أحدث الأخبار
الجمعة 26 نيسان/أبريل 2024
1 2 3 41122
مدينة عانه العراقية: جنة أعالي الفرات!!
22.04.2018

جنة أعالي الفرات، مدينة تاريخية كانت تنبثق وسط النهر الكبير، ثم باتت تغفو على ضفته، مدينة يكتب اسمها عنه، ويلفظ عانه. هي اليوم مدينة حديثة تمثل قضاء من أقضية محافظة الأنبار غرب العراق، تبعد نحو 200 كيلومتر غرب مدينة الرمادي عاصمة الأنبار، وتتبع إداريا للقضاء أربع نواح، يقدر تعدادها السكاني حوالي 29 ألف نسمة حسب احصاء عام 2013 مقسمين حسب السكن، في مركز قضاء عانه 13 ألف نسمة، ناحية الريحانية ويسكنها 10 آلاف نسمة، ناحية حصا ويسكنها 6 آلاف نسمة، وناحية الصكرة ويسكنها 5 آلاف نسمة. الزراعة هي المهنة الرئيسية لسكان المدينة نتيجة خصوبة الأرض ووفرة المياه، وما يميز الزراعة في مدينة عانه ما يعرف بالحوايج، وهي جمع «حويجة» ويعتقد ان أصل الكلمة هو «حويقة» أي الجزيرة التي يحيق بها الماء من كل الجهات، وان لمدينة عانه تاريخ عريق ينافس أقدم مدن العالم ويمتد لأكثر من 4 آلاف سنة.
عاش فها تاريخيا البابليون والآشوريون ثم يهود ومسيحيون ومسلمون. ويذكر المؤرخ ومهندس الري العراقي د.أحمد سوسة، وهو يهودي تحول للإسلام بعد ذلك، حيث يشير إلى ان أصل عائلته من مدينة عانه. ففي أحد دراساته يشير إلى أن اصول يهود عانه من يهود خيبر الذين أخرجهم الخليفة عمر بن الخطاب (رض) من المدينة المنورة وأن الطريق الذي سلكه اليهود في هجرتهم أو نزوحهم حتى وصلوا إلى عانه قد استغرق عدة سنوات، لأنهم سلكوا طريق الشام ووصلوا إلى ضفة نهر الفرات المقدس لديهم، وان كل مكان أقاموا فيه سموه سوسة، إحياء لذكر المكان الذي كانوا يسكنون فيه في خيبر، وفعلاً فإن من بين القرى المحيطة بمدينة عانه هناك قرية أو قرتان بهذا الاسم.
أما الوجود المسيحي في عانه فان له جذر تاريخي أيضا، ويذكر الباحثون ان المسيحية عرفت في عانه حوالي القرن الثاني أو الثالث للميلاد، وقال عنها اسيدور الترخي، ان أحد أمراء المناذرة المسمى معين والذي كان من مشاهير القادة في عهد الملك الساساني شابور، قد بنى في عانه ديرا مشهورا كان المسيحيون يحجون إليه كل عام اسمه مار سركيس. وتشهد على ذلك الآثار الباقية في المدينة، فهي تحتوي على بقايا الدير. ومع دخول الإسلام للعراق أصبحت الغالبية من سكان عانه من المسلمين مع وجود بعض اليهود والمسيحيين في المدينة.
*المدينة التاريخية
مدينة عانه التي نتحدث عنها هي في واقع الحال عبارة عن مدينتين، واحدة تاريخية لم تعد موجودة اليوم بعد ان أغرقتها مياه سد حديثة الذي انشئ منتصف الثمانينات، وقد كانت مدينة عانه جزءا من بحيرة السد فغمرتها المياه، ومدينة عصرية بنيت على طراز معماري حديث نفذته شركات فرنسية، وتم نقل سكان المدينة الغارقة لها. وان كل من يكتب أو يتكلم عن مدينة عانه العراقية اليوم فانه بالضرورة يتكلم عن المدينة التاريخية القديمة الممتدة على ضفة الفرات والمحصورة بين ضفة النهر ومرتفعات محاذية له، لذلك كانت المدينة ذات شكل مستطيل يمتد حوالي 20 كم، وأزقتها ممتدة بين ما يعرف بالجبل والنهر، بالإضافة إلى المدينة التاريخية التي هي عبارة عن جزيرة في وسط الفرات تعرف بوجود قلعة عانه التاريخية.
وشمال جزيرة القلعة كانت توجد جزيرة «لباد» التي تحوي عدة آثار إسلامية اهمها مأذنة تعرف باسم منارة عانه، وهي مثمنة الأضلاع عرضها خمسة أمتار، تزين وجوهها الثمانية صفوف من كوى ذات حنيات وأعمدة، البعض من هذه الكوى مفتوحة إلى الداخل لإنارة السلم الحلزوني في باطنها ويلاحظ في المنارة أنها تستدق إلى الأعلى حيث تنتهي بجزء ذي طبقتين من الكوى وهي تشبه من حيث الطراز والريازة مآذن الرقة وقبة أمام الدور ومسجد الأربعين في تكريت، إلا انها تختلف في طرازها المعماري عن الكثير من مآذن العراق التاريخية، فهي فريدة في شكلها وعمارتها، وقد بنيت من كسر الحجر والجص، ويعتقد إنها تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي. كما وجد شمالا بالقرب من عانه التاريخية مسجد جامع ابو ريش، الذي يدعى محليا بـ «المشهد»، ويقال ان أصل عشيرة المشاهدة من تلك المنطقة، ويعتقد انه جامع يعود إلى العصر العباسي، وتتكون البقايا الأثرية لهذا الموضع حسب الباحثين من ثلاثة أدوار بنائية وهي:
- بقايا مسجد العصر العباسي، وقد نقلت منه مديرية الآثار العامة محرابا مميزا من خزف موشى بكتابة يرقى زمنها إلى ما قبل العصر الاتابكي وهذا المحراب معروض في القصر العباسي في بغداد.
- صف من ثلاث غرف توجد على جدرانها كتابة عربية تذكر إحداهما، ان الملك عماد الدين زنكي قد عمر هذا البناء في عام 589هـ، وفيها أيضا اسم المعمار بدر».
- غرفة مثمنة الشكل قبتها مطلية بالقيشاني من الداخل وفيها كتابة تؤرخ للعهد العثماني وتنسب إلى أحد الأميرين اللذين يعرفان باسم احمد ابو ريش وفياض ابو ريش، وقد قامت مديرية الآثار العامة بترميم هذه القبة.
*المدينة الجديدة
أما المدينة العصرية البديلة، فهي عادية، تمتاز بنظافتها وجمال تخطيطها العمراني، لكن سكانها ممن انتقلوا من المدينة القديمة ما زالوا يشعرون بالغصة لغرق مدينتهم. ويذكر عبد الله العاني، وهو دبلوماسي سابق بهذا الخصوص صورة مؤلمة عندما يقول إنّ «من أكبر المآسي التي واجهها أبناء هذه البلدة الصغيرة، هي الترحيل من المدينة التي عاشوا فيها، حيث أصدرت السلطات العراقية السابقة قراراً بإغراق المدينة بالماء من أجل توفير مخزون مائي لسد حديثة الذي أنشئ في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، إذ جعلت الحكومة من عانه الخزان الرئيسي لهذا المشروع الضخم، ما دفع الأهالي إلى النزوح من مدينتهم والسكن في منطقة صحراوية قريبة من البحيرة الجديدة. أمر غاية في القسوة أن ترى مدينة الطفولة والصبا والشباب وقد غرقت تحت الماء، وكلما انحسر ماء البحيرة تبزغ هامات النخيل من بين الأمواج، كأنه قبر انشقّ وأخرج أعزاء لنا، كنا نختلس أجمل أوقات العمر وسط بساتين المشمش والخوخ والتفاح». ومن الأمور المهمة التي نفذتها الحكومة العراقية قبل غرق المدينة القديمة هي نقل منارة عانه المئذنة التاريخية بعد تفكيكها إلى المدينة الجديدة على يد شركة إماراتية، ولكن وضمن ما شهده العراق من أحداث دامية في عام 2006 تعرض هذا الأثر المهم للتفجير على يد إرهابيين من تنظيم القاعدة.
*كتابات الرحالة
يذكر حسن النجيفي في الجزء الثاني من كتابه «معجم المصطلحات والإعلام في العراق القديم» مدينة عانه بقوله: مدينة عريقة في القدم، ورد ذكرها في العهد البابلي القديم تحت اسم «ها ـ نا ـ تي» كما ورد في الكتابات البابلية والآشورية بصيغة «أ ـ نا ـ تي». وكانت عانه في أحد عهودها مركزاً لإقليم ومملكة في الفرات الأوسط باسم خاني تقع على ضفاف الفرات، وفي العهود الآشورية عرف هذا الإقليم باسم سوخي، وكان تحت نفوذ الامبراطورية البابلية في زمن حمورابي في السنة الخامسة والثلاثين من حكمه عندما أخضع أقطار الشرق الأوسط بكاملها لسلطانه ويعتقد بعض المؤرخين ان للاسم صلة باسم آلهة عبدها الساميون في بلاد العراق والشام باسم عانه أو أناته أو الآلهة انانا الشهيرة المرادفة للآلهة عشتار.
أما في المصادر الآشورية فقد ورد ذكر مدينة عانه باسم انات «ا- نا- ات». جاء ذلك في نقش الملك الآشوري بلير الأول، 1115-1077 ق.م الذي سجل فيه حملاته الناجحة وبطولاته ضد مدن إقليم سوخي والتي تشكل عانه مركزه. فيما ورد ذكر عانه في زمن الملك الآشوري آشور ـ بل ـ كالا، 1074 ـ 1057 ق.م عند مهاجمته ثانية الآراميين ومدن إقليم سوخي ومنها عانه. كما جاء ذكر المدينة في زمن الملك الآشوري توكوليتي نيفورتا الثاني سنة 889-884 ق.م في حملاته على مدن الفرات الأوسط والأعلى. وبعد سقوط الدولة الآشورية خضعت عانه كباقي مدن العراق وأعالي الفرات للحكم البابلي الحديث. ومن خلال التنقيبات في جزيرة القلعة ثم العثور على لوح طيني من القرن السابع قبل الميلاد كتب عليه أسماء عدد من ملوك عانه يفتخرون فيه ان نسبهم يعود للملك البابلي حمورابي.
أما الروايات العربية فتذكر المدينة باسم عانات أو عانه الذي يعني القطيع من «الحمر الوحشية» والمقصود بالحمر الوحشية الغزلان والوعول الحمراء اللون والتي تسمى العين. وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بقوله «وهي مشرفة على الفرات قرب حديثة النورة وفيها قلعة حصينة، وقد نسب إليها يعيش بن الجهم العاني ويقال له الحديثي أيضا. يروي عن الحسين بن إدريس وإليها حمل القائم بأمر الله في نوبة البساسيري فيه أن يأخذه فيقتله فمانع مهارش عنه إلى أن جاء طغرلبك وقتل البساسيري وأعاد الخليفة إلى داره وكانت غيبته عن بغداد سنة كاملة، وأقيمت الخطبة في غيبته للمصريين (يقصد للخليفة الفاطمي في مصر) فعامة بغداد إلى الآن يضربون البساسيري مثلا في تفخيم الأمر يقولون: كأنه قد جاء برأس البساسيري وإذا كرهوا أمرا من ظلم أو عسف قالوا الخليفة إذا في عانه حتى يفعل كذا».
كذلك ذكرها الرحالة العربي ابن بطوطة في تاريخ رحلته بعدما جاء من الصين والهند إلى بغداد سنة 748هـ ورحل إلى الأنبار وهيت ثم حديثة ثم عانه فقال «ان هذه البلاد من أحسن بلاد الدنيا وأخصبها، والطريق فيما بينها كثيرة العمارة وكأن الماشي فيها يسير في سوق من الأسواق» وقال أيضا «لم أر ما يشبه البلاد على نهر الصين إلا هذه البلاد».
كما مر بها رحالة أوروبيون منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر وكتبوا عنها ومنهم الرحالة رولف الذي زارها ووصفها في كتابه الصادر عام 1564م كذلك ذكرها الرحالة دي لافيل عام 1664م والرحالة بنيامين والبلجيكي موسيل والبريطانية مس بيل، التي مسحت مناطق غرب العراق عام 1908 بحثا عن الآثار، ربما كان لموقع مدينة عانه الجغرافي على حدود بادية الشام وكونها ملتقى طرق التجارة الرابطة بين الشام والعراق والحجاز دورا مهما لعبته على امتداد تاريخها الطويل، لتبقى عانه من المدن القليلة في العالم التي استمرت في الوجود والحياة على امتداد آلاف السنين لتذكر بتاريخ وارث هذه الأرض العظيمة.

1