أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
نظرات غامضه !

بقلم : نداء يوسف أبونوفل [المسالمة] ... 28.12.08

[ أهدي هذه القصة البسيطة إلى بطلي القصة، رنيم وسامر، مع كل أمنياتي لهما بلقاء قريب ]
قصص حب وعشق كثيرة كانت تطالعها رنيم بلهفة وشوق، لكن كل هذه القصص لم تتعد في قناعات رنيم وأفكارها حدود الحبر على الورق، ولم تكن لهذه القصص مكانة التطبيق في حياة تلك الفتاة، فهي لا تهتم لغير قراءتها، أو صياغتها على صفحات دفاترها، ترى... ما هي رنيم؟ أهي حائط لا يمكن هدمه كذاك السد الذي شيده ذو القرنين؟ أم أنها كرة لفاح لذيذ من تذوق سكرها أصابه الجنون؟ شخصية غريبة، لم يدرك أحد سبب استغبائها لمن يقع في مصائد الحب. سؤال كان يطرحه كل من حاول التقرب من هذه الفتاة، هل سيتمكن أحد من دحرجة قلب رنيم، أو يتمكن من إيقاعها في حبه، ومن سيكون هذا الذي سيفعل، لابد أن من سيخترق هذا الجدار رجل ليس له مثيل بين بني جيله، فهل ولد هذا البشري، أم أنه لم يولد بعد؟
في الجانب الآخر، كان هناك شابا رائعا يدعى سامر، كان سامر شابا ذكيا مميزا، ترمقه عيون الفتيات حيث ذهب، لكنه كان توا قد خرج من قصة عشق مأساوية، فلم يلتفت لتلك النظرات المعجبة، فقد كانت حبيبته تتلاعب به طوال الوقت، فصنعت له من الحب خيوط هواء، وعلقته بها في أبعد سماء، ومع أول كانز أموال ذهبت، تاركة إياه يتخبط في أبحر حزنه الشديد، فتأكله نيران الحرمان وخيبة الأمل في من أحب.
حرم جامعة بوليتكنك فلسطين، ضم قصصا كثيرة، منها قصة المأساة، وفيها قصة الفرح، قصة اليتم والسجن والاحتلال فيها تأججت، وقصة المشكلات تراقصت هنا وهناك، قصص الشباب في هذا الحرم الجامعي كانت تتنوع وتتشكل، فتتمحور لتصنع أرض هؤلاء الشباب وبلدهم الذي يعشقون، نعم... كانت تلك القصص تجتمع معا لتشكل صفحة فلسطين.
سامر و رنيم ... قصتان عجيبتان من قصص الجامعة تلك، ذانك الصرح العلمي الجليل، قصتان تفترقان في بدايتهما، وتجمعهما ذات النهاية، سامر... الشاب الهادئ الطيب المعاملة، حسن السيرة، جميل الهيئة، بهي الإطلالة، المتفوق في دراسته، الماضي في طريقه، ورنيم... الفتاة الصارمة، والتي تتصرف مع الشباب الذكور وكأنها أحدهم، الودودة مع من يحترمها ويقدرها، ولا يتعدى الخطوط الحمراء التي رسمتها حولها، تلك الفتاة التي لم تملك من الجمال غير أقل درجاته، لكن حبها للجميع وطيبة قلبها حصدا لها ثروة هائلة من الناس، وصنعا لها شعبية لا مثيل لها، رغما عن كل الشكس والتحديات والشجارات المتتالية لمن كانوا يزعجونها، ويعترضون طريقها فترة دراستها الجامعية.
كانت رنيم تظن أنها بطباعها الرجولية تنفر الشباب من كونها فتاة، فلا يحاول أحدهم التفكير فيها على هذا النحو، ولا يعترض طريقها أحد، أو يقع في غرامها، هذا الاعتقاد هو ما قدم لرنيم كامل الحرية في التعامل مع الجنس الآخر، وعدم الاهتمام بما قد يتفوه به ذوو العقول الصغيرة. وبهذا... امتدت علاقات رنيم وترعرعت مع من حولها من الزملاء، فكانت تعتبر هؤلاء أخوة لها، وكان أولئك بدورهم يبادلونها عين المشاعر، فيستشيرونها في كثير من أمورهم الشخصية، وكانت هي تساعدهم في حل مشكلاتهم كما كانت تفعل مع إخوتها في المنزل تماما.
لم تكن طباع الذكور وتنوع أفكارهم يمنعهم من التفكير في خبايا رنيم الفتاة، فكان بعضهم يحاول الوصول إلى الفتاة المتخفية خلف قناع الفتاة الرجل ذاك، إلا أن رنيم كانت قادرة على تمييز هذا النوع من الناس، فلم تكن تتقبل مؤاخاتهم، و إن كانت على علاقة مع أحدهم، فإنها كانت تضع لهذا حدا فتوقفه عنده، مهما كانت قوة صلتها به، وإذا ما تمادى أحد هؤلاء أو استفحل به الأمر، فإنها تقطع علاقتها به بشكل نهائي، ولا تسمح لوجود أي صلة جديدة بينها وبينه.
لم تسلم رنيم حتى من صديقاتها، تلك الصديقات اللاتي أخذن بمضايقة رنيم ومحاولة الإنقاص من شأنها، وقضم نواياها الحسنة بأسنان حادة، فهذه تلتهمها مشاعر الغيرة فتصف رنيم بأم الشباب، وتلك تروج الإشاعات وتحبك القصص وتبثها عبر المسامع والأفواه، أما الأخرى، فتنعتها بالبلهاء الغبية، كونها لا تجمع في حصالتها أكبر عدد من المعجبين والعشاق، هؤلاء الذين تصفهم رنيم وبكل جنون بالأخوة وهم ليسوا كذلك، أما صديقتها المتحاذقة المتابعة للتطور والحضارة، فتصف رنيم بالمتخلفة لأنها لا تهتم لأمر الحب، والتوغل في علاقات العشق مع الشباب، واقتناص الفرص للإيقاع بهم، أما صديقتها التالية، فتكرهها بشدة، ذاك أن رنيم تعرف زميلا تحاول الصديقة جذب انتباهه.
ما هذا الغباء الذي كان يعانق صديقات رنيم، أو بالأصح من اعتقدت أنهن صديقاتها، وما دخلهن في كون رنيم لا تؤمن بقصص العشق والهوى، وما علاقتهن بوصفها هذه القصص بقصص التخلف الحضاري، والذي يودي بمن يلحقه إلى الهاوية، ما بال صديقاتها يأكلن كل شاب يتراءى لناظرهن، وما بال بعضهن يقع في حب أي شاب، دون التمعن في أخلاقه ومزاياه، وبغض النظر عن مساوئه وحقيقة أمره.
في المقابل، كان سامر المسكين يتوجع بشدة من حبه القديم، ويتأوه من ألم فرقة محبوبته، ظنا منه أنها تزوجت جبرا، وأن والديها ضغطا عليها لقبول زوجها الثري، ولم يكن بحسبانه أنه كان ساعة من يومها، ولم يكن يدر أنه واحد من كثر كانت تتلاعب هذه الفتاة بهم جميعا، فتتسلى على آهات جروحهم وآلامهم، وعندما سنحت لها فرصة الثراء وتملك الأموال الطائلة، تركتهم جميعا بتلك الأكذوبة التي حاكتها لهم مع سطور من دموع التماسيح التي ذرفتها أمام ضحاياها، بعد أن التهمت قلوبهم المملوءة بالحب لها، فامتصت ما تمكنت منه من جروحهم وآلامهم.
حبيبة سامر هي إحدى صديقات رنيم، لكن موقفها من سامر لم يكن يعجب رنيم البتة، فقد كانت تعلم جيدا ما كان قد حل بهذا المسكين، لكنها في نفس الوقت على قناعة بأن سامر سينسى صديقتها بمجرد أن تصير تحت ظل رجل آخر، فلا وجود للحب بين أي شاب وفتاة غير متزوجين، وأنه حالما تتزوج صديقتها، فإنه سيبدأ رحلة بحث جديدة عن فتاة أخرى يتسلى بها، ومع ذلك كانت حزينة لما كانت ترى عليه سامر.
سامر كان الفتى المحظوظ من بين جميع شباب الكلية، فقد كانت العيون تقتنصه أينما ذهب، فأعجب كثيرا من فتيات المكان الذي يتلقى فيه درسه، ومن ضمن من أعجبهن سامر، صديقات رنيم، لكنه لم يعن أمر هذا الشاب آنذاك لرنيم شيئا، فهو في نظرها كغيره من الشباب، فلا يزيد عنهم ولا ينقص، حتى أن غيره تعرفت إليهم وحدثتهم، أما هو، فلم يحظ بمجرد كلامها معه، أما هذا الأسلوب الذي كانت تتصرف به رنيم، فقد جعل صديقاتها يورطنها في مشكلة عقيمة مع سامر، لقد استغللن ثقتها بهن ضدها، فملأن رأسها بالأفكار السوداء، ووشين بسامر، فأخبرنها أنه سبها وشتمها وألحق بها الأذى أمام كثر، وكان هدفه من ذلك تشويه سمعتها وإهانة كرامتها.
صدقت رنيم أكاذيب صديقاتها، فهي لم تعرف قط مدى الشرور التي حكمن وثاقها بها، ولم تدر كم من الضغائن خبأن لها، فكان لابد من ردع سامر على تصرفاته المشينة، وهكذا حدث، فقد ألحقت رنيم بسامر أشد الأذى، وعرضته للكثير من الإساءات، فكان هدفها من ذلك رد الكف بكفين، ولهذا عزمت إلى تحقيره وتصغير مكانته بين صحبه، وإظهار سوءه في المجتمع الذي يعيش فيه، أما سامر ذاك، فلم يعرف سببا لما تقوم به رنيم.
اكتشفت رنيم بعد أعوام قليلة حقيقة صديقاتها، وعرفت كم من الشباك والأشراك اللائي شركنها بها، لتقع بعد ذلك في مشاكل جمة، وحينذاك... توقفت رنيم عن مضايقة سامر وأذيته، ذاك الذي كان ضحية مثلها تماما لمؤامرات صديقاتها. فرح سامر كثيرا عندما عرف بالعفو الذي صدر بحقه، لكنه ظل يفكر في سبب الكراهية التي كانت، فدفعه شغفه وفضوله إلى مراقبة رنيم، فثابر واجتهد على ذلك، كي يعرف ما تخفيه هذه الفتاة من الأسرار، وهل كانت فتاة قاسية كما يقال، أم أنها تخفي خلف قناع الجمود سر فتاة رائعة، يتهافت الشباب للوصول إليها والحصول عليها؛ في لحظ لا يجد فيه من يشد إليها الرحيل.
ذات يوم مشمس، جلست رنيم في زاوية ساحة الكلية، كانت تائهة في أبحر أفكارها، عائمة في موائع الخيال غير التقليدية، تبحث عن شيء ما، لكنها لا تدري كينونة ذاك الشيء، جالت بناظرها نواحي الساحة كلها، حتى وصلت أخيرا إلى الطرف الآخر، وعلى المقعد المستلقي تحت جذع شجرة النخيل، رأت سامر يداعب خصلات شعره اللامعة في وهج الشمس، كان ينظر إليها من البعيد، يختلس إليها النظر بين الفينة والفينة، وقد كان حينها يعتقد أنها لا تلحظ تلك النظرات الغريبة في عينيه، والتي لم تتمكن من معرفة معناها، ترى... لم كان سامر يرمق رنيم بتلك النظرات؟ إنها لا تظنها نظرات عاشق أو معجب، فهي تعرف مدى الجمود الذي صار عليه بعد فشل قصة حبه الأولى، وأنه صار يحمل قلبا حديديا منذ أن انتهكت حرمة حبه، وكانت على يقين بأنه لن تتمكن أية فتاة من الإيقاع به من جديد، إذا... لم هذه النظرات؟!
تكرر هذا الوضع مع رنيم كثيرا، فكانت في كثير من الأحيان، عندما تراه على مثل هذا الحال، تحاول اللعب بأعصابه، فكانت تقتنص فرصة اختلاسه النظر إليها، لتفاجئه بنظرة جريئة تصوبها باتجاهه، ليحاول هو بدوره التملص من عيني رنيم، مدعيا عدم اختلاسه النظر. عمدت رنيم إلى فعل ذلك كثيرا، فقد كان يروقها دائما استفزاز تلك النظرات الغريبة، لكن... جاء يوما غير مجرى حياة رنيم كليا، حيث كان سامر يجلس في عين المقعد تحت النخلة، كان يجلس واضعا يديه على ركبتيه وهو يحدق في الأرض، أحست رنيم في هاك اللحظ أنه سافر إلى المالانهاية في رحلته الفكرية، ترى... فيم كان يفكر؟ أكان يفكر في رنيم؟ و إن كان كذلك، فما هو الشيء الذي كان يفكر فيه من جهتها بالضبط؟
أخذت تنظر إلى سامر وهي مملوءة الذات بالفضول الذي كان يستهويها عادة، وفجأة... رمقها سامر بتلك النظرة التي أيقنت أنها لن تنساها ما حييت، نظر إليها مباشرة، ويكأنه يود معرفة من أي نوع تكون، لم تعرف حينها معنى تلك النظرة أيضا، لكن حدسها كان يقول لها أنه يبحث عن شيء ما فيها، ولأول مرة منذ أن عرفت رنيم هذا الإنسان، ترى لون عينيه، ويا لها من عيون تلك التي حملت اللون العسلي، هذا اللون الذي أذاب رنيم فيه لهول صفائه، قد يكون لون العيون شيء أثار إعجابها ودهشتها وقتذاك، فهي تحب هذا اللون بالتحديد، لكن الذي شدها أكثر من لون العيون، ذاك الغموض الرائع الذي اكتنزته تلك العيون، ويا له من غموض رهيب.
كان من عادة رنيم التعرف إلى شخصية محدثها من لون عيونه، أو الأسلوب الذي ينظر فيه، لكن عيون سامر لم تكن كغيرها من العيون، فقد كانت عميقة الغور، ثاقبة لما قد تقع نظراتها عليه، لذا... ودون وعي من رنيم، أبعدت ناظرها وبسرعة عن مسار تلك النظرة الاستفزازية، فهل تراها كانت خائفة من إدراكه كونها تنظر إليها؟ أم أنها كانت تخشى قراءته لأفكارها؟ لا تدري، لكن كل ما عرفته آنذاك، هو أنها نظرت إلى الاتجاه الآخر فور التقاء نظرها بنظره. يا للدهشة... رنيم التي لم تخش يوما نظرات العيون، والتي كانت تهزم دوما نظراتها، ها هي اليوم تهزم بنظرة من عيون سامر، وأي عيون تلك في سحرها الجنوني.
لم تكن رنيم قبل ذلك اليوم تهتم لأمر أي كان، فليس من طبعها التدخل في أمور الآخرين، لكن سامر جعلها تود معرفته، كان يقترب منها يوما بعد يوم، ولم تكن تلك حالة حب أو إعجاب، بل كانت شيئا آخر لم تعرف له رنيم سميا. كان سامر يحضر كل صباح إلى المبنى الذي تدرس فيه رنيم، ليشرب قهوته أمام عينيها، وكعادته... يحاول إخفاء كونه جاء ليلقي تحية الصباح عليها، وبعد أن ينتهي من فنجان القهوة، ويطفئ سيجارته التي كان دوخانها المتصاعد من بين شفتيه، يشعر رنيم بشيء من الغثيان، كان يمضي إلى حيث لا تكون رنيم، كان يودعها بتلك النظرة التي صارت رنيم تشتاق إليها كل ما غاب سامر عن ناظرها، كان يودعها دون كلام، فهل كان فاقدا لحاسة النطق، رنيم لا تظنه كذلك، فقد سمعت صوته الرنان مرارا وهو يتحدث إلى صحبه، إذا... لماذا لا يسألها عما يود معرفته؟ لا تدري رنيم حقا السبب، فقد يكون ذلك شيئا من الغرور الذي عهدته فيه.
كان يمضي إلى حيث لا تعرف، وبعد أن تنتهي ساعات الدوام، وتخرج رنيم من قاعة الدرس، بعد يوم دراسي شاق إلى الساحة، كانت تجد نظرات سامر تنتظرها هناك، فيا له من شخص غريب الأطوار، لم تتحدث إليه بتاتا، يأتي في الصباح، فيلقي بنظرته الصباحية، ويتركها حائرة في أمره، فيذهب إلى أي مكان، وعند المساء يعود ليلقي تحية المساء، طبعا تحية النظرات الغامضة، فيا له من شخص غريب.
كم ودت رنيم معرفة سر هذه النظرة التي تقطن حدقتي سامر، والتي تملؤها حيرة كلما رأته ينظر إليها، وذات يوم... جلست مع صديقتها في الساحة أمامه مباشرة، كان ينظر إليها بعين النظرة، يحدق فيها بذات الأسلوب، لكنه كان هذه المرة يجلس بين رفقته، وليس وحيدا، إنما لم يكن بينهم بفكره، فقد كان غائبا عنهم بمتابعة تحركات إلى رنيم، وكان لرنيم حينذاك صديق بهي الإطلالة، ابن ذوات، جميل الهيئة، يملك كثيرا من الميزات التي جعلت منه شابا شبه مثالي، تلاحقه الفتيات في كل مكان. كان ذاك الصديق قد خرج من توه من محاضرته، ولدى رؤية رنيم له، خطرت لها إحدى أفكارها الجهنمية، فنادته باسمه، فهو لها بمثابة أخ عزيز، فطلبت إليه تعليمها كيفية استخدام أحد برامج الحاسوب التي كان يتقنها، ويا للمفاجأة، فعلى حين غرة، نظرت رنيم من سامر ما لم يكن بالحسبان.
لقد كانت ردة فعل غير متوقعة من صاحب النظرات الغامضة، وأي ردة فعل تماثل ردة فعله قوة حين رأى رنيم تقف مع شاب وسيم. لقد وقف سامر في مكانه بسرعة، فأمسك بالكرسي الذي كان يجلس عليه، وألقاه إلى البعيد بكل ما كان يكمن في جسده من قوة، حتى أن ذاك الكرسي المسكين صار حطاما من قوة ارتطامه بالحائط الذي اصطدم به، ومن ثم... مر سامر عن رنيم وهو يقول لصحبه بأنه ما عاد له شيئا في المكان، وأنه لم يعد هناك أي لزوم لوجوده، فمن حضر ليراه لم يعد مهتما لأمره.
كان غاضبا جدا، فهل تراه كان غاضبا من فعل رنيم المتعمد، يا للمسكين، يبدو أن رنيم أخضعته لاختبار نفسي قاس، لكنه بدا لرنيم رائعا وهو على ذاك الحال، وقد كان أجمل ما يكون مع هذا الغضب وتلك القسوة، ورغم شدة الخوف الذي أحاط برنيم آنذاك، وهي تلك الفتاة التي لم تعرف الخوف قبلا، إلا أنها أعجبت بتلك الثورة، حيث مضى بعد ذلك من خلف السياج الطائف بساحة الكلية، مخلفا وراءه تلك اللكنة الجميلة التي لم تعتدها رنيم قبل ذاك اليوم، رنيم التي لم تعتد من سامر على غير الصمت، فكانت تكتفي منه بنظرة صباحية، أو بأخرى مسائية.
مرت الأيام تجر بعضها، وكل يوم كانت رنيم تكتشف جانبا جديدا من شخصية سامر، وما بين وقت وآخر تتعمد مضايقة مشاعر الغيرة ما بين أضلعه، فتتحداه بأصدقائه، حتى أنها ذات يوم أبدت له اهتماما بأحدهم، ومن شدة الغيرة التي تمكنت منه، ترك صف الدرس، فعاد إلى منزله قبل بدء الدوام، مر من أمامها وهو ينظر إليها بامتعاض، كانت تدير وجهها إلى الاتجاه الآخر حتى يعتقد أنها لا تراقبه، فما كان منه إلى أن أخذ يعض شفاهه حتى أدمتها شدة الغضب. كانت مواقف رنيم الاستفزازية لا تتوقف، وكانت كلما استفزته أكثر تكتشف شيئا جديدا فيه، لتزداد إعجابا بهذا الرجل المتبلور أمام ناظريها بنظراته الغامضة، فكل خصلة جديدة تكتشفها فيه، تكون أفضل من سابقتها، وهكذا عرفت رنيم مدى التوافق الفكري الذي كان بينها وبين سامر.
وجاء يوما لم تكن مألوفة هيئته لرنيم، يبدو أنه كان كذلك لسامر أيضا، حيث أن كليتهما حددت موعد حفل تخريج فوج جديد من طلبتها، فكان سامر من ضمن هؤلاء الخريجين، وجاء موعد الحفل. حضرت رنيم إلى دوامها كالمعتاد، لكنها كانت تشعر بشيء غريب يداهم مشاعرها، فصارت تبحث عن نظرات سامر في أرجاء الجامعة كلها، لكنها لم تجدها، استاءت كثيرا من غياب سامر، إلى أن رأته يقترب من البعيد، مرتديا زيه الرسمي للحفل، كان يبدو أروع بكثير مما كان عليه دوما، لكن رنيم كانت تفتقد شيئا ما فيه، ترى... أين تلك النظرة التي اعتادتها منه؟ وأين ما بحثت عنه طوال فترة الصباح؟ يا الهي! لقد كان سامر يخفي نظرته خلف تلك النظارة السوداء، لماذا؟ سؤال هز بدن رنيم لهوله، فهل تراه كان يعرف ما كانت رنيم تهم بفعله؟
جلس سامر على المقعد المقابل لرنيم وهو يخفي عينيه عنها، لقد فرقت زجاجات سوداء رقيقة بين رنيم وما تشتاق إليه، لقد كانت قد قررت الحديث إليه في هذا اليوم، لكنها في نفس الوقت في حرج من فعل ذلك، رغم كل ما كان يجول في ذهنها، وكل ما كانت تتوق لمعرفته من أسرار نظرات سامر الغامضة، كانت تردع نفسها وتقول لها: "ماذا سأقول له؟، وبأي صفة سأحدثه؟"، لقد كانت تحس أنه يريد منها فعل ذلك أيضا، فكل ما مر عليها منذ أن عرفته كان يشدها لفعل ذلك، فهي لن تراه بعد يوم الحفل.
جمعت رنيم ذيول مخاوفها واقتربت منه طالبة إليه التحدث إليها، ففعل، تحدثت إليه، ووجدت حجة تقنعه، كانت تلك هي الاعتذار عن كل الأذية التي ألحقتها به ذات يوم. كانت تشعر بالارتباك لمجرد أنها تتحدث إليه، لم تستطع النظر في عيني سامر، فهي على يقين أنه كان يرمقها من خلف الزجاجات السوداء، فهي ترى عيونه بأحاسيسها. حاول سامر التملص من محادثة رنيم رغم أنه كان يرغب في ذلك أكثر منها، فقد كان متوترا أكثر من أي تصور، لكنه تكلم معها بطريقة لامبال لحديثها، أما هي... فقد كانت تختبر ردات فعله وهي تحادثه، فعلمت أنه يصطنع اللامبالاة، وما أن انتهى حديثها إليه وفارقته بعد أن هنأته بالتخرج، حتى تركته خلفها وانطلقت إلى لقاء صديقتها التي كانت تنتظرها بالجوار، لكن شيئا ما دفع رنيم لأن تستدير بناظريها نحو سامر من جديد، وكأنها تود رؤيته لآخر مرة، حيث لم يلحظ سامر التفافها حول نفسها، فانطلق إلى رفاقه يعانقهم الواحد تلو الآخر، وهو يكاد يطير فرحا، مخبرا إياهم أنه تحدث إلى رنيم.
لم تتمكن رنيم آنذاك من مداراة فرحتها، فقد كان حديثها إليه هو ما أدخل كل هذه السعادة إلى قلبه، وحينها... نظرت رنيم إلى نفسها فنعتتها بالبلهاء، لو كانت تعرف أنها ستسعده إلى هذا الحد، لما توانت في الحديث إليه، و لكانت فعلت ذلك منذ زمن. كل ما كان برنيم وقتذاك، هو أنها لم تتمكن من السيطرة على سيل الدموع التي أخذت تشق طريق رحلتها عبر صفحة وجهها، لم تدر من أين أتت كل تلك الدموع، ولم تعرف أي نبع هذا الذي در تلك الأنهر والشلالات على وجنتيها.
لحظ سامر دموع رنيم المنهمرة بعد أن جلست إلى صديقتها في مكان بعيد، فتملكته مشاعر الحنق من نفسه، وصار يطوف في الساحة، فينتقل بين هنا وهناك حول رنيم، لابد أنه أراد مسح دمعة رنيم في ذاك الوقت، لكنه لم يتمكن من فعل ذلك، فهو يعلم جيدا قسوتها وردود فعلها أمام مثل هكذا فعل، كما أنه لا يحق له ذلك، فلا صلة تربطه بها غير نظراته الغامضة، فاكتفى بالتواجد قربها، عله يحرجها بوجوده ونظره إليها، فتوقف سيل الدمع هذا الذي ما عاد يحتمله.
مرت الساعات مثقلات بأحزان رنيم، فهي اليوم ستودع شيئا كانت قد اعتادته منذ وقت، شيء أعاد لها الثقة التي فقدتها بسبب صديقاتها ذات يوم، شيء أشعرها الأمان حين كانت تحس اقتراب الخطر، وها هي لحظة الفراق تطل بمعطفها الأسود، وسامر... صاحب النظرة الغامضة، يتقدم بخطى ثابتة إلى المنصة ليتسلم حصيلة خمسة أعوام من التعب الدراسي، ها هو يحصل على نتيجة تعبه، ليتقدم اسمه حرف الميم، نعم... لقد صار سامر مهندسا، فحقق في تلك اللحظة حلم السنين، حيث عاد أدراجه بعد ذلك إلى مقعده. وما أن انتهى الحفل، حتى انطلق كل خريج إلى من حضر معه ليشاركه الفرحة، إلا صاحب النظرات الغامضة، حيث لم يكن معه أحد يذهب إليه، ولم يكن هناك من يشاركه فرحته، فجلس على كرسي وسط ساحة الحفل بين جموع الخريجين، ينظر إلى هذا وذاك، يحدق في الأهالي بحزن شديد، ولم يكن معه غير نظرات رنيم، تلك النظرات التي لم يلحظها وسط زحام ألم وحدته وأحزانه.
رغبت رنيم كثيرا في الذهاب إليه والجلوس معه، ظنا منها إحساسه بفرحة وجود أحدهم إلى جانبه يشاركه فرحته، لكنها لم تقو على فعل ذلك، واكتفت بالنظر إليه من بعيد، فقد كانت خائفة من إظهار مشاعرها الحقيقية، تلك التي اعتادت إخفاءها خلف قناع القسوة، كي لا تظهر بصورة الفتاة الضعيفة، إنها فتاة لا تؤمن بالحب، فكيف ستذهب إليه وتظهر له الحب الذي لا تؤمن به، إنها لا تحبه، وهي معجبة بشخصيته لا أكثر، فلم تكترث لأمره؟ إنه لا يعني لها أكثر من نظرة غامضة تود معرفة سرها، هذا ما كانت رنيم تحاول إقناع نفسها به، عندما منعت نفسها من الذهاب إليه وسط فيض أساه.
بدأت النسائم تلفح محيا سامر المبتسم الحزين، وغاب تحت رداء تخرجه الذي خاطته له أوراق الخريف المتساقطة، قدم سامر لرنيم الحياة الجميلة كحبات الحلوى اللذيذة في العيد بعد صيام طويل عن الفرحة، أعطاها السر الغامض لنظراته الرائعة دون أن يعلمها به، وقال أنا راحل، فالوداع. لملمت رنيم ذاتها المتناثرة هنا وهناك، وعادت أدراجها إلى حياتها القديمة، دون أن تعرف معنى نظرات سامر الغامضة، ها هي من جديد تبحر في محيط الحياة، تاركة النظرة الغريبة محفورة في صفحات أقصوصة الذكريات الحزينة الجميلة.
حاول سامر جاهدا البقاء قريبا من رنيم، لكن كل الظروف كانت تدفعه للسفر، وهذا ما حدث، فقد انتقل سامر للعيش مع أهله في بلدهم الذي كانوا يقطنون خارج فلسطين، وبعد عام سافر إلى أحد البلدان العربية، حيث كان قد حصل هناك على فرصة عمل جيدة، كان سامر يطمح لتحقيق ذاته، وكانت فرصة العمل تلك هي الفرصة الذهبية بالنسبة له.
في حين كان سامر ينتقل من بلد إلى بلد، صارت مشاعر الحنين والاشتياق تشق طريقها إلى فؤاد رنيم، فصارت تفكر في سامر طوال الوقت، وكم كانت تحن للقائه من جديد، فصارت تجهد نفسها في محاولات فاشلة لنسيانه، وأضحت تشغل نفسها بأي شيء قد ينسيها حبها المسافر، حتى أنها كانت تحاول أن توقع نفسها في حب آخر، لكنها لم تتمكن من ذلك، فسامر هو من أحبته، بنظراته الغامضة الرائعة. كانت تحاول نسيانه، فهي تعلم جيدا أنه لا أمل في رجوعه يوما، فقد سافر ولن يعود، يا له من أمر... رنيم تقع أخيرا في شرك الحب، أوصل من هدم حائط المعدن المتنقل، فيا لك من شاب فذ يا سامر، أنت من جعل رنيم

[ فلسطين – الخليل – دورا – ]