أحدث الأخبار
الاثنين 29 نيسان/أبريل 2024
الفلسطيني على الصليب!!

بقلم : رشاد أبوشاور  ... 02.01.2013

بيت لحم، تعيش في روحي منذ سمعت أجراسها، وأكلت من تينها وعنبها، ودهشت بجمال بيوتها القرميدية، والدخان المتصاعد منها وهو يتلوى ويمتزج بالضباب الذي يغلفها، ويخفي سماءها.
نعم: بيت لحم تعيش في عمق القلب.
لم أعش في بيت لحم، ولكنني قضيت أربع سنوات في مخيم (الدهيشة) مع والدي، وأقول والدي..لأن هذه كانت أسرتنا، فوالدتي، وشقيقتي..بقيتا في(زكرين)..في قبرين!
(الدهيشة) أول مخيّم عشت فيه، بعد أن (شُحنا) في صندوق سيارة من (جورة بحلص) في ضواحي الخليل، إنقاذا لنا من قسوة الشتاء الخليلي في الكروم التي لا يقيم فيها الخلايلة سوى في عز الصيف.
أُنقذنا من ذلك (العقد)، وكنّاعدّة أُسر، حشرنا فيه في عز الشتاء، بعد سقوط قريتنا( زكرين)، في اليوم الثاني والعشرين، من الشهر العاشر، عام 1948.
بعد التهجير من قريتنا، رمينا تحت أشجار الزيتون، فتبعثرت الأسر في العراء تحت الأشجار، غير بعيد عن الحرم الإبراهيمي، ثمّ مع سقوط أول زخات المطر نقلنا إلى ( جورة بحلص)..ويا لهول تلك الأيام التي قضيناها هناك.
قال أبي: هنا أسقط القائد عبد الحليم الشلف( أبو زياد) طائرة انكليزية، برشاشه ( البرن). وأضاف: كان قائدنا في ثورة فلسطين الكبرى 1936ـ 1939.
وأضاف أبي متباهيا بقائده، تمدد على ظهره، ولاحق الطائرة بعينه اليمنى، فعينه اليسرى كانت مغلقة كي يرى الهدف بدقة، وضغط على الزناد، فترنحت الطائرة وهي تشتعل.. وسقطت، ومن مواسيرها صنع الرعاة شبابات ملأت بالأنغام التلال، وشعاب الوديان، وتغنى الناس ببطولة الشلف (أبو زياد)، البطل الذي دوّخ الإنكليز في جبال الخليل.
ومتحسرا أضاف أبي: آخ لو انتصرت الثورة على الإنكليز، لما انتصر علينا قطعان الصهاينة، ولما تشردنا.
حقل من الخيام: هذا هو مخيم الدهيشة، والخيام تقتلعها الرياح العاتية، وترميها بعيدا، وفي العراء، وتحت المطر.. تمضي أيام الشقاء، بطيئة، ثقيلة.. أيام الوحل، والبرد الذي يقص المسمار ـ كما كان عمي عبد الرحمان يقول ـ والجوع، والمهانة، والدموع، والحسرات، والذهول.
بين ( الخضر) و( بيت لحم) امتد مخيّم الدهيشة.
وتحت الخيام قضينا أيامنا التي امتدت 4 سنوات. تحت الخيام قرأنا أوّل الدروس، وتحت الخيام عرفنا أننا نُكبنا، و.. من سبب نكبتنا، و.. تعلمنا الحقد على من خان، وباع.
و.. كبرنا شبرين في الدهيشة، وقرأنا كتابين.. ثلاثة، ورددنا خلف الأساتذة: نمر، أحمد العجوري، أحمد مزهر، الياس الذي يأتي صيفا كل صباح من بيت لحم وهو يمشي مشيا سريعا، وشتاءً يندفع راكضا متحديا المطر الغزير العاصف.
قال الأستاذ الياس التلحمي: اركضوا، لا تتوقفوا، قاوموا البرد بالركض، فالركض دفء للبدن، تحريك للدم، تحد للكسل، وللوهن، وللحزن.
فظللنا نركض حتى اليوم، رغم الشيخوخة، ورغم الأمراض، ورغم الحزن، ورغم القهر، ورغم الفقر.
في الدهيشة: مشينا حفاة، عراة، و.. وزعوا علينا ( بقجا) تحوي ملابس عجيبة، لنساء لا يشبهن أمهاتنا: فساتين ملونة، أحذية بأبازيم، و.. ملابس
(كاوبوي) بيعت بالسعر البخس لتجار جاءوا من غامض علم الله، وراحوا مبتسمين بما غنموا من( جهلاء) لا يعرفون قيمة بناطيل الكاوبوي الزرقاء، المبطنة بقماش مربعاته ملونة بألوان حمراء وزرقاء.
سنوات ثم رحلنا هربا من برد الدهيشة جار بيت لحم.
رحلنا بعد مظاهرة أولى شاركنا فيها، غشماء بمن هتف الآباء ضدها، ولعنوها، وسموها: بريطانيا..ووصفوها بـ: أصل الداء.
في مطلع الخمسينات: مع ثورة ضباط أحرار في مصر، تكومنا في شاحنة حملتنا إلى بلاد الدفء: أريحا..وهناك بدأنا نسمع أخبار الدنيا من راديو في مقهى( الدحمس).
وأريحا شمس، خُضرة ـ الفظ التاء المربوطة هاءـ وبرطعة مثل حيوانات لم تروّض، في السهل الممتد.. حتى البحر الميت، وحتى كتف (الأردن) ..النهر، وأشجار البوص، والأسماك التي تسبح في الطمي المقذوف من النهر الفائض هدّارا.
في صغري أحببت الشعر، وما زلت: عموديا، تفعيلة، حرا من دون الأوزان.. (وزنه منه فيه)، وقلت كلاما مثل الشعر.
أحببت الموسيقى في ساحة المهد، في أعياد الميلاد، وأنا أتدثر من برد لم يألفه جسدي الناحل.(كنت نحيلاً، شبه عار، حافيا)
في بيت لحم: أُنقذنا من تحت خيام طارت، أبقتنا للثلج ضحايا..وتكدسنا في جامع عمر بن الخطّاب، قبالة مهد مسيح الكون المصلوب فدائيا للمضطهدين، في أرض فلسطين، وللناس المنسيين، بعيدا، حتى لو كانوا في الصين!
اليوم، وأنا لا أسمع الأجراس البعيدة.
أعرف أن الأهل في بيت لحم ..هناك، في دهيشتنا..في بيت ساحور، وبيت جالا..وفي القدس المأسورة: يحتفلون رغم الموت، ورغم الغربة، والصلب، ورغم النوح بأرض بلادي.. يحتفل الأهل المحزونون.
يا رايحا إلى برك سليمان..قبالة بلدة الخضر: سلام لأشجار السرو، وللماء.
بلغ أهلي، والحب الأول مني آهاتي..وحنيني.
واشرب من نبع العين، وادع الله بأن يجمعنا في أقرب عام
ملاحظة: دائما أعود إلى بيت لحم. آكل من تينها، وأقطف، أقصد: اخطف حبّات، عنقودا، وأطير. خوفا من ناطور جبار سيطاردني، ويعاقبني..لكني، فيما بعد، أكتشف بان الناطور يواري فمه حتى لا ألحظ ضحكته الراضية، ثم وبعد أن ابتعدت يوما.. ناداني، وضع القطف بين يدي، وابتسامة رضية على وجهه: كل هذا القطف حبة حبة..فعمك حنّا زرع ليأكل أهل فلسطين: لا خوف بعد اليوم، فكل، وتشاطر، حتى تكبر لفلسطين.
الله يرحمك يا عم حنّا التلحمي، فأنت ببالي حتى اليوم، وتحت الأسنان: لوز، تين، عنب..من كرمك.
على الصليب شعب
على الصليب مسيح
على الصليب مخيمات قد مزقت خيامها أعتى ريح.
هذي طفولة جيلي، فكيف أنسى المسيح.
رأيته في حقول الخضر، بيت لحم، في جبل التجربة فوق أريحا، وسمعته ينادي: لا تيأس يا شعب، واحمل صليبك واتبعني.
انس إكليل الشوك، والمسامير في راحتيك، وقدميك، والسياط على ظهرك، وامش ولا تتوقف، وانهض من تحت ثقل صليبك، وانهض، وامش من جديد، فدربك طويل، وأوان الراحة لم يحن بعد.
ولكننا نفعل يا سيّد الألم، أما من يوم نسند فيه رؤوسنا لتيننا، وزيتوننا، و..نرتاح؟!
يأتي صوت المعلم: فلسطين في عيونكم، والزيتون بانتظاركم..فغذوا السير، ولا تنكسروا، فبهذا ستكونون: قسما بالزيت وبالزيتون..قسما بالزيت وبالزيتون...( الصوت يتواصل في رأسي، وقلبي، وفي الفضاء حولي).
ومن جديد تقرع الأجراس في بيت لحم، في كنيسة المهد، وتطير عصافير في السماء، تحت الغيوم، وهي ترتعش، ولا تسقط من البرد، بل تطير منتشية، عنيدة، كأطفال الفلسطينيين الفقراء المحرومين.
طوبى لأيام كابدناها، وعبرناها، وحملناها في النفس، وما هزمتنا، بل زادتنا إيمانا، وعيا، وبسالة.
أنصتوا، واخشعوا، فالأجراس تقرع هناك في بيت لحم: الفلسطيني على الصليب، وقيامته ما زالت نائية، وأنتم لا تدرون بما يقاسي، وعيونكم ليس ترى دمه، ولا دموعه حزنا على عالمكم، وحياتكم، والأيام التي تضيعونها هباءً.
هل سيكون العام 2013 أفضل من العام 2012 ؟!
أنتم تقررون..أو يقرر لكم أعداؤكم، فاختاروا!