أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
1 2 3 41123
بيتريا مدينة أشباح مدفونة في تركيا تبوح ببعض ألغازها !!
06.06.2015

تحت أطنان متراكمة من الحجر والتراب دفنت مدينة بيتريا التركية، التي تشغل موقعا جبليا فريدا من نوعه في ولاية تشوروم شرق أنقرة، هذه المدينة الأثرية الكبرى أحرقها الملك كرويسوس حاكم ليديا، قبل 2500 سنة، في معركة خيّم عليها الكسوف فقبر أسرارها، غير أنّ الأساليب المبتكرة في علم الآثار بدأت تكشف عن بعض المجهول.
أيمن سامي..تقع مدينة بيتريا على ارتفاع 1500 متر، قرب بلدة بوجاز الحالية في ولاية تشوروم شرق أنقرة، وفي منطقة تتعرّض لهبوب الرياح المتجمدة والعواصف الثلجية، فقد جعلتها الطبيعة قلعة حصينة تتميّز بموقع استراتيجي يطلّ مباشرة على سهول كبادوكيا، وعلى الطريق المؤدية إلى البحر الأسود شمالا والمتوسط جنوبا مرورا بجبال طوروس.
ذكرت بيتريا في مدونات آشورية وإغريقية قديمة، ولكن لا يعرف إلا القليل عن سكانها الميديين وثقافتهم، نظرا إلى ندرة الوثائق المدوّنة التي تتحدّث عنهم، بالإضافة إلى غياب الشواهد التي تثبت وجود المدينة.
وينتمي سكان بيتريا، أو الميديون، إلى مناطق شمال غرب فارس، وتمكّنوا بالتحالف مع البابليين من مقارعة الآشوريين وهزيمتهم في شمال العراق عام 612 ق.م، ثم توسّعوا غربا وأسّسوا مدينة حصينة لهم على جبل كيركينيس سمّوها بيتريا.
وتحوّلت بيتريا لمؤسسيها إلى منطقة انطلاق لغزو مناطق أخرى من الأناضول، وقد دخلوا في حرب شعواء مع مملكة ليديا الواقعة في الغرب استمرت خمس سنوات وانتهت بتكبّدهم خسارة فادحة.
وفي كتابه “الحرب الشرسة” أو حرب الكسوف كما يسمّيها البعض نظرا إلى حدوث كسوف كلي للشمس أثناءها، يذكر المؤرخ الإغريقي الشهير، هيرودوت، بأن الملك كرويسوس انتهز فرصة كسوف الشمس وقام بإحراق مدينة بيتريا. ويبدو موقع هذه المدينة بمثابة ملعب غولف مهمل أو منزو في ثنايا سلسلة من الجبال الوعرة، ومطوّق بخط جداري طوله سبعة كيلومترات.
وكان البروفيسور جيفري سامرس، عالم الآثار والباحث الأركيولوجي بالجامعة التقنية للشرق الأوسط، قد اعتمد أساليب مبتكرة لدراسة هذه المدينة الأثرية المحصنة، الموجودة تحت جبل كيركينيس الجرانيتي في وسط الأناضول، وقد أعانته البيانات التي تمكّن من جمعها ودراستها من تكوين تصوّر عن البناة الأولين لهذه المدينة.
ونظرا إلى ما يعتري هذا الموقع الأثري من غموض، فقد كان مادة للدراسات الأثرية منذ بدايات القرن العشرين، حيث تم تصنيفه حينذاك ضمن آثار العصر الحديدي، ولكنه أُهمل فترات طويلة فيما بعد، حتى أصبحت الدراسات المتوافرة عنه قبل مجيء جيفري سامرس تتسم بالسطحية وعدم المبالاة العلمية.
العالم البريطاني ظلّ، لمدة عشر سنوات، يرسم مخططات المدينة الأثرية، واستعان بأفضل ما توصّلت إليه التقنيات الحديثة وقتها بمسح شامل للطبقات التحتية في الموقع الأثري، وتمكّن من رسم خارطة تقريبية لمدينة بيتريا الغامضة في التاريخ التي شيّدت بالقرب من موقع عاصمة الإمبراطورية الحيثية القديمة.
وتمكّن سامرس، في ما بعد، من إنجاز مهمة بالغة الأهمية والتعقيد، تمثّلت في رسم خارطة بيتريا التفصيلية، واكتشف أن المدينة التي بقيت على الأرض لمدة 2600 عام هي العاصمة الحدودية للميديين، ولم يستخدم أدوات علم الآثار التقليدية، بل لجأ إلى استعمال منطاد هوائي حار وحجرة معزولة، واستطاع أن يكوّن صورة متداخلة عن الموقع أعقبتها دراسة جيومغناطيسية، واستطاعت حملة التنقيب التي قادها إلى تحديد مواقع الجدران والأبواب وأشياء أخرى كشفتها الإشارات المغناطيسية.
يقول سامرس إن فريق البحث قام بوضع خارطة دقيقة للمدينة، إلى درجة يمكن فيها تدقيق التفاصيل بين نقطتين، حيث أن التفاصيل التي حصلنا عليها مثل الحواجز الفاصلة بين أماكن سكن وجهاء المدينة والفئات السكانية الأقل ثراء، وكذلك أماكن مبان عسكرية الطابع، هذه كلها وفّرت لنا معلومات قيّمة عن حياة المدينة اليومية.
ويؤكّد أنه تعرّف إلى موقع المدينة، لأول مرة عام 1984، وحاول كثيرا اكتشاف عظمة المدينة الكامنة تحت الأرض، والتي لم يستطع أحد من علماء الآثار فك شفرتها الأسطورية القديمة.
ويشير سامرس إلى أن المدينة مترامية الأطراف وذات بنية شديدة التعقيد، وكان الإغريق يبنون فيها مستوطناتهم في أنحاء متفرقة في حوضي البحرين المتوسط والأسود، ويوضح أن اكتشاف بيتريا سدّ فراغا كبيرا لدى دارسي تاريخ تخطيط المدن القديمة.
وقد دلّت التقنيات التي قام بها جيفري سامرس مع فريقه على أن المدينة الموجودة تحت التراب قد احترقت فعلا قبل تهدّمها النهائي، حيث وجد جيفري شواهد من الجير الأسود بفعل تأثير النار المشتعلة.
الموقع فريد من نوعه لأنه صمّم ليكون عاصمة لإمبراطورية عظيمة، لكنه هدّم وأُحرق بعد أن سكنه الناس فترة زمنية لا تتعدّى الجيلين، حسب ما ذهب إليه جيفري.
وبعد خرابها ظلت المدينة غير مأهولة، وهذا ما حفظ التصميم الأولي لها دون تأثير أيّ عامل خارجي أو طارئ، ويبيّن فكرته بالتذكير بأن معظم المواقع الأثرية الأخرى في العالم القديم بقيت مأهولة بالسكان فترات طويلة، فطرأت عليها تغييرات كثيرة في البنية العامة.
وتكمن السمة الأكثر تمييزا لهذا الموقع في حجمه الهائل، حيث يتبع هذا الشريط الصخري الطويل المتطابق مع أساسات جدران الأسوار القديمة حواف قمم التلال على امتداد سبعة كيلومترات، لا سيما أنّ الموقع يعدّ في حد ذاته جبليا وعرا ومليئا بالمنحدرات.
وتوجد روايات متناقضة عن مآثر الميديين وبطولاتهم، حسب ما رواه هيرودوت، وهو ما دفع بعض المؤرخين إلى التشكيك في وجود الإمبراطورية الميدية نفسها، لكن جيفري سامرس واثق تماما بأن هذه المدينة المهجورة، كانت شاهدا مبكرا على التبادل الحضاري بين العالمين الشرقي والغربي.
ويوضح أنّه من وجهة نظر علماء الآثار نفتقر في الواقع إلى معلومات كافية عن الميديين، وهنا تكمن أهمية هذا الموقع، حيث سيتيح لنا فرصة الغوص في تفاصيل حياتهم وثقافتهم، مؤكدا من وجهة أخرى صدق ما أورده هيرودوت، عن هذه المنطقة التي عرفت في قرون لاحقة باسم كبادوكيا، وكانت محاطة بجدار من الأسوار، تبرز فيها سبع بوابات ضخمة.
وتمكّن فريق أثري من التنقيب عن بوابة تدعى كبادوكيا، وهي محاطة ببرج دفاعي، وواجهة تمثّل القصر المنيع، ثمّ تحوّل خزانا المياه القديمان إلى بحيرتين، تجتذبان الطيور والضفادع، وتستخدمان كمصحتين علاجيتين يستفيد من خدماتهما السكان المحليّون.

1