أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
ليبراليون» على ناس وناس !

بقلم : د.فيصل القاسم  ... 28.10.07

لعل أكثر ما يثير الضحك والسخرية في الساحتين السياسية والإعلامية العربيتين أنه ما أن تستعر الحملة الأمريكية على بلد عربي بعينه حتى ينبري بعض الإعلاميين والسياسيين العرب في البلدان الأخرى غير المستهدفة أمريكياً بالانضمام إلى جوقة الضاغطين والمرشدين والواعظين، فيبدأون بتقديم النصائح والمواعظ "الديمقراطجية" بالجملة والمفرّق للدولة المستهدفة بطريقة تبعث على القرف والاشمئزاز، وأحياناً الفكاهة لشدة سخافتها ونفاقها. وكم أشعر بأنني أريد أن انفجر ضاحكاً عندما أقرأ لصحفي أو كاتب عربي من بلد يفوق البلد المستهدف فساداً وديكتاتورية وتخلفاً وقمعاً وهو يسدي إرشاداته "الليبرالجية" للقيادة السياسية التي تستهدفها الحملة الأمريكية، كما لو أنه من سلالة الديمقراطيين الاسكندنافيين الأقحاح.
أليس حرياً بالذين تفلسفوا على العراق في الماضي، ويتفلسفون على سوريا حالياً أن يتكرموا بمواعظهم "الليبرالية" السخيفة على أنظمة بلدانهم أو "أولياء نعمتهم"، حيث إن الأقربين أولى بالمعروف في ثقافتنا الإسلامية، وحيث إن المواطن العربي من المحيط إلى الخليج أذكى وأفطن بكثير من ثلة الإعلاميين المنافقين الذين يشحذون سكاكينهم الصحفية تحت الطلب في كل مرة يقع فيها بلد عربي تحت ساطور الجزار الأمريكي.
وبدلاً من تأثيم بعض الأنظمة دون غيرها نزولاً عند رغبة العم سام وأزلامه كان أولى بهم على الأقل، إما أن يخرسوا أو يوجهوا لكماتهم في كل الاتجاهات العربية وفي كل الأوقات، بدلاً من حصرها في أزمنة وزاوية واحدة، لأن المشاهد أو المستمع أو القارئ يعرف أن الأمر مجرد لعبة شيطنة إعلامية دنيئة، ممنهجة، ومبرمجة ضد الأنظمة المغضوب عليها، أو في أحسن الأحوال حق يراد به باطل لغايات مفضوحة. وقد شاهدنا كيف كان بعض الإعلاميين العرب يرجمون ليبيا ليل نهار، ثم صمتوا فجأة بعدما سوّت طرابلس الغرب أوضاعها مع أمريكا. ويتذكر الكثير منا كيف كان الإعلام الخليجي يؤله صدام حسين وأولاده، وكيف كانت صورة عُدي تتصدر أغلفة بعض المجلات العربية الصادرة في لندن في الثمانينيات من القرن الماضي، ثم راح يشيطنه بعد أن سقط في البراثن الأمريكية.
ولعل أكثر ما يثير الضحك أن هناك صحفاً ووسائل إعلام عربية تمتلكها أنظمة ما زالت تحكم بلدانها على طريقة القرون الوسطى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لكنها تريد أن تقنعنا بأنها قلعة للديمقراطية والليبرالية. ويظهر زعمها جلياً فيما تنشره وسائل إعلامها المقروءة والمرئية. فإذا تصفحت صحيفة تابعة لتلك الأنظمة القروسطية تجد أنها تغص بالكتابات "الليبرالية" التي تتفوق على كتابات عتاة الليبراليين الغربيين في تحررها وانفتاحها وتطرفها. ومن هذا المنطلق نجد الكتاب في تلك الصحف يوزعون نصائحهم الليبرالية والديمقراطية العتيدة للأنظمة المستهدفة أمريكياً دون غيرها كالنظام السوري مثلاً. وتراهم يغضون الطرف تماماً عن الأنظمة التي ترعى صحفهم ومواقعهم الالكترونية "الديمقراطجية" العتيدة، بالرغم من أنها تكاد تكون الأسوأ ديمقراطياً واجتماعياً في العالم العربي.
لا أدري لماذا لم يتكرم أصحاب تلك الرسائل بتوجيهاتهم ومواعظهم "الديمقراطية" لولاة أمورهم "الماليين" أو لأنظمة بلدانهم التي تحكم بالحديد والنار، ولا يستطيع فيها المعارضون فتح أفواههم إلا عند طبيب الأسنان؟ لماذا السخاء الديمقراطي الشديد مع سوريا التي مازالت في حالة حرب مع إسرائيل ومحاطة بالأعداء والمتآمرين من كل حدب وصوب وليس مع البلدان العربية الوادعة؟ هل هناك شمولية فظيعة في دمشق وجمهوريات افلاطونية في بقية البلدان العربية؟ أم إن هناك هياكل عظمية متفسخة في كل الخزائن العربية كما يقول المثل الانجليزي؟ من يصدقهم وهم يميزون بين نظام عربي وآخر في الشأن الديمقراطي؟ على من يضحك هؤلاء؟ لماذا هذا الاستغباء الفظيع لعقول الناس؟
ألا تشترك معظم الأنظمة العربية الحاكمة في خصائص مفضوحة كعين الشمس ألا وهي الاستبداد، والاستئثار بالسلطة، والفساد، وتكميم الأفواه، والانصياع الأعمى لإملاءات الخارج، والتفنن بتعذيب المعارضين، حتى لو اختلفت الأساليب. وقد رأينا على مر السنين كيف أن الاتفاق الوحيد الذي يحصل بين الأنظمة العربية يكون خلال اجتماعات وزراء الداخلية العرب المخضرمين في تونس الخضراء، مما يؤكد حقيقة التعاون على "الإثم والعدوان" والتحالف المفضوح ضد الشعوب وإبقائها تحت البساطير والنعال.
إن أولئك الصحفيين والكتاب "الليبرالجيين" المزعومين الذين يوزعون نصائحهم "الليبرالجية" على جهة دون غيرها ليسوا أكثر من "أقلام بالأرطال"، حسب وصف قباني، أو أدوات تتحرك تماشياً مع الموقف الأمريكي من هذا النظام أو ذاك. ومعروف أن بعض الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن تصبح ملكية أكثر من الملك عندما يُطلب منها التحرك سياسياً وإعلاميا ضد النظام المغضوب عليه أمريكياً.
فإذا كانت أمريكا راضية عن نظام عربي ما حتى لو شوى المساجين في السجون، فإن الإعلاميين أصحاب النصائح "الديمقراطية" لا ينبسون ببنت شفة، هذا إذا لم يبرروا انتهاكات حقوق الإنسان الرهيبة في تلك البلدان، أو يضعوا اللوم على "الشعوب المتخلفة" التي تريد لها أنظمتها الديمقراطية والحرية، لكنها تمانع بفعل تخلفها وعدم تقديرها "لفضائل الديمقراطية". من يصدق هؤلاء "الليبرالجيين" عندما يصل بهم الحد إلى تبرئة أنظمة غارقة في الشمولية والاستبداد والتخلف لمجرد أنها تفتح لهم بعض مواقع الانترنت أحياناً لشتم العرب والمسلمين والتملق للغزاة والمستعمرين الجدد؟
إذن بدلاً من الكذب على الشارع العربي لابد لهؤلاء الذين لا يستلون سيوفهم الإعلامية "الليبرالجية" الصدئة إلا لمقارعة الأنظمة التي تستهدفها واشنطن أن يبينوا للشعوب أن ليس هناك "حامض وحلو" في عالمنا العربي. كلنا في الهوى سوى. وفي اللحظة التي يقرر فيها البيت الأبيض سحب الغطاء عن أي نظام عربي لسبب أو لآخر حتى تبدأ الروائح الكريهة تخرج من العاصمة المستهدفة، فيكثر المنشقون ويخرج لنا معارضون كنا نعتقد أنهم من "عظام الرقبة"، وتـُفضح جرائم حقوق الإنسان التي كان يمارسها النظام تحت مرأى وسمع العم سام؟ ويبدأ فتح الملفات النائمة، وكشف المستور، وتبدأ الشيطنة الإعلامية بحيث يصبح أحباب الأمس القريب فجأة وحوشاً مرعبة جديرة بالمطاردة والسلخ بسبب خطرها الداهم على "البشرية" والأمن الدولي. ولا شك أن لكل نظام عربي مئات الملفات المنوّمة حتى تحين الساعة ليفتح "Pandora s Box، صندوق الشرور والعجائب.
كلنا بحاجة ماسة للتحرر من نير الاستبداد وتحقيق الديمقراطية، وليس هناك نظام عربي جدير بالفضح والقدح وآخر جدير بالمدح. إن المشاهد أو القارئ العربي يعرف جيداً أن ليس هناك خيار وفقوس في أنظمة الحكم العربية، فكلنا في الهم شرق، أو بالأحرى كلنا أولاد حارة واحدة ونعرف بعضنا البعض جيداً و"ما حدا أحسن من حدا" إلا بدرجة السوء، وإن السكوت الأمريكي المشروط عن بعض الأنظمة لا يمنحها صكوك غفران ديمقراطية أو شهادات حسن سلوك إنسانية، وبالتالي عليها التوقف عن بيعنا بضاعة ليبرالية مغشوشة لا يشتريها أحد بقرش "مصدّي".
أما أنتم أيها "الليبرالجيون" المزعومون، فلا تكونوا "ليبراليين" على ناس وناس!