أحدث الأخبار
الأحد 28 نيسان/أبريل 2024
جذور الإرهاب في الحياة السياسية العربية : نهج الرأي الأوحد !!
بقلم :  د. لبيب قمحاوي* ... 29.04.2015

تسود العقلية العرفية ونهج إحتكار الحقيقة أرجاء العالم العربي دون أي رادع . ولم يَعُدْ الأمر مقتصراً على أنظمة الحكم بل تعدى ذلك إلى أوساط ما يسمى بالمعارضة أوالشخصيات أو الحركات الوطنية ، بغض النظر عما قد تعنيه تلك المسميات .
إن إحتكار الحقيقة أمراً يعكس غياب التفكير الديموقراطي الذي يسمح بالرأي الآخر ليس كـَمِنـَّةٍ أو مِنحة ، ولكن كحق طبيعي يمارسه الفرد دون خوف أو وَجَل أو تـَوَجـُّسْ . وإحتكار الحقيقة هو في أصوله تعَدٍ سافر على المواطنة الناجزة وتحويلها إلى مواطنة مشروطة بالولاء والخضوع الفكري .
إن ما تشتكي منه المعارضة أو الحركات والشخصيات الوطنية من غياب الإستعداد لدى الأنظمة التي ينتموا إليها للقبول بالرأي الآخر قد أصبح مرضاً تعاني منه معظم تلك الشخصيات والحركات الوطنية نفسها في محاولاتها المستمرة لتعزيز نهج احتكار الحقيقة الذي دفعها إلى تجريم وتخوين أصحاب الرأي الآخر وبالتالي تعزيز المسار القمعي واللاديموقراطي في تعاملهم مع الآخرين . وقد دفع هذا النهج العديدين إما إلى الأمتناع عن الأدلاء بآرائهم خشية من جبروت محتكري النضال والوطنية ، أو ، بكل بساطة ، الإنحياز إلى الطرف الآخر الحاكم في محاولة لجني المكاسب والمناصب ما دام نهج الحكم ونهج المعارضة هو نفسه . وهكذا ساهمت الحركة الوطنية ، بغباءٍ وأنانيةٍ واضحين ، في دفع الكثيرين نحو أحضان النظام الذي ينتموا إليـه ، كون الخيارات الأخرى أمامهم أصبحت شبه معدومة نظراً لتفشي نزعة إحتكار الحقيقة وإصدار شهادات في الوطنية وحسن السلوك السياسي أو حجبها عن هذه الجهة أو تلك ، عوضاً عن خلق أرضية مشتركة تسمح بتعدد الآراء بهدف خلق رؤيا مشتركة بالنسبة للقضايا والتحديات الرئيسة على مستوى الوطن .
لقد أدى إنفجار الأوضاع في العالم العربي وبروز العديد من التيارات والمجموعات المتصارعة عربياً وإقليمياً إلى إستفحال مرض إحتكار الحقيقة وممارسته من خلال إما إغلاق كافة منافذ حرية الرأي أو السيطرة عليها ، والتعنت في الإصرار على هذا الموقف أو ذاك إلى الحد الذي دفع البعض إلى نصب محاكم التفتيش الفكرية وإصدار فرمانات التجريم والتخوين المتبادل . وهذا أدى بحكم تفشي النزاعات وتشرذم الأطراف المتصارعة إلى تفتيت الحركة الوطنية بل والوحدة الوطنية في كل قطر وتحويلها إلى ظلال باهتة لبؤر الصراع الحقيقي العديدة والمتعددة . وقد برع الإسلاميون والحركات الإسلامية أكثر من غيرهم في عملية تكفير الرأي الآخر نظراً لقدرتهم على إستعمال الدين لإعطائهم المبرر الشرعي والأخلاقي والسياسي للإستفحال في سياستهم تلك . ومع مرور الوقت تفاقم هذا الوضع إلى الحد الذي أصبح فيه التكفير متبادلاً حتى بين التيارات الإسلامية نفسها والتي ابتدأت تتسابق في الغلو بالتزمت والتطرف والعنف كوسيلة للتـَمَيـُّزْ بين أقرانها من الحركات الإسلامية وكمدخل لتكفير الآخرين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تطور في كافة الإتجاهات إلى الحد الذي حَوﱠل القوى الوطنية وشبه الوطنية إلى مُنـَظـﱢرين أو مبشرين لهذا الطرف أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك . فمؤيدي حزب الله مثلاً هم بالضرورة مؤيدين لسوريا ولإيران وسياساتها مهما كانت تلك السياسات ، وهم أنفسهم مؤيدين لتحالف الحوثي وعلى عبدالله صالح في اليمن ومعارضين لعبدربه منصور هادي ومؤيديه ، مع العلم أن علي عبدالله صالح كان من الحلفاء الرئيسيين للسعودية وأمريكا وهو الذي أدخل اليمن تحت العباءة الأمريكية عندما كان رئيساً لها وفي الوقت الذي كان فيه عبدربه منصور هادي نائباً له . والعرب الشيعه يتعبرون أنفسهم ، بشكل عام ، حلفاء لإيران في حين أن العرب السنة يعتبرون أنفسهم معادين لإيران . معادلات سخيفة تفتقر إلى القاعدة الأخلاقية أو التاريخية . والأردن الذي نـَصـﱠبَ نفسه اليد الضاربة للإرهاب دون أن ينجح في تحديد معنى ذلك أو الأهداف الحقيقية منه ، أو في بيان المصلحة الأردنية من ذلك ، أصبح بالتالي أقرب إلى الدون كيشوت في حربه ضد طواحين الهواء ، أي قتال الأشباح بدون نتيجة . أما سوريا ومصر فحدﱢث ولا حَرَجْ . مؤيدي إيران يؤيدوا الأسد بلا حدود و دون أن يعلموا لماذا ، ومعارضي إيران يعادون الأسد ويؤيدوا معارضيه وكل طرف يتهم الآخر بالخيانة . أما مصر فالأخوان المسلمون يْكـَفـﱢرون نظام السيسي وأمريكا لم تؤيده والسعودية تـَدْعَمَهُ ضد الأخوان المسلمين في حين أنها تؤيد الأخوان المسلمين ضد نظام بشار الأسد في سوريا . ومصر السيسي هي ضد إيران الشيعية مما يجعلها في نفس الخط مع قوى الأخوان المسلمين السنية في عدائها لإيران !
الجهات الوحيدة المستفيدة من هذا الوضع المُـحْزِنْ هي الأنظمة الحاكمة التي إحتكرت الحقيقة دائماً كنهج حكم مستعينة بذلك بالأجهزة الأمنية لفرض إرادتها . فهذه الأنظمة تستعين الآن بالنهج التخويني والتكفيري لقوى المعارضة والقوى الوطنية لإثبات وجهة نظرها بزيف ما تدعيه المعارضة والحركة الوطنية في سعيها إلى الإصلاح والديموقراطية في حين أنها في الواقع تسير في خطى النظام في رفض الرأي الآخر وإحتكار الحقيقة .
ولكن إلى أين إنتهى هذا الوضع في ظل هذه المعطيات ؟
لقد ساهم غياب الديموقراطية وإحترام الرأي الآخر في تجذر عوامل الهدم الذاتي داخل المجتمع العربي بـِشَقـﱠيْهِ المتمثلين في السلطة والمعارضة وإلى الحد الذي أصبح فيه المزاج السياسي أقرب إلى التزمت من خلال إعتبار إلغاء الرأي الآخر وإحتكار الحقيقة أمراً طبيعياً . وهذا الوضع سمح للأقوى بإلغاء الأضعف بإعتباره يمثل الرأي الآخر . وقد دفع هذا الوضع الطرف الأضعف إلى مزيد من التزمت ابتداءاً ، ولكن دفعه أيضاً إلى العنف وإلى تبني الأساليب الدموية بإعتبار ذلك هو الرد على نهج التفرد والإقصاء والتـَغـَوُّلْ .
لقد شكل هذا الوضع التربة الخصبة أمام نمو الإرهاب الدموي بإعتباره وسيلة مشروعة للرد على نهج إحتكار الحقيقة ، وأصبح فرض الرأي بالقوة وسيلة للرد على ذلك النهج بشكل عام . فبينما قاد نهج رفض الرأي الآخر البعض إلى الإنزواء ، والبعض الآخر إلى التزلف للسلطة ، فإنه دَفـَع بعض البعض إلى العنف والإرهاب . وفي كل الأحوال كانت الديموقراطية هي الضحية الأكيدة حيث أصبحت التعددية سواء الفكرية أو العرقية أو الدينية هي ضحية نهج العنف والإرهاب الكافر بكل شئ إلا ما يؤمن به . ودخل العرب في دهاليز هذا المجهول وإنصبت جهود الأنظمة على مقاومة التزمت والإرهاب والعنف بإعتبارهم العدو الأهم عوضاً عن التصدي لمعالجة الأسباب والمسببات التي أدت إلى تبلور هذا النهج وتطوره من غضب سلمي إلى ظاهرة فـَتـﱠاكة تتعارض والمصالح القومية للأمة العربية ، وتخضع لقيادات لا يستطيع أحد التأكد من نواياها وعلاقاتها الباطنية مع دول وتنظيمات قد تكون عدوة لمصالح العرب وآمالهم .
وللأسف إستمرت الأنظمة العربية ، بالرغم من كل ذلك ، في التعامل مع هذه التطورات من منطلق الحفاظ على النفس وإعتبار سلامتها وبقائها وإستمرارها الأولوية القصوى حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الدول التي يحكموها . وهكذا ، فإن إحتكار الحقيقة قد جعل إمكانية تجديد فكر الأمة ومؤسساتها شبه معدومة . إن فشل العرب المتكرر والمزمن في تجديد أنفسهم وفكرهم وتطويره بما يناسب العصر ومتطلبات الديموقراطية الناجزة والمواطنة المتكافئة يعكس تـَجَذرْ سياسة إحتكار الحقيقة وإقصاء ورفض الرأي الآخر .
الإرهاب ليس نبتة شيطانية ، فهي تحتاج إلى بيئة مناسبة وعناية فائقة حتى تنموا وتتكاثر إلى الحد الذي يُمَكـﱢنـَها من قتل كل ما حولها ، وهذا ما يحصل الآن . إن سلوك الأنظمة العربية الإستبدادي الأقصائي والفاسد ، وهو نفس الحال بالنسبة للقوى الوطنية والمعارضة وإن كان بدرجات متفاوته ، قد جعل خيار اللجوء إلى الإرهاب والعنف خياراً وحيداً بالنسبة للبعض .
وقد ساهمت بعض الحركات والتيارات الفكرية الإسلامية ذات الأصول الغامضة والمشكوك فيها ، مثل الحركة الوهابية ، والتي احتضنت نهج التزمت وإحتكار الحقـيقة والتكـفير ، في توفير الأرضية اللازمة لتبلور الإسلام المتزمت والدموي الذي لا يسمح بأي تغيير على نهج السَلَفْ الذي كان سائداً قبل ما يزيد عن 1400 عاماً بل وتعتبر أي تغيير عليه هو أقرب إلى الكـُفـْر الذي يستوجب العقاب متناسين عوامل التطور والتطوير التي تـُعْتـَبر نتائجها بالنسبة لهم شذوذاً عن القاعدة الأصلية وشيئاً أقرب إلى الزندقة .
إن إعتقال العقل وتقييد حرية الفكر والتعبير بسلاسل تنتهي تحت أقدام الحاكم أو في ثنايا الماضي السحيق تعكس حالة متقدمة من الإفلاس الفكري والأخلاقي الذي يعكس واقع الإستسلام والخنوع المطلق سواء أكان مصدر هذا الإفلاس الأنظمة الحاكمة أم الوطنيين والأحزاب الوطنية . الإفلاس الفكري وغياب الرأي الآخر سوف يؤدوا حتماً إلى تكريس الواقع السئ الذي نعيشه وهو الآن المدخل إلى إلغاء الهوية العربية.

1