أحدث الأخبار
الثلاثاء 07 أيار/مايو 2024
1 2 3 41123
الحداء وتفاصيل الحياة في رحلات الإبل السودانية إلى مصر!!
15.02.2015

الخرطوم…صلاح الدين مصطفى: في أحد أطراف مدينة الأبيض غرب السودان يقع «جذر الناقة» وهو سوق متخصص في شواء لحوم الإبل وملحقاتها، وبيع ألبانها والتفاكر في كل ما يتعلق بها، وفي الناحية الأخرى، يوجد المكان الذي تباع فيه الإبل وتبدأ منه رحلتها الطويلة إلى مصر.تدل شواهد على إن فكرة «سوق الناقة» بأم درمان مأخوذة من ذلك المكان الذي يعود تاريخه إلى عشرات السنين، كما أن غلبة الطابع الكردفاني على السوق الأم درماني توضح تماماً العلاقة بين «الأصل والصورة».
قوافل وخبراء
ومنذ مطلع القرن الماضي – وربما قبل ذلك- كانت الإبل الأصيلة تساق من السودان إلى مصر في قوافل لتباع هناك بواسطة خبراء محليين.
«الخبير» حسين جورة الله عبيد مارس حرفة قيادة الإبل قرابة نصف قرن وهو أحد الذين تخصصوا في هذه الرحلات. ويقول العم حسين، إنه بدأ هذه الحرفة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي ويسمّى من يقود قافلة الإبل «الخبير»، بينما يطلق على مساعديه «الرعاة». ويتدرج الراعي إلى أن يصل إلى درجة الخبير، ويقول العم حسين إنه عمل راعياً لرحلتين فقط وهذا زمن قياسي في التدرج بين الحرفتين!
ويقود الخبير قافلة تسمى «الرسالة» وتتكون من «120-130» بعيرا في رحلة تستغرق «33» يوماً سيراً على الأقدام، حيث لا يمتطي الخبير والرعاة ظهور الإبل أثناء الرحلة.
تشق القافلة طريقها في الصحراء وتبتعد عن النيل لمدة ثلاثة أيام وتقترب في اليوم الرابع من النيل لتشرب منه، والمناطق التي ترد فيها معروفة، منها: خليوة، العميري، أبو سن، حلفا وغيرها، وتصوم الإبل عن الأكل لثلاثة عشر يوماً ثم تتوقف في «المتابن» (جمع متبنة) وهي أماكن يوجد فيها العلف الذي تتناوله الإبل وتوجد في عدة مناطق مثل ود سليم، أبو جبيل وغيرها.
رقع الإبل
ويتم «رقع» الإبل بعد أن ينهكها المسير، وعملية الرقع تعني خياطة «رقعة من الجلد» على خف البعير لتساعده على تحمل درجات الحرارة العالية في الصحراء، لكن حسين جورة الله يقول إن الخبير الجيد لا تحتاج إبله للرقعة لأنه يختار الوقت المناسب للسير ويضيف: «أفضل زمن للمشي من الساعة السادسة مساء إلى السادسة صباحا، ونعرف الطرق بالنجوم، وفي الصباح يدخل قائد الرحلة يده في الرمال فإذا وجدها حارة ينزل ويأمر مجموعته بالراحة في هذا المكان».
ويحمل الخبير والرعاة «زوادتهم» المكونة من الدقيق، البصل، الزيت ولحم مجفف يسمى «الشرموط» حيث يتناولون وجباتهم البسيطة بعد طهيها في أوقات راحتهم، وعندما تتوقف القافلة يتم «عقل» الإبل حتى لا تذهب بعيداً، ومن ثم يمارسون حياة الاستقرار من تناول الطعام وشرب الشاي الذي يكثرون منه ويقومون بتفقد البعير والعناية بها. ويقول العم حسين «الخبير الجيد تصل إبله في شكل جيد ، فلا تكون ضعيفة ولا مرهقة، وبذلك تباع بسعر مجز».
تصريح سفر
الرحلة في ستينيات القرن الماضي لم تكن معقدة، والتجول بين الدول لم يكن صعباً، وعندما تكتمل استعدادات القافلة، يستخرج لها «تصريح» سفر ثمنه ثلاثة جنيهات، ويتم استخراجه من المجلس المحلي في سودري، ويقول العم حسين:»لا أحد يسأل عن جنسية أو باسبورت، وعندما نبيع الإبل ونقرر العودة نذهب للسفارة السودانية، حيث نقابل السفير الذي يسألك بدوره عن قبيلتك وعن أحوال البلد، ثم يكتب لك ورقة تثبت أنك قائد قافلة ولن تجد من يعترضك».
تختلف رحلات الخبراء إلى «المحروسة» بحسب قدراتهم وإمكاناتهم، فالعم حسين- مثلاً- كان يقود ما بين ست إلى سبع رحلات في العام، وهو من قبيلة بني جرار وهم أصحاب شهرة وخبراء في مجال الإبل واشتهروا بالكرم والشهامة والفروسية، وقد ورث هذه الحرفة عن آبائه وأجداده، وبدوره أورثها لاثنين من أبنائه، ويقول إن هذه الحرفة تعلم صاحبها الصبر والمسؤولية والصدق وتجلب له احترام الناس وتقديرهم، ويضيف:»عندما يعود الخبير من مصر، تقابله البنات بالغناء ويتم تقديره من النساء والرجال بوصفه قائدا حقيقيا ومكان فخر قبيلته».
تشكيلات عسكرية
تسير الإبل في القافلة مع بعضها البعض في تشكيلات أشبه بالتنظيم العسكري، وقد يتعب الخبير في بداية الرحلة لكن بعد عدة أيام يتم كل شيء تلقائياَ، ويتوسط الخبير القافلة بينما يتوزع الرعاة بين الشمال واليمين والخلف، ولا يوجد ما يعكر صفو القافلة، حيث المناطق آمنة تماماً ولا توجد جمارك أو ضرائب أو حكومة تطاردهم، كما تخلو طرق القوافل من الحيوانات المفترسة.
الإبل.. أجود اللحوم
ويصف العم حسين الإبل- التي يعجب بها أيما إعجاب – بالذكاء والفطنة ويروي مواقف عجيبة عنها، ويقول: «الإبل تعرف مكانها وإذا ضلّت ترجع لمكانها الأول، وحدث أن عادت بعض الأبل لوحدها من مصر» ويقول إن لحوم الإبل من أجود أنواع اللحوم، يأتي الضأن بعدها ثم البقر، ويقلل العم حسين كثيراً من لحوم الأبقار ويصفها بكل السوء، مشيراً إلى أضرارها البالغة، بينما يثمن لحوم الضأن التي تأتي عنده في المرتبة الثانية بعد الإبل.
ورغم ذلك فإن الخبير ومعاونيه لا يتناولون لحوم الإبل في رحلتهم إلى مصر، بل يكتفون «بالعصيدة واللحم المجفف» ويقول «لا نأكل لحم الإبل إلا إذا اضطررنا لذبح واحدة، ويحدث هذا إذا أصيبت في أرجلها ولم تستطع المشي».
ولا يتناولون ألبان الإبل في مسيرتهم الطويلة، لأن الرحلة تكاد تخلو من الإناث، وحتى إن وجدت فهي لا تدر لبناً، أما أنواع الإبل التي تكون في القافلة فيقول إنها إبل «مخصصة» يكثر لحمها وهنالك إبل تعرف بـ»قنية» وهي ضامرة وتستعمل في الركوب ومطلوبة في صعيد مصر، وبعضها يستجلب خصيصاً للسباق وتفضل هنا إبل الرشايدة، أما إبل اللحم فأفضلها حسب العم حسين، إبل الشنابلة والحمر، وإبل دارفور، أما تفضيل أجود أنواع لحوم الإبل فيقول إنها «الفليت». ويشرح أكثر:»ستارات الضهر، والضلوع لحمها حلو، والزند أيضا» ويقول إن لحم الإبل لا يضر من يتناوله أبداً، ويعدد فوائد لبن الإبل الذي يسمى «القارص» حتى تخاله طبيباً وليس خبيراً في قيادة الإبل.
ماركات مسجلة
ويتم وضع علامات على الإبل حتى تكون معروفة، وهنالك ماركات معينة معظمها بالأرقام، حيث يتم وضع الرقم «99 أو 5 أو 81 أو 95» على رقبة البعير كوسم ويعتبر هذا الرقم ماركة مسجلة للإبل أينما وجدت.
أما عن أفضل الأوقات لبيع الإبل السودانية في مصر فيقول العم حسين:»شهر أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/اكتوبر فهذا وقت مناسب للبيع، حيث يزداد الطلب على لحوم الإبل السودانية في عيدي الأضحي ورمضان، وكذلك حوليات الصالحين مثل حولية أحمد البدري وغيرها، ويضيف إن الإبل السودانية لا منافس لها في أسواق مصر، حيث ترد الإبل الصومالية لكنها لا تقوى على الصمود في السوق أمام الإبل السودانية».
أما أسوأ الأوقات لبيع الأبل السودانية في مصر فهي تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر ويعلل ذلك بعدم وجود طلب كبير على اللحوم.
حداء وغناء
السوق في مصر يحدد ويسمّى بالأيام، كحال العديد من الأسواق السودانية ويخصص سوق الجمعة والاثنين للإبل، ومعظم تجار الإبل سودانيون مستقرون في مصر.
وهنالك سعوديون وبعض المصريين ويثني حسين على أمانة المصريين وقال إن الجنيه السوداني كان يباع بثلاثة جنيهات مصرية وعندما سألناه عن أهم مميزات خبير قيادة الإبل قال:» الطريق إلى مصر طويل، لكن الخبير ورعاته يستعينون بالحداء والغناء على صمت الصحراء ويترنمون بالعديد من المقاطع التي يتم تداولها أو إنشاؤها أثناء المسير».
دراسة علمية
ووفقا لدراسة تحت عنوان «اقتصاديات تربية وإنتاج الإبل في السودان» أجراها كل من الدكتور حسن محمد نور والدكتورة هادية عثمان إدريس من وزارة الثروة الحيوانية والسمكية عام 2006 فإنّ من أكبر إشكالات التجارة مع مصر هي تحويلات عائد صادرات الإبل الى داخل البلاد.
ففي فترة الاستعمار البريطاني (1899-1956) كانت الإبل التجارية بعد بيعها في السوق المصرية يتم نقل عائداتها إلى السودان مباشرة وبالعملة نفسها، حيث كانت العملة المتداولة بين البلدين واحدة.
نظام الحصص
وبعد استقلال السودان فى خمسينيات القرن الماضى، تم تنظيم صادرات الإبل بإصدار رخص الصادر بواسطة مديري المراكز الإدارية، وظل الحال كذلك حتى 1964 حيث أدخل نظام الحصص (الكوتات) لتنظيم التجارة بين البلدين. وفي هذا النظام يتم تقسيم الإبل المراد تصديرها سنويا على أسس متفق عليها بين المنتجين من جانب والتجار من الجانب الآخر وكانت هذه تمثل حصة ذلك العام إلى مصر.
كان على أي مصدر ان يبيع 25 في المئة من حصته إلى السلطات المصرية بسعر ظل ثابتا حتى عام 1982، وله الحرية في ان يبيع ما تبقى حسب أسعار السوق.
وتقول الدراسة إنّ تجارة الإبل ظلت تمارس في السنوات التالية لعام 1982 دون تصاديق صادر، وللحصول على عائدات صادراتهم ، كان المصدرون يلجأون وسيلتين: إما بتكبد مشاق السفر بأنفسهم إلى مصر أو بتكليف شخص موثوق به هناك لتحصيل عائدات الصادر.
تنظيم تجارة الأبل
لقد ظلت السلطات السودانية خلال الفترة المشار إليها تلح على الجانب المصري للجلوس لتنظيم ذلك الأمر وحسب الدراسة فإنّ الأخير ظل يماطل في ذلك ولم تستجب السلطات المصرية للطلب السوداني إلا في عام 1982 عندما أتفق على تكوين لجنة مشتركة بين الجانبين تمخض عنها تعيين ممثل للسودان في القاهرة لتنظيم تجارة الإبل والإشراف عليها.
وتشير الأحصاءات المتوفرة إلى أن حجم الصادر إلى مصر بلغ 99783 رأسا كمتوسط خلال 1996-2005 ، والحديث غير الرسمي المتداول يشير إلى 200 ألف رأس بسبب عمليات التهريب الواسعة التي تتم عبر الحدود.
واقع فرضته الظروف
وتجدر الإشارة إلى أن تجارة الإبل مع مصر واقع فرضه تناقص الطلب المحلي، بالرغم من محدوديته، على استهلاك لحوم الأبل، إذ أن هناك شرائح كثيرة في المجتمع السوداني لا تستسيغ لحوم الإبل لأسباب ثقافية ويزداد الأمر تعقيدا بتنامي المجتمعات الحضرية على حساب الريفية حيث أن الأولى هي الأكثر استهلاكا للحوم بصورة عامة والتي لا يفضل كثير منها لحوم الإبل.
ماض وذكريات
كل هذه التداعيات صارت الآن ماضيا وذكريات، فقد توقفت قوافل الإبل الذاهبة إلى مصر بالشكل التقليدي القديم وصارت محدودة وعلى نطاق ضيق جدا، وأسهمت تعقيدات الحياة في انتهاء هذه الظاهرة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن وجود الإبل السودانية في أسواق مصر لن ينتهي أبدا – كما يقول الخبير حسين – وتظل الرحلات التقليدية تاريخا يحكى من جيل إلى جيل.

1