أحدث الأخبار
السبت 27 نيسان/أبريل 2024
العزاءُ الوحيد هو أنَّ الموتى لا يتألّمون…!!
بقلم : سهيل كيوان ... 25.01.2024

كثيرون منا لم يعد باستطاعتهم مشاهدة النزيف المستمر على مدار السّاعة في قطاع غزّة، لم يعودوا قادرين على مشاهدة الجُثث أو أشلائها بدون أكفان أو معها، لم يعودوا قادرين على مشاهد نبش القبور بجنازير الجرّافات، وصراخ الأطفال ووجوههم المغبرّة المرتعبة أو المحترقة، ولا أجسادهم الغضّة النازفة والمهشّمة، حتى ابتسامات وضحكات الأطفال باتت مؤلمة، وكلماتهم البريئة حتى تلك المتحدّية، أصبحت غصَّة في حلوقنا.
لم يعد أكثرنا قادراً على مشاهدة أمٍ ترثي قطعة من ولدها أو ملابسه، ولا والد يبكي أسرته، ويأتزر بالقوة ليقول «حسبنا الله ونعم الوكيل» أو ذاك الذي يحتضن حفيدته وما زال يبتسم ويتحدث إليها كما لو أنّها تراه وتسمعه وتشعر به، لم يعد ممكنًا النظر إلى طفل منفوش الشّعر لم يبق سواه حيًّا من بين أبناء أسرته! ولا تلك الأم التي تحمل جثة ابنها الشهيد وتركض فيه خشية أن يطال القصف جثمانه فيقطّعه قبل دفنه.
فاضت الآلام، فُقد ما يمكن تسميته الألم الإنساني، ما يحدث هو ألم فوق الألم الإنساني، وفوق تحمّل البَشر! وأكثر بكثير من امتحان الصَّبر، أقسى بكثير من القنبلة النووية التي هددوا بها في بداية الحرب، إنها إبادة تجري بصورة تقطيع الجثة بالمنشار قطعة قطعة وحرقها من غير مخدّر.
قهرُ الرّجال، الذين باتوا عاجزين عن حماية وإطعام ورعاية أبناء أسرهم.
قهر الرجال بربط أيديهم وأرجلهم وتعريتهم ولإطاحة بهم أرضاً والدّوس على صدورهم ورؤوسهم وسحلهم، ومن ثم لا يُعرف كم سيبقى منهم، وكم سيقضي نحبه منهم تحت التعذيب أو برصاصة رحمة بعيداً في ظلمات الحُفَر وحظائر التّعذيب.
كان سقوط عشر ضحايا من المدنيين في غارة واحدة يوصف بالمجزرة الرّهيبة، وكان مقتل بضع عشرات من المدنيين سبباً وجيهاً لوقف عملية عسكرية «لفحص ما حدث»، كان هناك نوع من الحساب لما يُسمّى الرأي العام العالمي، كانوا يهتمون بحبكة جيّدة متماسكة نوعاً ما لروايتهم بعد كلِّ مجزرة، الآن صار السِّياسيون يطلبون المزيد من الجثث والدِّماء، وبعضهم من أصحاب القرار، يبرّر هذا التعطّش للدّم دينياً وفكرياً وأيديولوجيّاً بل وحتى أخلاقياً.
منذ بداية حرب الإبادة هذه، اتخذ قادة دولة الاحتلال قراراً برفع الوجبة اليومية من أعداد القتلى إلى المئات، بلغت ذروتها في مذبحة المعمداني التي تجاوزت الخمسمائة شهيد، ليصبح بعدها تخفيض عدد القتلى إلى أقل من مئة في اليوم، عملاً عقلانياً وإنجازاً وتلبية لرغبة أصدقاء إسرائيل.
ما عاد أحدٌ يهتم بالأرقام، فما هو الفرق بين أن ترى على الشاشة رقم 24540 و24670! هل يحسَبُ أحدٌ الفارق بين الرَّقمين! هل حسَب أحدٌ ما أن العدد ارتفع مائة وثلاثين شهيداً خلال ساعات! هل فكر أحدٌ أن هذا يعني حاجة إلى مقبرةٍ جديدة!
ترتفع أعداد الشُّهداء أسرع من عدّادات الكهرباء والماء، ستمائة، ألفاً، ألفين، عشرين، ستّة وعشرين، ثلاثين فوق أو تحت الأنقاض، ولا أحد يذوَّت ماذا يعني ستون ألف جريح! كم من الدم! كم من الألم، كم من الشّاش الأبيض -إذا وُجد-! كم من الحُقَنْ، وكم من وجبات الدّم المطلوبة! كل هذا واحتمال الإعدام على فراش المستشفى أو ملجأ الإيواء، قائمٌ.
لكلِّ واحدٍ منهم اسمٌ وأسرة، وقصصٌ يومية، لكلِّ منهم ابتسامته ولحظات ضعفه وقوّته ورغباته، وآلام أسنانه وحساسيته لنوعٍ ما من الخُضار، لكلٍ منهم حلوى يفضِّلها وأكلة يشتهيها، وأغنية أو لحن موسيقي يداعب أحاسيسه، لكلٍّ منهم ذكريات على مقاعد الدراسة، وقميص ولون يفضّله، أكثرهم أصحاب نكتة، قلّة منهم مكشّرون دائماً وأبداً، ولأكثرهم لحظاتُ غرام لا ينسونها أبداً، وبصمة إصبع تتميّز عن غيرها.
جعل الله بصمات البشر مختلفة، كي يقولَ إنَّ لكلِّ إنسانٍ خصوصيته، وإنّ كلَّ إنسانٍ هو عالم بأكمله لا يشبه غيره، حتى التوائم، فلكلٍّ منهم ما يختلف فيه عن توأمه.
نحنُ نتألم أكثر لرحيل وجهٍ نعرفُ ملامحَه وصوتَه، لرحيل شخصٍ تعاملنا معه في مجال ما أو علاقة ما، نتألّم ونشعر معه إذا ما أنزل صورة مع كلماتٍ حزينة يودّع أحدَ أحبّائه، «مع السّلامة وين رايح.. مع السَّلامة يا مِسِك فايح».
«عينٌ لا تشوف وقلبٌ لا يحزن»! من العبقري الذي ابتدع هذا! هذا صحيح في حالات الموت والمآسي العادية، وليس عندما يكون إبادة شعب لأنّه تمسّك بحقِّه في الحرّية، ولأنّه يرفض السُّجود لأعتى قوى البطش في العالم، ولأنّه يقول…لا، في زمنٍ سجدَ فيه الجميع وقالوا نعم لعصابات المال والنّار والبارود والفوسفور والكبريت والرَّصاص!
الرُّعب في التّفاصيل، تلك التي تحاول إدارات وسائل التواصل الاجتماعي منع تداولها بحجَّة المعايير الاجتماعية! ولكنّها بطريقة ما تصل، أحياناً من الضحايا أنفسهم، وأحياناً من معذبيهم والمنكّلين بهم المتباهين بساديّتهم وهمجيّتهم.
النّفسُ البشرية السَّوية لا تتقبّلُ قتل إنسانٍ واحد، لا يوجد شيء أبشع من مشهد قتل إنسان، حتى الإنسان المُجرم الذي يُعدمُ شنقاً، أو يُضربُ عنقه، فإنَّ مشهد لحظات الموت له وقعٌ ورهبة، لا تُنسى طيلة العمر، ولكن عندما تصبح أعداد القتلى بعشرات الآلاف، تنغلق النّفس البشرية على ذاتها، تتهرَّبُ من مواجهة الكمّ الهائل من الموت، ومن القبر الجماعي، والمأتم الجماعي والحداد الجماعي، هروباً من التّفاصيل التي لا تتحمَّلُها النَّفس البشرية.
لا تستطيعُ أن تشعر بآلام مئات من أولئك الذين يلفظون آخر أنفاسهم في دفعة واحدة.
إذا رأيت طفلاً يُدهس أمام عينيك فإنّك سوف تتألّم كثيراً، سوف ترى كيف أغمي عليه وكيف شهق وكيف تراخى جسده، ستبقى آخر نأمة خرجت من فمِه عالقة في ذاكرتك طالما حييت!
عشرة آلاف من الأطفال، يعني عشرات ملايين الابتسامات والأمنيات وانتظار عودة الأب من عمله والأم من وظيفتها وصباحات الأعياد والضَّحكات التي أزْهِقَت!
لا نستطيع القول إنهن عشرة آلاف أم ثاكل، فهو ثكل ويُتم ورُمْلة في آن واحد، فأكثرهن الثكالى رحلن مع أطفالهن أو مع أزواجهن وأبنائهن وأحفادهن. الكارثة ليست فقط بأعداد الأرواح التي أزهقت، ولا خراب البنيان فقط، إنها كارثة أخلاقية على صعيد البشريّة كلها، تكشف كم أن هذه البشرية ما زالت ملتصقة في وحشيتها، تكشف تفاهة قيادات لا تصلح لإشغال وظيفة مفتش تذاكر في قطار، فُرِضِت على شعوب وحضارات عُمرُها ألوف السنين.
العزاء الوحيد الذي بتنا نلجأ إليه هو أنَّ الموتى لا يتألمون، لا الأطفال ولا الرجال ولا النّساء ولا الأجنة في الأرحام، بعد الموت تنتهي بلحظة واحدة آلام الموتى ويبقى الأحياء في جحيمهم.

1