغرائز التملُّك، وأن ذلك يصبح ممكناً فقط من خلال اللامعقول الإيماني.
هذه المقولة أمطرت وابلاً من التساؤلات، التي يحاور فيها السجين جدار زنزانته، الذي يعتبره نقطة ارتكازه.
«واستنا مصائب غيرنا وهوّنت علينا فظيع مآسينا، فقط لأنها كانت أكبر من أوجاعنا وأشدَّ فظاعة، هل ما قلناه عن معاني التضامن وكونية الوجع وعالمية القهر، لم يكن إلا مواساة كنا في أمسِّ الحاجة إليها؟» ص56 .
التأمُّل، ثم التحوّلات الفكرية والفلسفية حالة ملازمة لسجناء المدد الطويلة، وردت في روايات أجنبية وعربية عديدة، وفي بعض السِّيَر الذاتية، ومنها قصة الرّهان لأنطون تشيخوف، التي تدور حول أيهما أقسى، حكم الإعدام أم السجن مدى الحياة! حينئذ يتراهن شابٌ محامٍ مع رجل أعمال بأنّه قادر على البقاء منعزلاً في غرفة لخمسة عشر عاماً، ويشترط توفير الطعام والشراب والكتب له. يبدأ الرّهان، وتمضي السنوات، تتبدّل خلالها قناعات الشاب ونظرته وفلسفته في الحياة، وبعد أن أصبح فوزه مؤكّداً في الرهان، في الليلة الأخيرة يفتح باب الغرفة ويهرب، تاركاً وراءه رسالة لرجل الأعمال المذهول والذي كان سيخسر كل ما يملك، يخبره فيها بأنه خرج من الغرفة متخليّاً عن المال، فقد اكتسب قناعات روحانية أخرى، ولم تعد النقود تعني له شيئاً.
في «حكاية جدار» الكاتب هو نفسه السّجين، وهذا ما جعل كتابته على هذه الدرجة العالية من العمق والصّدق، فمن قضى من عمره حوالي ثلاثة عقود في الزنازين منذ 1993 وما زال فيها، يطمح إلى حقيقة معنى الوطن الذي ضحّى بعمره لأجله، وللإنسان نفسه، وما الذي يريده في حياته.
أثناء زيارة والديه له بعد سنوات من المَنع، يتنحى والده جانباً ويقف صامتاً، ويبدو كأنه يقول له: لقد حذّرتك من هذا المصير ولكنك لم تسمع. بينما تحاول الأم مزيونة لمسَ أصابعه وتقبيلها قدر الممكن، من خلال ثقوب الزجاج في غرفة الزيارة.
يسعى السجين الكاتب إلى التحرّر من كل ما يزيد على سجنه عبئاً وثقلاً، ولأجل هذا يسعى إلى تحييد عبء الجسد بأن يتجاوز الحدود المادية، إنقاذاً لروحه.
لا يمنح نفسه ترف الأمل حين تُعقد صفقات تبادل الأسرى بين الفصائل وسلطات الاحتلال، لتجنّب الخذلان الذي يشعر به الأسير، عندما لا يسمع اسمه بين المُفرج عنهم، ويصف الفرحة التي يحاول الأسرى المفرَج عنهم أن يكتموها أمام رفاقهم المحرومين الذين يبادرون لتهنئتهم.
الجزء الثاني من الرواية مخصَّصٌ لقصة حبّه، الحب الذي يبدّل الإنسان ويدفعه إلى حيث لم يخطّط ولم يحلم، الحب الذي يبعدك عن أقرب عاداتك ويزعزع قناعاتك الراسخة، والذي يفرّق بينه وبين جدار زنزانته ويرغمه على خوض صراع نفسي بين أن يبقى في أعالي روحانيته أم يهبط إلى الجسد، وما يترتب على ذلك من خيبات.
فتاة في العشرينيات من عمرها (ننّا) درست الحقوق، تتواصل معه من خلال الرسائل ثم الزيارات، والمهاتفات وجنّة الخيال.
يرى فيها أكثر من ملاك، وترى فيه الرّجل الاستثنائي الثائر والمثقّف الرومانسي المؤمن بعدالة قضيّته.
في البداية يخشى من هذا الحب، يحاول إجهاضه وهو جنين ما زال في طور الإعجاب، لأنه خشي من النهاية الحتمية وآلامها، حذّرها من التعلّق، ولكنّه الحب الذي تنحني له قامات الجبابرة، ليستمر ثلاث سنوات، بلغا فيها مرحلة متقدّمة من الهيام، جعلت كليهما يعيشان «أمرّ عذاب وأحلى عذاب»، وأبعدته عن جداره، وصارت رغبة التواصل ناراً تعذبهما، فهي ترغب في طفل، وتتعرّض إلى ضغوط ممن حولها، جعلت استمرار العلاقة حالة من اليأس والخذلان، تحوّلت زياراتها الأخيرة إلى شبه مأتم، فهي لا تكفُّ عن البكاء، فيقرّر أن يتخلى وبحزم، يطلب منها المغادرة قبل انتهاء الزيارة الأخيرة، ثم يطرق باب غرفة الزيارة طالباً من الجنود الإسراع في إعادته إلى زنزانته، إلى جداره الذي يحتضنه من جديد.
يوقع الكاتب مقدمته باسمه الثلاثي «ناصر مزيونة أبو سرور». ومزيونة هي والدته، لم يضع اسم والده كما نفعل عادة، وهذا ليس صدفة، مزيونة الأم هي التي تتحمل القسط الأكبر في علاقة الأسرة مع ابنها السجين، والتي كان يستقبلها بابتسامته، ويزرع فيها الأمل.

1