أحدث الأخبار
الجمعة 03 أيار/مايو 2024
اليرموك.. ماذا تبقى من النكبة؟!..

بقلم : نزار السهلي ... 12.05.2013

حين يخرج الفلسطيني من دائرته الخاصة بعد ما يزيد عن ستة عقود ونيف من عمر النكبة الفلسطينية، نتابع نحن الشعب الفلسطيني رواية أخرى عن نكبتنا، غير تلك التي وصلت إلى مسامعنا من خلال ذاكرة الآباء والأجداد الشفوية، وغير تلك الرواية المدونة في كتب المؤرخين والباحثين عن جذور النكبة الفلسطينية، وحال اللاجئين في شتاتهم ومعاناتهم، جُمعت ملايين الكلمات ومثلها مؤلفات ضخمة، وقضى البعض جل سنوات النكبة باحثاً ومدوناً وروائيا ومحللاً لواقع الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات. ما يميز ذكرى النكبة اليوم أنها تأتي في ظل استغراق البعض في حلم عميق سرعان ما استفاق منه "أهل النكبة" في مخيم اليرموك وباقي المخيمات، وقد سرت في عروقهم رعشات من الألم المفزع، والموت المحقق الملحق بهزيمة ذليلة، يقارن "صاحب النكبة" التي انتقلت إلى مسامعه ووعيه معاني اللجوء والتشرد في الذاكرة، بعفوية الواقع وبداهته المليئة بالأسى وهو يفتش في حنايا ذاته عن نقيض المعاني التي جُلد بها جسده المتعب وذاكرته المتقدة بالحسرات والآلام، فآباؤه وأجداده الذين أوكلوا له وعياً ظنه ذات يوم أنه مكللا بتاج الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني سيقهر قلاع الصهيونية.
كيف تستقيم المعاني كلها لدى اللاجئ في مخيم اليرموك، والنيرب وحندرات، والعائدين وخان دنون وخان الشيح، إلى كل تجمع أسماه الفلسطيني مخيماً خيمت فوقه ظلال حيفا و صفد، وترشيحا وطبريا ويافا وعكا واليازور ولوبية وبلد الشيخ وبئر السبع، إلى كل قرية وخربة سكنت وجدان أهلها في الشتات وهو يكتوي اليوم بفظاعة أخرى من النكبة غير الشفوية وغير المقروءة، حين تتلقفه دوائر الموت والحصار والتشريد ليصير كل ما حوله.. وفوقه وتحته خرابا في خراب، الكتب مدفونة تحت الركام في المخيم، كواشين الأرض مزقتها قذائف الدبابات والطائرات، ومفاتيح الديار التي نتغنى بها صهرتها حمم النار، صور الأطفال ورسائل الأحبة والحبيبات الزوجات والأمهات والأخوات، محتها حرائق نكبة عصرنا الحديث وأحالتها رمادا، تركنا خلفنا في المخيم محمود درويش وحيدا، واليافطات التي ترمز إلى القرى والمدن في زواريب المخيم باتت تحت أنقاض المنازل، ورجال غسان كنفاني تحت الشمس الملتهبة تحولوا جثثا متفسخة، وخارج المخيم أبو الخيزران ما زال يمارس سمسرته المعهودة في قوادة الثورة، إرثنا وميراثنا الأدبي والثقافي والاجتماعي والسياسي غدا أطلالاً عند أعتاب اليرموك والمخيمات الأخرى.
لم تعد لنا حاجة في كتب التحليل الماركسي، والديالكتيك، ولا رأس المال ولا الطبقة العاملة ولا (ما العمل)، ولا نيقولاي استروفسكي (في كيف سقينا الفولاذ) عندما أوصاني أخي أن احتفظ بالنسخة الأصلية للطباعة وجدتها مبعثرة مع شظايا قذيفة أقوى من شخصية بافل كورتشاجين، بحيث أفصحت نكبة اليرموك بصريح المعاناة الحقيقية للاجئ، وكل ما ذكرته كتب المؤرخين عن النكبة الأولى ما هو إلا نزهة في رحلة التآمر على الفلسطيني ومسلسل القتل والتهجير للفلسطيني لم يكن سوى فواصل تعتاش عليها موائد الارتزاق العربي والفلسطيني....
في أيار يقف الفلسطيني في المخيم لا ليستذكر كيف سقطت صفد.. وإجزم واللد وسحماتا تحت حراب المحتل فقط.. ولا ليتذكر علقم الخذلان العربي في جيشه "المنقذ"، بل أيضا كيف انفلت من طوق الإبادة والمحرقة.
من اليرموك مجازا انطلقت تسميته "عاصمة الشتات"، وفيه ترقد جثامين الشهداء "وقود الثورة" من أبو جهاد الوزير الى زيتونة فلسطين "أبو سلمى" إلى وائل زعيتر مرورا بطلعت يعقوب وفتحي الشقاقي والآلاف ممن رووا بدمهم درب الآلام الفلسطيني، شواهد القبور حطمتها قذائف الهاون والدبابات، والطائرات بعثرت عظام الشهداء في منفى المقبرة البعيد من ذلك اليوم الكئيب، وخطف معه شعارات التغني باللحمة الوطنية والحرية والعدالة وحق العودة، واستعاد اللاجئ في نكبته المتواصلة معاني الخذلان الحقيقي التي طُرق عقله بها ومسلسل نكباته في منفاه ومخيمه تلاحقه من مثقف بائس يجتهد صباح مساء ليمنح البراءة من الدم المسفوح ومن سياسي يتناسى معاني تدمير المخيم وأثقاله الأخلاقية ليقدم برودة فصائلية وسلطوية ضاقت ذرعا بطموحاته " النارية" مقدماً على مذبح الواقعية النائية بأخلاقه المعاني الحقيقية للنكبة فهي ليست بوجود كيان غاصب للأرض فقط، بل وجود هكذا نخب سياسية وثقافية عربية وفلسطينية كتبت في سجل النكبة الفلسطينية فصلا جديدا لن يغيب عن ذاكرة الشعب الفلسطيني وهو سلاحه الذي لن تستطيع كل هراءات العصر الحديث أن تحجبها حتى لو ارتدت كل معاطف الوطنيات الباهظة التصريح، والبكائيات واللطميات، على أطلال النكبة لأنه يصدح في صدورنا نسائم هواء أفسدته كل نصوص الوفاء المدعية والمشتهاة لما يسمى "حق العودة" ومقاومة "أثار النكبة".