أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
1 2 3 41123
نسخة أمازيغية لقصة قيس وليلى للحد من العنوسة!!
12.06.2015

للكثير من أنحاء المغرب أسرار مثيرة، ما انفكّت تدهشنا بمدى انعكاس جوانبها الأسطورية على الواقع المعيش.. قبائل آيت أحديدو بمنطقة إملشيل الواقعة في البادية المغربية، وتحديدا بإقليم الرشيدية شرقي المملكة، لم تحد عن هذا المسار بل أوغلت فيه، واصطنعت لنفسها مهرجانا كبيرا تقيمه كل عام وتحتفي خلاله بموسم للزواج العشائري الجماعي، فأضحى مناسبة ثابتة لمعالجة مشاكل الراهن عبر استحضار أساطير الماضي..
فيصل عبدالحسن..يبدأ الموسم المحدّد للزواج الجماعي في أوساط قبائل آيت أحديدو التي تسكن منطقة إملشيل بإقليم الرشيدية شرقي المغرب، في الثالث من سبتمبر من كل عام، إذ تلتقي أعداد وافرة من الجميلات، وهن في عمر الزواج بكامل زينتهن، مرتديات ملابسهن البدوية التقليدية، ويقابلهن عدد مماثل من الرجال.
ويؤدي الجميع رقصات فولكلورية في مهرجان للأعراس الجماعية يستمر سبعة أيام ويسمى بـ”موسم إملشيل”، وخلال هذه الأجواء الاحتفالية الكبرى تختار كل فتاة رجلا يناسبها ليكون نصيبها في الحياة ونصفها الآخر، وفي الليلة ذاتها يقام الزواج جماعيا.
زواج إملشيل أو الزواج العشائري في بادية المغرب، هو أسطورة حقيقية تستمد جذورها من الماضي ولا تزال تعيش في الحاضر، لتحقيق الخصوبة في زمن جفاف البادية وحياة أهلها الصعبة.
البنى الرمزية للمجتمع القبلي
المختصون في علم الاجتماع المغربي أولوا اهتماما كبيرا في أبحاثهم لبنيات المجتمع القبلي في المغرب، وتطارحوا من بينها قضية الزواج العشائري في منطقة إملشيل. والأرجح أن سطوة النبرة الأخلاقية في الخطاب الثقافي والمعرفي تقف وراء امتناع الباحثين عن الغوص في هذا الحقل السوسيولوجي المهمّ لفترة طويلة.
يتحدث الباحث في علم الاجتماع، لحسن آيت لفقيه، عن كيفية مقاربة الوسط السوسيوثقافي لقبائل آيت أحديدو، قائلا “نستنطق كلّ شيء مرتبط بالإنسان كالدور والقبور والعمران والختان والأعراس والأفراح والبؤس واللباس، وغير ذلك من الجوانب التي تحمل شيئا من الرمز والقيمة في هذه المنطقة من المغرب، وهي بالتالي وسائل وأدوات بحث لا بد منها”.
يشي هذا التعليل البحثي بضيق المجال الخاص بالفكر المدوّن وسعة فضاء الفكر غير المدوّن، أو بمعنى آخر وفرة الأخبار الشفهية والرمزية في البادية مقابل قلّة المصادر المكتوبة. وقد سمي هذا النوع من البحوث بـ”الفكر المتوحّش”، وفق عبارة عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس، أو “اللا مفكر فيه”، حسب مصطلح مواطنه الراحل المفكر ميشيل فوكو.
يقول لفقيه، الذي بحث عميقا في تاريخ المنطقة وعاداتها، “إذا دخلنا الوسط السوسيوثقافي لقبائل آيت أحديدو نكون قد اقتحمنا عالما من القيم والرموز، فأين ثقافة الانغلاق في هذا العالم؟ وأين الانفتاح؟”.
تناوب بين الانغلاق والانفتاح
أسئلة كثيرة عبّر عنها الباحث في كتاب مهمّ عن زواج إملشيل، معللا الزواج الجماعي العشائري الطريف الذي يحصل كل سنة في هذا المكان من البادية المغربية، بكونه يقع تحت تأثير جاذبيتي: الانغلاق والانفتاح.
وللأمر علاقة بالطبيعة الجغرافية لمنطقة إملشيل، إذ يقع مركزها جنوب شرق أمالون تيفريت، ويتكوّن الجبل من طبقات كلسية وطفيلية، يتقدمه فجّ يخترقه رافد مائي يسمّى تين كاكو، والفجّ بالأمازيغية يسمّى أمي والكيل ترادف الشيل، وتركيب الكلمتين يفيد باب الكيل. ويصير هنا الانفتاح، المعني في البحث اختيارا يمليه الموقع والطبوغرافية، ففي هذا المكان مثلا تطلب يد المرأة لجمال شعرها وهو معيار يعتبر أهم بكثير من جمال وجهها أو قوامها.
ويذهب الباحث إلى أنّ الضرورة فرضت على قبائل آيت أحديدو “البحث عن منافذ لجلب حبوب منطقة تادلة وتمور تافيلالت، وحناء واحة ألنيف وتازادين، وهي مدن وقصبات مغربية تقع في جنوب البلاد، وجلب كل هذه الخيرات منها إلى وسط لا ينتج سوى الصوف وجلود الماعز والغنم”.
وبعد أن كانت منطقة إملشيل مركزا لكل بضائع الواحة والدير والجبل وتسويقها، تحوّلت ذات يوم إلى حصن مغلق ومنغلق على نفسه، وبدت مستعدّة للصمود أمام أيّ هجوم والدفاع كلما دعت الضرورة.
ولا يعلم ما إذا كان هذا التناوب، بين الانغلاق والانفتاح، مرتبطا بتحرك قبائل آيت أحديدو؟ أم أنه يعود إلى العهود التي عمّرت فيها قبيلتا زيان وكروان المنطقة؟ أم أنّ للمسألة علاقة وطيدة بالدول المتعاقبة على حكم المغرب؟.
مكامن معضلة العنوسة
يقول با كبير، أحد سكان تلك المنطقة، قبل أن يستقر قبل سنوات في العاصمة المغربية الرباط، هذا “الوسط كان يعيش في سالف الأيام على الغزو والترحال والبحث الدائم عن الماء والكلأ”، مضيفا أن الانغلاق فرض واقعه على الناس هناك من زمن يصعب علينا تحديده تاريخيا.
ويرى باحثون أنّ العلة الحقيقة لهذا النوع من الزواج إنّما تكمن في البحث عن وسيلة لعقد زيجات تخفّف من حدة العنوسة التي تعاني منها الإناث اللائي تضرّرن كثيرا من جرّاء واقع الانغلاق التاريخي لساكنة هذه المناطق، وذلك بالمقارنة مع غيرها من المدن والبلدات المغربية.
وفي كتابه عن أعراس إملشيل، يتحدث الباحث آيت لفقيه عن “فلسفة الانغلاق من خلال المعمار” قائلا إن “المعمار استخدم كشعار رفعه الموحّدون، وبالأخص قادتهم، الشعار الذي يقول (أسوارنا سيوفنا) في مرحلة ما قبل ظهور الأسلحة النارية”.
وهي مرحلة احتل فيها تسوير المدن مكانة خاصة، حيث كانت تشيّد جدران سميكة ذات أساس حجري يفوق ارتفاعه مترين ويصعب اختراقها لإيجاد منافذ للهجوم على المدينة، أما بعد انتشار السلاح الناري، فقد أصبح الدفاع عن بعد ممكنا، وبالتالي فلا حاجة إلى التحصين بالجدران ذات الأسس الحجرية السميكة والمرتفعة.
ويبدو أن هذا الانغلاق القبلي خلف الأسوار، لفترة طويلة، قد أدى إلى عنوسة متزايدة، مما تطلب ابتكار حل سريع لهذه المعضلة الاجتماعيّة. ومن ثمة دفع شيوخ قبائل هذه المناطق وحكماؤها إلى تشجيع إحياء أسطورة حبّ أمازيغية قديمة حدثت بين فتى وفتاة من سكّان المنطقة.
تخليد إسلي وتسليت
يصف يوسف الرجراجي، أحد سكان المنطقة، تلك الأسطورة القديمة، فيقول إنّ هذا “الموسم هو لتخليد قصة حبّ قديمة حدثت بين إسلي وتسليت، وهي النسخة المغربية الأمازيغية لقصة الحب المعروفة في المشرق العربي بقيس وليلى”.
أجيال بعد أجيال في منطقة إملشيل تتناقل قصة إسلي وتسليت اللذين أحبّا بعضهما حبّا عظيما، وحال الخلاف بين قبيلتيهما دون إتمام الزفاف وتتويج هذا العشق والغرام الكبير.
ويذكر الرواة أنّ إسلي كان شابا من قبيلة آيت إبراهيم وتسليت صبيّة من قبيلة آيت أعزى، وهما قبيلتان تنتميان للجذع نفسه لقبائل آيت أحديدو بمنطقة إملشيل، لكن القبيلتين كانتا متخاصمتين، فأصرّتا على منع الحبيبين من الوصل والاقتران ببعضهما البعض.
ويقول الرجراجي إنّ “أغرب ما في الأسطورة الأمازيغية هو البحيرة الحالية الموجودة بوسط الصحراء، والتي يعتقد سكان المنطقة أنها تكوّنت من دموع العاشقين إسلي وتسليت”، مضيفا أنّ ذلك يفسّر إقدام المتزوّجين في هذا الاحتفال الكبير على الاستحمام في تلك البحيرة خلال صباح اليوم التالي لليلة زفافهم.
وتذهب بعض الروايات إلى أنّ القبيلتين قرّرتا المصالحة بعد هذه الحادثة المؤثرة، فالدموع المنهمرة من مقلتي الحبيبين خلّدت ذكراهما بعد وفاتهما لوعة وحرمانا، لكنّها توفّقت بالخصوص في تعبيد طريق الوصل والزواج بين المتحابّين بعدهما، فقد أصبحت القبيلتان تنظمان موسما للزواج الجماعي بمحاذاة بحيرة “تسليت” الموجودة بمنطقة إملشيل.
وبصرف النظر عن الجانب الأسطوري والخرافي في تلك الروايات، فإنّ احتفالات الزواج العشائري في إملشيل المغربية تتيح فهم حقائق كثيرة عن معاناة الإناث في المغرب، وخاصة واقع المرأة المغربية في البادية، إذ عليها أن تكون أكثر استعدادا لتقبل قوانين الميثولوجيا والأعراف والأساطير لمعالجة ظاهرة العنوسة وتجنّب الاكتواء بها في مجتمع تبلغ فيه نسبة الإناث أكثر من 58 بالمئة.
الجدير بالذكر أنّ الزيجات الجماعيّة في مهرجانات إملشيل السنوية تتم وفق التعاليم الإسلامية التي اعتنقتها القبائل الأمازيغية وترسخت فيها عبر القرون، غير أنّ الميزة الرئيسية لهذه الاحتفالات تتمثل هي أنّها تجري دون إنفاق مبالغ مالية كبرى، حيث تغيب الشروط المنهكة التي عادة ما يفرضها الآباء في المدن على المتقدّمين إلى الزواج من بناتهم!!

1