أحدث الأخبار
الأحد 19 أيار/مايو 2024
لماذا البكاء العربي على عراق مُقسم منذ خمسة عشر عاماً ؟

بقلم : د. فيصل القاسم  ... 9.10.07

لا أريد من خلال العنوان أعلاه التهوين من فظاعة المؤامرة التقسيمية السايكسبيكية الجديدة التي يتعرض لها العراق الآن، لكنني أريد أن أوضح أن التقسيم حاصل منذ حوالي عقد ونصف من الزمان بمعرفة كل أعضاء الجامعة العربية الذين يحذرون هذه الأيام من مخاطر التقسيم، ويذرفون دموع التماسيح على عروبة بلاد الرافدين. وقد أسرّ لي أحد المسؤولين العرب العارفين ببواطن الأمور قبل أكثر من تسع سنوات، أي قبل الغزو الأمريكي بخمسة أعوام، عندما سألته عن استراتيجية بلاده تجاه النظام العراقي قائلاً: "إن العراق كما كنا نعرفه قبل عام الف وتسعمائة وتسعين قد انتهى، ولن تقوم له قائمة قبل نصف قرن من الزمان على أقل تقدير، هذا إذا قامت". وهذا ما يفسر الصمت العربي الرسمي الواضح تجاه ما يحدث للعراق هذه الأيام.
لقد غسلت الأنظمة العربية أيديها من الموضوع منذ زمن، لأنها تعلم أن الذي يجري الآن على قدم وساق قد بدأ تنفيذه على نار هادئة بُعيد خروج القوات العراقية من الكويت. أما فكرة احتلال العراق وتقسيمه فربما تعود إلى خمسينيات القرن الماضي. وكم كان أحد الأصدقاء ثاقبي النظر على حق عندما قال لي بزفرة حزينة بعد سويعات من دخول القوات العراقية إلى الكويت إن العراق قد انتهى، وأتحداك أنهم سيقسمونه إلى ثلاث دول. لقد اعتبرت كلام صديقي وقتها ضرباً من المستحيل، خاصة وأن غبار الحرب لم تنقشع بعد، لكن صاحبنا أدرك الملعوب من اللحظة الأولى.
ولو أردنا تشبيه الوضع العراقي الآن لشبهناه بالعلاقة الزوجية التي يقيمها الأوربيون مع النساء بشكل غير قانوني. فالرجل الأوروبي يمكن أن يعيش مع شريكة حياته ردحاً من الزمان، لكن دون أن يكون الزواج مسجلاً في دائرة النفوس. ويمكن أن نسميه بزواج الأمر الواقع، فما قيمة صك الزواج إذا كان الأمر حاصلاًً أصلاً على الأرض؟ وقد لا يجد المتزوج بشكل غير شرعي مانعاً من تثبيت الزواج في المحكمة فيما لو اضطر إلى ذلك. لكن المهم أنه يمارس حياته الزوجية بأوراق ثبوتية أو من دونها.وكذلك الأمر بالنسبة للعراق تماماً. لقد عاشت البلاد حالة تقسيم فعلي منذ عقد ونصف العقد تقريباً. ورأى المعنيون بالأمر الآن أنه لا بد من تثبيت التقسيم شرعياً أو بالأحرى دستورياً، فوضعوا دستوراً جديداً ثبت الأمر الواقع قانونياً، فاستقل الاكراد في الشمال، وكذلك فعل جماعة إيران في الجنوب والوسط، والسنة في مناطقهم مرغمين طبعاً. وجاء الآن السناتور الأمريكي جوزيف بايدن ليعلن التقسيم على الملأ.
يعيش الأكراد مستقلين عن الحكومة المركزية في بغداد منذ "انقلابهم" على النظام العراقي بعد اجتياحه للكويت عام ألف وتسعمائة وتسعين باستثناء فترة وجيزة جداً دخلت القوات العراقية خلالها منطقة أربيل داخل منطقة الحظر شمال العراق بطلب من زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود البرزاني عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين. بعبارة أخرى فإن تدخل حكومة بغداد المركزية بالشأن الكردي لم يتم إلا بدعوة وموافقة كردية. وما عدا ذلك فقد وفر الأمريكيون الحماية للأكراد كي ينعموا بالاستقلال التام عن النظام الحاكم. وكذلك فعلوا مع "أزلام إيران" في جنوب البلاد بعد تمرد عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعين الذي أخمده النظام العراقي آنذاك بعد أن غض الأمريكيون الطرف عنه لأسبابهم الخاصة. لكن الأمريكيين عادوا، وحموا جنوب العراق الذي استقل بدوره فعلياً عن سلطة بغداد بعد أن انقطع حبل الود تماماً بين الرئيس العراقي وجماعة إيران إثر "انتفاضة" الجنوب.
ألا تتذكرون ما يسمى بمنطقتي الحظر الجوي في جنوب العراق وشماله حيث كانت الطائرات الأمريكية والبريطانية تحتل فعلياً أجواء تلك المنطقتين، وتمنع تحليق أي طائرات عراقية فوقهما؟ بعبارة أخرى فإن خطوط تقسيم العراق وتفتيته إلى أقاليم مستقلة كانت مرسومة جواً منذ زمن بعيد. وقد جاء الدستور العراقي الجديد ليشرعن تلك الخطوط الجوية، ويضعها موضع التنفيذ الفعلي على الأرض تماماً كما يفعل الرجل الأوروبي المتزوج خارج المحكمة عندما يأتي بأوراقه الثبوتية لتثبيت زواجه قانونياً بعد أن يكون قد مارسه على أرض الواقع لعشرات السنين عُرفياً.
واعتقد أن النظام العراقي السابق كان مدركاً لحقيقة التقسيم قبل أن يسقط على أيدي القوات الأمريكية عام ألفين وثلاثة. وقد وضع أحد الدبلوماسيين العرب الذي خدم سفيراً لإحدى الدول العربية في بغداد النقاط على الحروف عندما قال لي في بغداد قبل الغزو بسنتين إن: "صدام حسين لم يكن رئيساً للعراق منذ خروج قواته من الكويت، بل محافظ لمدينة بغداد وضواحيها وبعض المناطق الصغيرة الأخرى." وهذا صحيح طبعاً. فقد كان الشمال والجنوب خارجين عن نطاق سيطرته تماماً، ولم يكن يسيطر إلا على ذلك الجزء الذي يتهمونه الآن بالتمرد أو بالمقاومة لقوات الاحتلال وحلفائها والتصدي للمخططات الحالية لتقسيم البلاد. بعبارة أخرى فإن الوضع الجديد ليس جديداً فعلاً، بل هو صدى لواقع قديم مستمر منذ اتفاق (خيمة صفوان) الذي تجرعه النظام مجبراً بعد إخراجه من الكويت.
حري بنا أن نعرف في ضوء مسلسل التقسيم المبين أعلاه إذن أن الأمريكيين لم يفكروا فجأة بتفتيت العراق إلى ثلاث دويلات بعد غزوهم له عام ألفين وثلاثة، بل رسموا المخطط منذ زمن بعيد وراحوا ينفذونه خطوة خطوة حتى اكتمل السيناريو بإخراج مسودة الدستور العراقي الجديد التي عكست الخلافات حولها الصراع القديم الجديد لتقاسم العراق وتفتيته، بدءاً بانقلاب الأكراد في الشمال، مروراً بتمرد الشيعة في الجنوب، وانتهاء بانتفاضة المثلث السني الحالية في الشرق والغرب لإحباط المخطط والحؤول دون تمرير الدستور الجديد لأنهم الأكثر تضرراً من التقسيمة النهائية التي ستتركهم يحوزون صحاري العراق، بينما ينعم الآخرون بمياهه وبتروله الغزيرين.
أليس البكاء العربي الرسمي والشعبي إذن على العراق الآن وذرف الدموع على عروبته المغدورة ووحدته المهدورة ضرباً من النفاق والنحيب في الوقت الخطأ؟ إن المغدور قد قضى نحبه يا سادة منذ زمن بعيد جداً، وكان حرياً بكم أن تبكوا عليه عندما قطعوه إرباً إرباً قبل حوالي خمسة عشر عاماً، وليس الآن وهو في طريقه إلى الدفن، ولمجرد أنهم سجلوا وفاته رسمياًً في سجل المتوفين!!
* (هذه المقالة كتبتها قبل عامين بالضبط، وأضيف إليها الآن سطراً واحداً يتعلق باقتراح السناتور الأمريكي جوزيف بايدن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات)!