أحدث الأخبار
الجمعة 10 أيار/مايو 2024
1 2 3 41123
الاندثار يتهدد مخازن إيغودار المتحصنة بجبال المغرب منذ 32 قرنا !!
04.05.2015

تتميز مخازن “إيغودار” الأثرية، بمحافظة سوسة الأمازيغية جنوب شرقي المغرب، بخصوصية هندسية فريدة، يعز نظيرها خارج المحافظة. كانت تستخدم في تخزين الثروات من حبوب وزيوت، كما تعدّ ملجأ آمنا لحفظ الحلي والمصوغات وألواح القوانين، ممّا دفع باحثين إلى اعتبارها إرهاصات لأوّل نظام بنكي في العالم.
سعيد أهمان .. تطلق إيغودار، مفردها أغادير في الثقافة الأمازيغية، على الحصون الجبلية أو المخازن الجماعية أو المنزل المحصن، وتبنى عادة على مرتفع يمنحها المناعة وصعوبة الاختراق.
ويقول خالد ألعيوض، الباحث في التراث والتاريخ الأمازيغي المغربي، إن “إيغودار ليست مجرد بنايات ذات خصوصية هندسية فريدة، إنها معالم حضارية ترمز لعظمة قوم مرّوا من هنا”.ويعتبر ألعيوض أن إيغودار “إرهاص جنيني لأول نظام بنكي في العالم، بالنظر لوظائفها الخاصة في تخزين الثروات من حبوب وزيوت، ولكونها أيضا مكانا أمينا يلجأ إليه في حفظ الحلي والمجوهرات، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه بعيدا عن متناول السرقة والضياع”.
ويوضح أنّ “بناءها يتم على مرتفع يمنحها إمكانية الصمود ضد هجمات الأعداء، ويزيدها مناعة الأبراج الأربعة أو الخمسة بحسب أهمية أغادير، والتي تختلف أعداد غرفها التي لا تقل عن 60 وقد تصل إلى 295 غرفة، كما هو حال أغادير (إينومار) أكبر حصون البلاد”.
وتعددت الروايات حول تاريخ بناء إيغودار، غير أن أغلب المؤرخين يرون أنها تعود إلى ما قبل القرن الثاني عشر ميلادي، أي قبل النهضة الأوروبية التي عرفت لاحقا ميلاد النظم البنكية، حسب ألعيوض.
ولإيغودار شخصية معنوية، تنظم تدبيرها أعراف، أي قوانين ونظم، شفهية ومكتوبة يعرفها سكان القبيلة ويحيطونها بهالة من التقدير باعتبارها ملكا جماعيا.
وغالبا ما تبنى إيغودار بتضافر جهود أهالي القرية أو القبيلة بتصميم هندسي على شكل مربع، تعلو زواياه أبراج للمراقبة أو على شكل مستطيل بلا أبراج، حيث يكون الشكل الهندسي مرتبطا بخصوصية المنطقة والمكان، حسب رواية محمد السيد، أحد أبناء قرية تسكدلت التي بها أغادير إينومار، جنوب شرق مدينة أغادير المغربية.
بنية إيغودار الهندسية تتكوّن من ثلاث طبقات، وتصل إلى خمس، كما هو الحال في أغادير تسكينت في بلدة أيت عبدالله بقلب جبال الأطلس الصغير شرقي مدينة أغادير، وتقسم كل طبقة إلى عدة غرف مفتوحة نحو الداخل توزّع على المستفيدين، وهي أشبه في وظائفها بصناديق الأمانات بالبنوك الحديثة، إذ أن صاحبها وحده من يمتلك مفتاحها.
ويشرح محمد ماركو بن صالح، أمين أغادير إينومار، أن الطابق الأرضي لغرفها يسمى تزقي، والوسط أحانو والأعلى أكنار.
كما تضم مسجدا للصلاة، وخزانا مائيا أرضيا لتجميع مياه الأمطار يسمى ظفيرة، فضلا عن فضاء للمواشي يلجأُ إليه وقت الحروب والمحن، وكذلك مسكنا للحارس. ويضيف ماركو أن مساحة أغادير إينومار تمتد على 5000 متر مربع، بها 295 غرفة من ثلاثة طوابق.
يبلغ طول الغرفة الواحدة 9 أمتار، تمتد على مساحة 15 مترا مربعا، بعلو لا يتعدى 1.5 متر وعرض 1.6 متر، وكلها مبنية بحجارة صلدة وطين البلدة، أما أخشاب أبوابها وسقوفها فمن شجر الأركان، مما يجعلها أكثر صمودا.
ويؤكد الباحثون أن أقدمها يحمل اسم أوجاريف، بمعنى الصخرة، وقد هدّم عام 1822 ميلادية، غير أن إينومار ما زال محتفظا بقسماته المعمارية بنسبة كبيرة بخلاف 14 إيغودارا آخر.
ويشير ألعيوض إلى أنّ “لوح” أغادير أوجاريف المتضمن لأحكام التسيير والتدبير يعدّ الأب الروحي لكل الألواح التي ستأتي بعده، والذي كتب عام 1492 ميلادية.
يذكر أنّ اللوح مجموعة من الأعراف المحلية التي تعارف عليها أهالي البلدة، وكتبوها فوق ألواح خشبية صغيرة، والتزموا بما تنص عليه من قوانين تنظم حياتهم.
ولأنّ مؤسسة إيغودار نتاج عمل جماعي لأهالي قرى الجنوب الغربي، فإنّها تتمتع بشخصية معنوية تعتمد في تدبيرها وتسييرها على أعراف وقوانين صارمة، غالبا ما تكتب على ألواح، وكلها قوانين ونظم يعرفها الجميع وتحاط بهالة من الاحترام والتقدير.
ويسهر على تطبيق قوانين إيغودار المحفوظة على ألواح، طاقم مشرف منتخب، غالبية أعضائه من أعيان القبيلة ممّن عرفوا بالمصداقية والنزاهة.
ألواح إيغودار نصوص قديمة غنية بثقافة العمل المدني التطوعي في القرية، يضبط العلاقات التنظيمية واختصاصات مجلس إنفلاس، الذي ينتخب أعضاؤه لتسيير الأغادير وتوزيع الأدوار فيه.
وللإيغودار طاقم يتكفل بمهام الحراسة، يقيم داخل بناية الأمين، كما يفرض على الأسر المستفيدة تعيين فرد منها للقيام بالحراسة بالتناوب، أي ما يسمى بـ“تاوالا”.
وتوكل لأمين الأغادير، الذي يوظف بأجر عيني من المحصول الفلاحي، مهمة الإشراف على تنظيم عملية الدخول والخروج. كما يتم اعتماد حجارة مسطحة الشكل تبنى على طول علو البناية لاستعمالها كأدراج للصعود والهبوط، يصعب تسلقها على غير أهلها وأصحابها مما يزيدها مناعة وتحصينا.
ويقول محمد ماركو، أمين أغادير إينومار: خلال فترة تفريغ المحاصيل، يتجند رجال القبيلة ليشكلوا سلسلة بشرية تمتد تصاعديا فوق الأدراج المبثوثة على امتداد علو البناية لتفريغها بالغرف في انتظام بديع، بعد أن تكون الغرف قد هيئت بشكل دقيق تفاديا لكل ما من شأنه إتلاف المخزون.
وغالبا ما يلجأ إلى رش أرضية غرف إيغودار بسائل مستخرج من بعض النباتات البرية المتوفرة بالمنطقة، خاصة من نبتة تدعى بالأمازيغية تيكيوت، أي شجرة الزقوم، كمبيدات طبيعية يعرف سكان البلدة مفعولها بخبرة راكمها المعيش اليومي.
وفي شهادة للباحث ألعيوض، يقول إن “هذه التقنية تمكن من حفظ مخزون الحبوب لأكثر من 10 سنوات، وهو ما عاينته في أغادير إينومار شخصيا”.ولا يسمح بتاتا بأي سرقة من داخل إيغودار باعتباره مكانا يحظى بالقدسية، فتنزل أقصى العقوبات ضد كل متطاول عليه، غير أن قراءة تلك الألواح التي تمثل دستور إيغودار نجد عبارة “لا شيء على الصبيان إذا سرقوا ما فيه”، كما أنّ للحيوان حقوقا وواجبات. فللقطط الساهرة على حماية غرف إيغودار من عبث الجرذان والفئران حقّ معلوم في المحصول يسلم للأمين الذي يتكفل بإطعامها، وتكنى بالأمازيغية “أغنجة أوموش” أي حصة القط، في وقت يمنع وجود الكلاب داخل أغادير باعتبارها كائنات نجسة في اعتقادات أهالي القرية.
ولا يسمح للإقامة في إيغودار إلا للأمين بمعية أسرته، ودجاجه هو الوحيد المسموح له بالتقاط ما تساقط من الحبوب داخله، وإذا ما صادف وأن دخل دجاج غريب غير مرخص له، فتتم مصادرته وتعد من لحمه وجبة دسمة لمجلس إنفلاس.
ويعتني نظام إيغودار، الذي امتد إلى أزيد من 8 قرون، بتفاصيل دقيقة في تدبيره الجماعي، فإذا قام أحدهم باستعارة “أفطري” (المكيال) من الأمين ونسيه في غرفته دون إرجاعه، فإنه ملزم بأداء تعويضات مادية تقدر بعدد الأيام التي بقي فيها المكيال سجين غرفته، حماية لمصلحة الجميع.
ويبدي الباحث حزنه على حال إيغودار اليوم، بعد أن تعرّضت مرافقها للتلاشي والاندثار بفعل الإهمال، وأغلبها صار أطلالا تنعق فيها البوم والغربان، كما تعرّضت أغلب محتوياتها للسرقة من طرف سماسرة وهواة التجارة بالتحف والآثار.
من جانبه يقول أحمد صابر، باحث في التراث المغربي، إنه “يتعيّن علينا ضمان استمراريتها بصفتها وجها من أوجه الثقافة المادية وتعبيرا عن هويّة الجنوب المغربي، لأنها لم تحظ بأي عناية في السابق كما تستحق وكما يلزم، بعد أن كانت تضمن الحياة والأمن والأمان لأهاليها”.
ويدعو صابر إلى “إعادة توظيفها توظيفا جديدا، لأنها تراث يسيطر على مسارات سياحية شريطة أن تقنن هذه السياحة، وأن يعمل على صيانتها وأن يوظف البناء المستعمل فيها، حيث ما زال هناك بناؤون محليون أحياء يمكن الاستعانة بهم لإعادة الاعتبار لها وتثمينها”.

1