أحدث الأخبار
الجمعة 03 أيار/مايو 2024
هل تبرز إيران الصديقة؟!

بقلم : د.خالد الحروب ... 17.06.2013

ربما من المشروع أن نتفاءل، ولو بحذر، إزاء الفوز الكبير الذي حققه روحاني في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، آملين تغيراً جذرياً في سياسة إيران الخارجية في المنطقة العربية، وانتقالها من الصراع وفرض الهيمنة الأيديولوجية والنفوذ إلى التعاون والمصالح المشتركة. يتأسس هذا التفاؤل على مؤشرات أهمها، أن المزاج العام في إيران لفظ النجادية وكل ما هو قريب لها أو يريد وراثتها. نجاد قاد إيران إلى كوارث لا تحصى داخلياً وخارجياً، وحول ذلك البلد النفطي الغني إلى بلد يُدار اقتصاده ومعاش ناسه عبر بطاقات المحاصصة التموينية، وخلق له أعداءً في كل مكان. ويمكن القول إن الجماهير التي خرجت احتفالاً بنتيجة الانتخابات عبرت عن فرحتها بانقضاء النجادية أكثر من فرحتها بفوز روحاني الذي يعتبر من أعمدة النظام ومن قلب المؤسسة الحاكمة، ويمتاز باعتداله وتوازنه وثقافته العميقة ولغاته المتعددة. ونتيجة الانتخابات هي بمعنى من المعاني «ربيع إيراني» من النوع السلمي عكَس ضيق الشعب الإيراني وخاصة شرائحه الشبابية بالتعصب والتطرف وسيطرة رجال الدين على السياسة والفضاء العام، والعداوات التي جلبوها لإيران من كل جهة. و«النجادية» كانت مهجوسة بالأيديولوجيا ومقودة بأحلام وخيالات الرئيس وتوهماته بأنه القائد القادم لجيش المهدي المنتظر، وأن الصفات التي توردها الكتب القديمة تنطبق عليه. وعندما يتسلم زمام الحكم في أي بلد شخص تكون لديه قناعات يقينية بتواصله مع الغيب وتمثيله للخلاص النهائي للبشرية، فإن النتيجة كارثية ومدمرة، وهناك قائمة لا أول لها ولا آخر من «حكام الغيب» الذين طحنوا الناس حتى يتحقق الغيب الذي في رؤوسهم.
وخلال الحقبة النجادية تناول محللون وكتاب كثر، منهم كاتب هذه السطور، أثر ذلك النهج على العلاقات الإيرانية- العربية وامحاء أي أسس للتعاون والتوتر الذي بثه نجاد في الجوار العربي. وربما من المفيد الآن مراجعة بعض الأفكار الأساسية التي قاربت «النجادية» والتي من المُؤمل أن يتم استبدالها في الحقبة القادمة. من ناحية أولية من المهم تكرار مسألة بديهية ولكنها تأسيسية في مقاربة إيران للعرب، ومقاربة العرب لإيران، وهي أن «الجوار» العربي- الإيراني هو حقيقة تاريخية وجغرافية صلدة من المستحيل تغييرها، ومن المستحيل التهرب منها. ولذلك فليس ثمة إلا واحد من مسلكين في صوغ العلاقة بين الطرفين: التعاون أو العداء. وإزاء الخيار بين المسلكين من البديهي القول إن مسلك العداء يعني إطباق حالة التوتر والشك والحقد والتآمر وربما الحرب أيضاً على الجوار، وبالتالي الخسارة التامة والدائمة للطرفين. ولكن مسلك التعاون المرغوب والمنطقي ليس سالكاً حقاً، والوقائع على الأرض تحبط كثيراً من التمنيات والرغبات، وهذا ما يحتاج إلى النقاش والتفكير واجتراح الصيغ المختلفة. وقد عملت «النجادية» خلال السنوات العجاف الثماني على تذريّة وتدمير أي أسس أولية للشراكة الإقليمية، وأصبح التفكير بتحقيق صيغة تعاونية حقيقية ومعقولة بين إيران والعرب أمراً أقرب إلى النكتة السمجة. حدث وأن صيغت بطبيعة الحال حوارات أو تفاهمات دبلوماسية اسمية وتظاهرية، ولكن من ناحية جوهرية كانت هناك افتراقات حادة وكبيرة. فعملياً كانت هناك ندرة حقيقية للأرضيات المشتركة، ووفرة في الشكوك المتبادلة، وهو تقرير واقع كان مشاهداً من قبل الجميع.
ولكن الآن في حقبة «ما بعد النجادية» من المفيد التأمل في احتمالات تطور صيغ إقليمية عربية- إيرانية، والتوقف تحديداً عند مسألتي استمرار أو كبح السياسة التوسعية، والحمولة الأيديولوجية للمشروع الإيراني، الذي سعّرته «النجادية» وأوصلته إلى مراحل خطيرة وطائفية. في السنوات الماضية إيران كانت، ولا تزال، ترى نفسها ومستقبلها كقوة عظمى، إن لم تكن عالمية فأقله إقليمية، وهي تريد من الآخرين القبول بهذا الطموح. وفي الجوار العربي يتجسد هذا الطموح على شكل سياسات متنوعة، بعضها احتلالي كما هو الحال في مواصلة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، وبعضها استراتيجي وسياسي وأمني كما هو الحال في النفوذ الإيراني في العراق والانخراط الكلي في سوريا عبر دعم نظام الأسد، وبعضها توسعي استراتيجي في النفوذ، كما هو الحال في دعم «حزب الله» و«حماس»، وبعضها ديني عقائدي كما هو الحال في محاولة التأثير في الشيعة العرب في المنطقة وتحويل ولائهم. وكل هذه التعبيرات والتطلع نحو الخارج هو تمظهر لاندفاعات أيديولوجية تقلق الجوار العربي الرسمي، الذي يتضاعف قلقه بسبب مستويات من التلقي الشعبي أو على الأقل عدم الرفض الشعبي الجماعي أحياناً للاندفاعات الأيديولوجية الإيرانية. ونعرف أن ذلك التقبل الشعبي قائم في معظمه على خلفية فشل العرب أنفسهم وأنظمتهم في التعبير عن مصالح شعوبهم والدفاع عنها بما يدفع تلك الشعوب للتطلع نحو أطراف خارجية تمتلك إرادة اتخاذ مواقف قوية ضد التدخلات الخارجية وضد الغطرسة الإسرائيلية تحديداً، وهنا تبرز إيران وتركيا كدولتين جاذبتين وذواتا مواقف مستقلة، مقارنة بمواقف بعض الدول العربية.
وفي هذا الجانب، التوسعي والاحتلالي، تحتاج إيران روحاني إلى سياسة واستراتيجية جديدة تنطلق من اعتبار المنطقة والجوار العربي نطاق تعاون ومصالح مشتركة وليس نطاق صراع على النفوذ وتوسع دائم. ويتطلب إنهاء احتلال الجزر الإماراتية الثلاث عبر الطرق السلمية، ويتطلب التخلي عن دعم النظام الباطش في دمشق وعدم الانخراط في حرب خاسرة ضد الشعب السوري، كما يتطلب أيضاً تحرير العراق من السيطرة الإيرانية التامة وبناء علاقات متوازنة معه.
والجانب الآخر متعلق باندفاعات إيران الأيديولوجية وهو ما كانت المنطقة قد شاهدته وعانت منه خلال الحقبة النجادية، ولكنه لا يتوقف عندها. والمطلوب هنا اجتراح نهج وسياسة جوهرها التوقف عن تفكير تصدير الثورة بأصله القديم أو أشكاله المتجددة هي نفسها مكبوحة ومقيدة، بما في ذلك نشر التشيع، أو الزعم بالنطق باسمهم في المنطقة والدفاع عن مظالمهم. كلما دافعت إيران عن أي شيعة في أي بلد عربي فإنها كانت تضعفهم وتضعف مطالبهم العادلة في معظم الأحيان، وهي مطالب المواطنة التامة والدستورية. ومعنى ذلك أن قيام علاقات وصيغ تعاون إقليمي وروابط جوار عربية- إيرانية، وبعيداً عن التفكير الرغبوي، كانت تفتقد إلى الشروط الأساسية البنيوية، وربما تدخل الآن مرحلة مختلفة من العقلانية والبراجماتية. وفي نفس الوقت من المهم القول إن ما هو مطلوب من الدول العربية إزاء تسطير علاقة تعاونية مع إيران لا يقل عما هو مطلوب من إيران في ذلك الصدد، وهو موضوع مستقل بحد ذاته، ولكن يتوجب التأكيد هنا على أن المسؤولية مشتركة وأن الدول العربية لم تمتلك استراتيجية احتواء معقولة إزاء إيران، وأن التطرف النجادي والتطرف السلفي التكفيري يتسابقان في جرنا إلى الهاوية، وما لم يتدخل العقلاء في الجانبين ويكبح كل منهما متطرفيه، فإن التقدم الوحيد الذي ننجزه في هذه المنطقة هو تقدم إلى تلك الهاوية!