أحدث الأخبار
السبت 18 أيار/مايو 2024
"كتيطخ ايباحر" !

بقلم : ميسون اسدي ... 4.11.07

مرحبا اسمي رحاب وأنا الآن ميتة.. لا تستغربوا، فأنا حقا ميتة وما ستقرأونه بعد ذلك هو ما أوحيته لهذه الكاتبة، التي قرأت لها مؤخرا قصة أعجبتني، فاخترتها لتكون الوسيطة بيني وبينكم، لتروي لكم تفاصيل قصتي.
جئت إليها بالحلم ورويت لها جميع التفاصيل بدقة وما هذه المقدمة، إلا لأؤكد لكم بأن القصة حقيقية مائة بالمائة، وقد تحاورت كثيرا مع الكاتبة لأنها نفسها لم تصدقني إلى أن اتفقنا بالنهاية بان تكتب كل ما أقوله دون تحريف حتى لو كانت غير مصدقة وأنا أقوم بدوري بكتابة هذه المقدمة".
المرحومة رحاب..
- أكتبي أيتها الكاتبة.. أنا رحاب ابنة 24 عاما.. أقصد كان عمري 24، عندما توفيت قبل 20 عام وثلاثة أشهر ويومين وساعة.. حصل ذلك في ليلة شتاء قارص، كان دخان مواقد الخشب يتصاعد من فوهات مداخن البيوت ليعبق الجو برائحته، لبد الناس في بيوتهم، وخلت الطرقات منهم، كان من الصعب التنقل بين البيوت بسبب الثلوج المتراكمة.. وكان الدخول والخروج قد انقطع عن القرية عدة أيام لأن الثلج غطى مداخلها الرئيسية.
شعرت بالوحدة وأنا أتناول طعام العشاء مع طفليّ وتمنيت أن يكون زوجي لجانبي خلال هذه العاصفة البردية، فهو يعمل في البناء مع مجموعة عمال من القرية، ويسافر إلى عمله ويعود إلى البيت مرة كل أسبوعين، وهو على هذا المنوال منذ عامين.. لم أوافق في البداية على عمله هذا، لكنه أصر على ذلك وكان يقول لي: "أنت أجمل امرأة عرفتها وتستحقين العيش كملكة"، كان يناديني ب"الفرس الأصيلة" ويقول: "أحب أن أرى جسدك الفارع، وأحب خصلات شعرك الذهبية التي تندمج مع قميص نومك الليلكي وأحب كل ما فيك أيتها الزوجة الجميلة.. وهناك في المناطق البعيدة يدفعون أجرة عالية وستتوفر لنا حياة رغيدة".. وافقته مرغمة..
تزوّجني، فأصبح هدفا للحاسدين، فالصبايا الشقراوات، بيض اللون الفارعات كنّ قلة بين نساء قريتنا.. عذرا إذا مدحت نفسي لكن هذا ما ردّده الرجال والنساء من حولي: "رحاب الجميلة، رحاب صاحبة العنق الطويل"، وكما كان يردد حماي بأنني "امرأة تحل عن المشنقة!"، يقول ذلك على الملأ وهو ضاحك، الأمر الذي كان يخجلني ويسعدني في الوقت ذاته...
- عذرا لم تخبريني من أين أنت؟
- هذا لا يهم.. اعتبريني من أي بلدة أو أي قرية من قراكم الفلسطينية، فقصتي تتكرر دائما وبأشكال عديدة.. ولا تقاطعيني أيتها الكاتبة..
- حسنا استمري..
... في تلك الليلة، قضيت سهرة ممتعة عند أهل زوجي وعدت إلى بيتي المجاور لبيتهم، حيث تفصل بيننا عدة أشجار جوز كبيرة.. دخلت بيتي بسرعة وأنا أضم طفليّ.. وبعدها - كالعادة- رويت لهما قبل أن يناما قصة "الشاطر حسن"، ولم تكتمل القصة إلا وكانا يغطان في سبات شتائي عميق.. وضعت الفراش على السجادة بجانب سريري لينام عليها طفلاي.. ويبدو أنهما ورثا عني النوم الثقيل، فأنا كما يقولون: "لو ضرب مدفع" بقربي فلن أستيقظ..
أثناء نومي، حلمت بان زوجي عاد ودخل إلى فراشي متسللا وبدأ يقبلني ويداعبني، شعرت بلذة تسري في جسدي وبدأت أصحو تدريجيا من نومي.. أردت أن أكمل حلمي بمتعته حتى نهايته، لكن فجأة بدأت أحس بأن ثقلاً ما يجثم على جسدي وكأن الحلم تحول إلى حقيقة مما نبه حواسي، ففتحت عينيّ المثقلتين بالنعاس بخوف شديد، وشاهدت بالفعل رجلا من فوقي وهو ليس بزوجي.. كنت ما أزال اخلط بين الحلم والحقيقة، عندما قام هذا الرجل بإغلاق فمي بكفه ولما حاولت تحريك رأسي تأكدت أنني لست في حلم وان هناك رجلا حقيقيًا.. همس في أذني: "سأقتلك إن نطقت بحرف واحد".. وكانت المفاجأة الكبرى أن الرجل هو والد زوجي (حماي).
انتفضت بسرعة واستطعت بحركة واحدة قوية قلبَه ليكون هو من تحتي، ركبه هاجس الاستيلاء على جسدي، استجمع قواه ثانية وحاول الاعتداء علي واغتصابي.. فجأة تملكتني قوة غريبة وخارقة، وبدأنا عراكا مستميتا، ليجن ويستفحل ويعاركني في الفراش كما يقاتل الرجل ندّه الرجل، تحولت المعركة من محاولة اغتصاب إلى قتال عنيف. لم يأبه للمرأة التي أمامه، زوجة ابنه ووالدة حفيديه اللذين ينامان على الأرض بجانب السرير.
استطعت أن ألقيه عدة مرات من على السرير وكان يقوم من جديد لأركله برجليّ الاثنتين وبكل قوتي.. بقيت على السرير، وهو يهاجمني من الأسفل، حاولت جاهدة أن تكون المعركة بعيدا عن أطفالي...
- لحظة من فضلِك لماذا لم تصرخي طلبا للنجدة؟
- لم أتوقع منك أيتها الكاتبة هذا السؤال الساذج.. كنت استطيع أن اصرخ بملأ فمي ولمّ الجيران، وإنقاذ نفسي، ولكني خفت من الفضيحة فهو والد زوجي والفضيحة ستطال كل العائلة.
- آسفة.. تابعي حكايتك!
... قاومته بشدة وكان عاريا في نصفه السفلي، مما أثار بي الاشمئزاز من هذا الشخص صاحب الهيئة المهيبة والتي تبعث على الاحترام، وكأن تجرده من سرواله، جعله مجردًا من ذرّة احترام.. تحولتُ إلى قطة مستشرسة بالدفاع عن حياتي واولادي.. هجمت عليه وأوقعته أرضا، فربضتُ فوق صدره وأنا أحاول خنقَه، قلت له: سأقتلك وستكون عبرة لكل الأنذال.. قم وارتد سروالك وانصرف من هنا.. لا أريد الفضيحة لزوجي ولا للعائلة.. أنت لا تخاف الله ولا تخشى أحدًا.. هذه المرة سأدعْكَ تفلت من يدي.. وإذا أعدتها سوف يكون انتقامي كبيرا.
أومأ لي برأسه علامة على أنه موافق، فقمت من فوقه.. نهض واخذ يرتدي سرواله، وما أن التفتُّ لأطمئن على أطفالي، وإذا به يهجم عليّ وفي يده سكين.. تراجعت قليلا ووقعت على السرير، انقض علي وضغط بساعده على عنقي بكل قواه.. شعرت باختناق ووهن غريب يعترى جسدي، خارت قواي وبدأت عيوني تذبل، فأدركت أنني اختنق.. هنا أردت الصراخ مستنجدة فلم يخرج صوتي.. انه يقتلني لا محالة.. مرّت بلمح البصر في مخيلتي محطات حياتي، عزّت علي مفارقة أولادي وزوجي وأبي وأمي وعائلتي، شاهدتهم جميعا وكأنهم حضروا لتوديعي.. بدأت أستقبل الموت بحزن وغضب شديدين.. كان يجب أن اقتله قبل أن يغدر بي، وأقسمت بأنه سيدفع الثمن غاليا إن بقيت حيّة، وتمتمت: سوف تندم.
تدحرجت دموعي على خديّ وشعرت بأن روحي تفارق جسدي تدريجيا، وفجأة استل سكينه وقام بنحري.. فارتعش جسدي رعشات خفيفة، وسالت الدماء من الطرف الأيسر لسريري مباشرة إلى فرشة ولديّ.
- لماذا قام بنحرك، ألم يكتف بخنقك؟
- لقد أهنته وهزمته شر هزيمة.. ففقد عقلَه وجن..
- من أين أحضر السكين؟
- لا أدري.. يبدو أنها كانت في سرواله منذ البداية، ليهددني بها إذا استيقظت حتى ينال مأربه.. لكن الأمور سارت على نحو آخر..
- ماذا حدث بعد ذلك؟
- جلس هادئا قرب السرير وأشعل سيجارة وفجأة خرج مسرعا.. ا(أ)قفل بابي بالمفتاح وأخذه معه.
- كيف تعلمين بما حدث بعد وفاتك؟
- أين خيالك أيتها الكاتبة؟!
- لا أعرف..!
- قررت أن لا تهدأ روحي وأراقب كل ما يحصل حتى أنتقم منه.
- وهل انتقمت؟
- إنتظري لم تنتهِ القصة بعد..
- هيا تابعي..
... في الصباح الباكر استيقظ ولداي وشاهداني غارقة في دمي، حاولا إيقاظي وعندما يئِسا أخذا يبكيان، فسمعتْ حماتي بكاءهما وجاءت لترى ماذا حل بهما. قرعتْ الباب فازداد صراخ ولديّ وهي تنادي: رحاب يا رحاب.. إفتحي الباب. وعندما لم يستجب لها أحد، تأكدت أن الطفلين لوحدهما في الغرفة، وأنا لست في الداخل وربما ساورها الشك بان مكروهًا أصابني، فصرختْ ونادتْ زوجها وأولادها لفتح الباب بالقوة، أثناء ذلك تجمع بعض الجيران وفي النهاية استطاعوا الدخول وشاهدوني مضرّجة بدمي.
أخذت الشرطة تحقق مع جميع رجال العائلة والجيران وكل من كان على اتصال بي في الشهر الأخير وبضمنهم زوجي، وقام شقيقُ زوجي الصغير ابن 16 عاما بالاعتراف بأنه القاتل، مثبتا ذلك بتسليمه أداة القتل وادعى بأنني كنت على علاقة حميمة معه وبأنه قتلني بعد أن أردت إنهاء العلاقة فيما بيننا، مما أدى إلى نشر الشائعات حولي!!
- كيف حصل ذلك؟
- عندما شعر حماي بأنه سيتورط قام هو وزوجته بإقناع ابنه بالدخول إلى السجن بدلا منه، كونه صغير السن والحكم عليه حسب القانون اخفّ كثيرا من الحكم على رجل بالغ. وتم إرسال الصغير إلى إصلاحية لتأهيله من جديد.
عرف الجميع أن حماي هو قاتلي، ولكن لم يتجرأ أحد على البوح بذلك، فهو شخص غني وصاحب نفوذ كبير وعلمت من أحاديثهم الخلفية حول الجريمة، بأن في عنقه عدة ضحايا.
- ألم تبدر عن حماك أفعال تنم عن رغبته بك؟
- سؤال جيد أيتها الكاتبة، لكن بصراحة لم أكن التفت إلى ذلك فهو كان في مقام والدي، وعندما راجعت نفسي رأيت أن هناك عشرات اللمسات والكلمات غير البريئة قد صدرت منه.. ولم أسمح لنفسي حينها ولو للحظات أن أفكر بأنه سيء النوايا.
- مسكينة يا رحاب، وجعّتِ قلبي..
- إنتظري تتمة القصة فربما تبدّلين رأيك..
- حسنا استمري..
... قررت أن أنتقم.. بدأت في ابنه البكر وكان شابًا وسيمًا جدا، كان كأبيه يفخر بجماله وشبابه وغناه، لم يترك امرأة إلا وتحرّش بها، متزوجة كانت أم عزباء، ومرّة حينما كان يحاول الاعتداء على شابة في إحدى البلدات المجاورة. أوعزتُ لخطيبها بأن يقبض عليه متلبسا.. وما كان من خطيبها إلا أن أطلق عليه النار وأرداه قتيلا.. كنت أحوم فوق جنازته، اقتربت من والده وهمست له: هذه هي البداية، أخذ يلتفت ويصرخ وهم يـعتقدون أن ما يفعله هو نتيجة حزنه على ابنه.
أما ابنه الثاني، فقد قام أصدقاء السوء بتوجيه مني بإقناعه ليتعاطى المخدرات وبدوره جرف شقيقه الأصغر. واستمريت في تخطيطي حتى قتل الأول بجرعة زائدة من المخدرات، والثاني تحول إلى شبه ميت، وهو الآن ملقى على الطرقات، ينتظر حتفه.. كانت حماتي التي غطت على جرائم زوجها وسكتت على الظلم هي التالية، أصيبت بعدة أمراض لتلقى حتفها قبل أوانها.. فتفرغت لأصغر أبنائه وأحبّهم على والده.. جئت لقاتلي في المنام وقلت له.. إنتظر وسترى مصير ولدك الأخير، هب فزعا أخذ يصرخ في الليل ينادي على ابنه وما هي إلا أيام، حتى أصيب ابنه بمرض عضال لم يمهله طويلا، وعندما أعلن عن وفاة الأخير أسمعته ضحكاتي عالية وقلت له: "جاء دورك الآن، فخطايا الولايا بتهدّ الزوايا".. وأصبح لا ينام الليل والنهار ويبحث عني في كل زاوية ، ولم يعرف احد ماذا أصابه، كنت أتلذذ في تعذيبه.. وكلما حلّت به مصيبة كان الجميع يردد بأسى وحزن: "كتيطخ ايباحر".
- لحظة، لحظة، لم افهم ما قلت، ما هذه الجملة؟
- آسفة، نسيت نفسي، إنها جملة بلغة الأرواح، فنحن معشر الأرواح لنا لغة مشتركة تجمع بين جميع الأجناس وقصدت القول: "خطيّتك يا رحاب"
- آه فهمت.
... تمهلت في الانتقام الأخير، كنت أريده أن يعيش بقلق وهو ينتظر الموت، لا يدري من أية زاوية سيأتيه. اعتكف في بيته ولم يبارحه، وفي مرة استدعاه أحد عماله، ليقوم بتصليح الشاحنة التي يعمل عليها في باحة داره- طبعا أنت تعرفين من قام بتعطيل الشاحنة- وعندما أصبح أسفل الشاحنة مستلقيا على ظهره يقوم بتصليحها تدحرجت الشاحنة عليه وطحنته، فاجتمع حوله نفس الجيران الذين شاهدوني وأنا قتيلة. كان يتضرّج بدمائه ويرتعش بقوة مثل الثور المذبوح. وتعالى الصراخ: أبو غالب مات، أبو غالب مات. أتعرفين ماذا قال قبل لفظه لأنفاسه الأخيرة؟ - ماذا؟
- لقد لفظ اسمي وطلب مني السماح.
- وطبعا أنت من دحرج الشاحنة؟
- ليس تماما أيتها الكاتبة، ما كان عليّ إلا إنزال كابح السيارة وتدحرجت لوحدها.. وهكذا انتهت قصتي التي أردت أن يعرفها الناس..
- وماذا يهمك إذا عرف الناس بها؟
- أردت أن يعرف الجميع أنني قاومت أن كل الإشاعات التي أطلقوها علي كانت كاذبة وبأن موتهم كان بسبب"خْطيّتي" فعلا..
- وماذا حصل مع زوجك؟
- زوجي الوحيد الذي بقي من ذرية قاتلي ليرعى أطفالي. والآن، شكرا لك على إصغائك وأتمنى أن نلتقي بعد زمن طويل.
* * *
كنت قد دوّنت كل ما شاهدته بالحلم على دفتر ملاحظاتي الذي أضعه بجانب وسادتي كالعادة، وفي الصباح استيقظت متحمسة لطباعة ما دوّنت. أعددت لنفسي غلاية قهوة وشغّلت الحاسوب وأشعلت سيجارة. تناولتُ دفتري وهنا كانت المفاجأة.. ما كان مدونًا على الأوراق لم يكن بخط يدي!!!
[حيفا]