أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
المثقف العربي: تناسل المآزق وأفول التأثير!!
بقلم : د.خالد الحروب ... 24.01.2014

الإعلام الجماهيري، التليفزيوني منه والإنترنتي، هو الذي يوجه ناس اليوم، إلى حد كبير، ويتحكم في تكوين توجهاتهم وأمزجتهم و«أفكارهم» وميولهم السياسية. هناك فواعل ولاعبون كثر بالتأكيد يؤثرون في الكتلة العريضة من الناس، لكن هؤلاء جميعاً يحتاجون إلى الإعلام ولا حول لهم ولا نفوذ من دون جسور التواصل التي يوفرها إعلام اليوم. في اللحظة الراهنة كل منا يستطيع أن يتذكر جدل برامج تليفزيونية عديدة، وما نوقش فيها من آراء وأفكار، ويستطيع أن يتذكر تفاصيل بعض النشرات الإخبارية التي غطت أحداث معينة، والشريحة الأكثر ميلا باتجاه الأفكار والثقافة تتذكر كتاباً تابعت نقاشه على هذه الفضائية أو تلك، أو لقاء أدبيا أو فكرياً بُث مع هذا الأديب أو ذاك. تأتي تلك «المتذكرات» وسط عاصفة لا تهدأ من الإعلام المتواصل والذي يتسم بالإيقاع السريع والحركة الدائمة التي ما أن تبدأ تغطية حدث ما حتى تنتقل إلى آخر جديد. لا وقت في هذا الإعلام السريع لإنضاج الأفكار وتعميقها والاستطراد في تفكيك طبقات معانيها. كل ذلك يعني مزيداً من الاحتكار للفكرة السريعة اللافتة والمخرجة بطريقة جذّابة، ولا يهم مدى سطحيتها، فالمهم هو مدى جاذبيتها. ليس جديداً القول بأن الفكرة العميقة وكل ما له علاقة بها يسقط ضحية أولية وسط تلاطم بحر الإعلام السريع وفيضانه عبر الحدود وعبر نوافذ البيوت وشاشات الهواتف النقالة. والضحية المرافقة بطبيعة الحال هي صاحب الأفكار نفسه؛ المثقف. ذلك أن جسور التواصل بين هذا المثقف وفي أية بقعة في عالم اليوم أصبحت مرهونة بوسائل الإعلام الجماهيري، ولا وسيلة أخرى يتواصل من خلالها هذا المثقف مع من يريد التواصل معهم أو إيصال أفكاره لهم.
وحتى يحصل المثقف على نافذة صغيرة وسريعة يهرّب من خلالها أياً من أفكاره وتداعياته عليه أن يتنافس مع أخبار ساخنة على مدار الساعة أكثر جذباً، ومع استعراضات غنائية ومقطوعات تقودها مذيعات جميلات قضين نصف النهار أمام المرآة، ومع برامج خفيفة وبرّاقة موسيقاها سريعة ولا ترحم تأني المثقف وتأمله وعدم انتباهه للوقت الذي يجري في ساعة المخرج وهو يلعن الساعة التي استضاف فيها «المثقف الُممل». يظل المثقفون بالتالي محشورون في كتبهم وأبحاثهم، وتئن الأفكار التي ينتجونها من كساد القراءة والاطلاع.
بيد أن مشكلة الوصول للجمهور والتأثير فيه ليست إلا جزءاً من مشكلة أكبر تكمن في ضحالة إنتاج الأفكار في المشهد الفكري والثقافي العربي. إذ حتى لو توفرت جسور التواصل على أوسع نطاق بين المثقفين وأفكارهم والجمهور، فإن ما سيتم نقله لن يكون بالشيء الكبير ولا العميق ولا المؤثر. ذلك أنه من ناحية تأريخية وعملية، طبقة «المثقفين والمفكرين» في العالم العربي أصبحت رقيقة جداً، وليس هناك «مشهد فكري» تؤمه الأفكار ويشهد اصطراعها وتعميقها وإنضاجها. الموجود هو مشهد انفصامي جزؤه الأول تكفيري، وجزؤه الثاني إقصائي، وكلاهما لا ينتج أفكاراً، بل آليات لقمع الآخر. على صعيد إنتاج الأفكار ذاتها نحن في مواجهة انسداد حقيقي، إن لم يكن تراجعا. وما يُكتب وُينشر هو إعادة تدوير لأفكار كتبت ونوقشت مراراً وتكراراً منذ حقبة «النهضة». لم نستطع تفكيك الإشكاليات التي واجهها فكر النهضة منذ قرن ونصف: الدين والسياسة، العلاقة مع الغرب، وضع المرأة، التقاليد، العلاقة بين العلم والدين، الدولة الوطنية والأمة، وهكذا. كأننا أضعنا ذلك القرن ونصف قرن آخر ونحن لا نمتلك الشجاعة الكافية لحسم أي من تلك الإشكاليات، وعوضاً عن ذلك نتلحف بتوفيقية تحاول أن تزاوج بين أفكار متناقضة، فتتحول تكلساً حقيقياً على أرض الواقع وتحول حياتنا الفكرية والسياسية إلى حالة حقيقية من الشلل.
وفي هذا السياق تنتقل المسؤولية إلى جانب المثقفين، وجانب إنتاج الأفكار، وليس فقط جانب الإعلام والجسر الناقل للأفكار المُنتجة. والواقع أن غياب الجرأة الفكرية عند الشريحة العريضة من المثقفين العرب أمر ملفت، ولئن أمكنت الإشارة إلى بعض أسباب ذلك الغياب، فإن ذلك لا يقدم تفسيراً مقنعاً وشاملا. في كتابه الشهير عن المثقفين العرب والغرب والذي نُشر في سبعينيات القرن الماضي، حاول هشام شرابي تحليل هذه «الظاهرة»، أي عدم جرأة المثقفين، وترددهم في القطع مع الفكر التقليدي المتكلس الذي يعيقهم ويعيق مجتمعاتهم. شرائح المثقفين التي ناقشها شرابي انتمت إلى حقبة العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والأولين من القرن العشرين، والتي أسماها حقبة التكوين. مقاربة شرابي في فهم التردد الذي شاب أولئك المثقفين اعتمدت على تفكيك وتحليل السياق الاجتماعي والاقتصادي والنفسي الذي عاشوا فيه. ارتباطاتهم الحياتية واحتياجاتهم الاقتصادية، وانتماؤهم للأغلبية المسلمة في مجتمعاتهم، كبل أيديهم وأفكارهم واضطرهم لأن يكونوا محافظين في طروحاتهم ويبقوا في إطار التوفيق بين الأفكار المتضادة، أو التلفيق فيما بينها. على ذلك بقي الإرث القبلي والعائلي والديني، وما يسميه شرابي البنية القروسطية، مسيطراً على تفكيرهم، فمنعهم من القطع الثوري مع واقعهم الاجتماعي والثقافي.
فترة قرن ونصف قرن مرت على شريحة المثقفين التي ناقشها شرابي، ونحن اليوم أمام شريحة أخرى، أقل تأثيراً وبروزاً، لكنها تعاني من نفس عوارض التردد وعدم الجرأة، إلا في حالات فردية هنا وهناك، وبما لا يشكل «مشهداً فكرياً» عاماً ينتقل بالفكر المجتمعي من مرحلة إلى أخرى. هل ما زال تحليل شرابي صائباً إزاء جبن طبقة المثقفين في مواجهة البنية القروسطية، أم أننا نحتاج إلى تطوير تحليله في ضوء العقود الطويلة التي مرت؟ هل يمكن القول إن تلك البنية التقليدية الصلدة ذات المعالم القروسطية استطاعت أن تبتلع أجزاء من العقل الجمعي والفردي وتعيد تأكيد احتلاله والسيطرة عليه، بحيث ما عاد بالإمكان التحرر منها؟ بل إن التوفيقية والتلفيقية على علاتهما صارتا تعانيان من التردي والتقهقر أمام الزحف المتواصل للبنية والتفكير القروسطيين. كأن السياق الذي أحاط بشرائح المثقفين في مرحلة زمنية ما، امتد إلى داخل طرائق التفكير وحول البنية العقلية ذاتها إلى بنية قروسطية، وبذلك وعوض أن يدحر العقل الناقد السياق القروسطي، تمكن هذا الأخير من العقل ذاته واحتله وضمه إلى بنيته المتخلفة.

1