أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
الكاتب الأعمى!!
بقلم :  رشاد أبوشاور ... 24.02.2017

خدعني المدعو عبد الهادي _ لا أريد أن اذكر كنيته، حتى لا أسيء لعائلته_ وخان الأمانة.
اتفقت معه على بناء شقة إضافية على سطح بيتي، وكان دلني عليه تاجر اسمنت وحديد وأشياء أخرى ضرورية للبناء، وهو يقيم على مقربة من ذلك المحل.
اشتريت الإسمنت والحديد من المحل، ومنحته مائتي دينار تحت الحساب، أوصلت سيارة المحل كميات الإسمنت والحديد والناعمة والخشنة، و..غادرت ، بعد أن أوصيته ، وشددت عليه، فوعدني وهو يشد على يدي ويهزها:
_ اطمئن يا رجل..ولو!
عدت صبيحة اليوم التالي فلم أجد ( شغيّلة)، واختفى الإسمنت والحديد، فدهشت، وتساءلت بقلق: أين اختفى كل شيء؟ أيكون عبد الهادي أخفاها حتى لا تسرق؟ ولكن أين يخفيها، ولا شيء حول البيت يمكن أن تخفى فيه.
توجهت إلى بيته، وقرعت البوابة، وسألت زوجته عنه، فجاءني صوتها من وراء الباب:
_ ربما يكون في بيت زوجته الثانية يا أخي!
ومطت صوتها مع ضحكة ساخرة، ثم أضافت:
_ هل أعطيته سلفة تحت الحساب؟
وارتفعت ضحكتها.
هنا تصاعد قلقي، فتوجهت إلى المحل الذي اشتريت منه الإسمنت والحديد...
سألت رجل الأمس في المحل عن عبد الهادي، فرفع حاجبيه مندهشا، وتساءل:
_ هل ..أنت متأكد أن البضاعة اختفت؟!
ثم أضاف وهو يضرب كفا بكف:
_ عجيب! لقد وعدني أن يغيّر سلوكه، وأن يصدق مع الناس، ورجاني أن أساعده في الحصول على عمل، ولكن العود الأعوج لا يصلح إلاّ بالكسر..بالكسر فعلاً!
وأضاف :
_ ليس لك إلاّ أن تقاضيه، توجه إلى المحكمة فورا، فهذا الصنف يستحق الحبس والبهدلة.
* * *
أمام المحكمة التي ببنائها الشامخ المهيب، وعلى جانبي الدرج العريض تتراص مكاتب العرضحالجية، وكل واحد منهم أمامه طاولة صغيرة، وبعضهم يضع آلة كاتبة، وكلهم ينادون:
تفضل يا أستاذ. تفضل يا أخ..في خدمتك يا طيّب!
تأملتهم جميعا وأنا أقف وأجيل نظري بينهم، فلفتني رجل جمجمته كبيرة، وشعره الأسود والأبيض الغزير ينسدل على أذنيه، وعلى عينيه نظارة سوداء ، فاتجهت إليه، وطرحت السلام، فأشار لي أن اجلس على كرسي قشي قصير القوائم ملاصق لطرف طاولته التي تستقر عليها آلته الكاتبة:
_ هات ما عندك، ما قضيتك؟
شرحت له الأمر، فهزّ رأسه، وعلّق:
_ نصاب آخر.. شو هالحالة!
وأضاف:
_ سأكتب لك شكوى تخرب بيته، هذا الواطي الحرامي النصّاب. اعطني إسمك، واسمه.
أخذت أصابعه تلعب على أحرف آلته الكاتبة، ثم أخرج الورقة ، وناولها لي:
_ صدقني أن القاضي سينبهر، وسيحكم لك.اتكل على الله، هات ثلاثة دنانير.
مددت يدي بالثلاثة دنانير، ولكنني لم أمدها لتصل إلى يده الممدودة، وسحبتها ببطء والدنانير الخضراء الثلاثة ترتجف بين أصابعي مع حركة يدي، فرفع صوته بعصبية:
_ أين الثلاثة دنانير، ناولني إياها، أم تريد أن تنصب علي؟!
وهو يحرك رأسه مع حركة جسمي، بعد أن غيرت وقفتي، شككت بأنه أعمى.
ناولته الدنانير الثلاثة، ثم ابتعدت قليلاً.
عدت واقتربت منه ، وغيّرت قليلاً في صوتي.
سألني:
_ أمر؟
شرحت له أن هناك شخصا استغلني في بناء بيته، ولم يفني أجري، فاضطررت أن أبيع بعض الإسمنت والحديد الذي زاد عن البناء،.فأخذ يشهر بي عند جيراني وأقاربي.
رفع راحة يده:
_ ولا يهمك. محتال آخر، يأكل عرق الناس، ويتنصب عليهم. سأكتب لك شكوى تجيب آخرته..الحقير. ما اسمه؟
ذكرت له اسمي كمتهم، واسم عبد الهادي كصاحب دعوى، متوقعا أن يتذكر أنني أنا من قدم الشكوى قبل قليل، فلم يأبه.
أخذت أصابعه تلعب على أحرف آلته الكاتبة، وأنا أتأمله بانبهار: أيعقل أن هذا الكاتب أعمى؟!
ناولني الورقة:
_ ثلاثة دنانير يا محترم. صدقني أن القاضي سينبهر مما كتبته لك حول قضيتك، وسيرّد لك شرفك وسمعتك.
لبثت واقفا دون حراك، فرفع رأسه، وأزاح نظارته السوداء عن عينيه الباديتي العمى، ومسحهما من العراق الذي يسيل عليهما في هذا الطقس شديد الحرارة، ونفخ من أنفه بغضب: وهو يقف، ويهم أن يمد يديه ليمسك بي:
- هات الدنانير يا ...
سألته:
_ يا..ماذا ؟
_ يا..مح..ت..ر..م؟ وإلاّ سأعزر عليك.
ناولته الثلاثة دنانير، فجلس وأخذ يتحسس طاولته وأوراقه وآلته الكاتبة، كأنما يطمئن عليها.
سألته بفضول:
_ ولكن: كيف تميّز أحرف آلتك الكاتبة، وتكتب بهذه السرعة؟
ابتسم وهو يميل رأسه باتجاه صوتي:
_ كنت يوما مبصرا، وتعلمت الطباعة..ولكنني، وأنا أعمى بّتُ أكسب أكثر من الأيام التي كنت فيها مبصرا، للعمى فوائد يا محترم!.
ثم رفع رأسه، وسألني وهو يضحك:
- ولكن: قل لي: كيف ستكسب القضيتين معا؟
استدرت ، ومشيت ذاهلاً، ثم وجدتني أضحك بصوت عال ..حتى إن المّارة أخذوا يتأملونني بفضول، ربما ظنا منهم أنني كسبت قضية خاسرة !

1