أحدث الأخبار
الأحد 05 أيار/مايو 2024
هل اختفى المشروع الوطني الفلسطيني ؟

بقلم : د.خالد الحروب ... 3.5.07

ليست حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية وحدها في مأزق، بل ايضا حماس في مأزق، وفتح في مأزق، واليسار الفلسطيني في مأزق، ومنظمة التحرير الفلسطينية في مأزق، ومشروع الحل السلمي في مأزق، ومشروع المقاومة في مأزق، عملياً المصير الفلسطيني كله في مأزق حاد، وربما لم يواجه مثل هذه الحدة في أي وقت سابق. هناك تشتت كبير في البوصلة الوطنية الفلسطينية، وانخفاض مريع في سقف الاهتمامات والقضايا والمتابعات اليومية، بالتوازي لذلك الوضع الإقليمي منهار، والوضع الدولي لايضغط على إسرائيل، وإسرائيل وداعمتها الولايات المتحدة لاتشعران بضرورة أو أولوية حل الصراع، أو لا تريدان. الحقوق الفلسطينية الكبرى والأساسية الدنيا التي شكلت جوهر الصراع وأسندت على الدوام بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لم تتعرض لتهديد «وجودي» كما الآن. لاتعود أسباب ذلك التهديد للترهل السياسي العربي والدولي فقط، حتى وإن عطف عليه اختلاط وانقلاب الأجندة الإقليمية بشكل مدمر للقضية الفلسطينية، هناك الأخطر وهو الواقع اللتي لاتني إسرائيل تخلقها على الأرض وتنتج في كل سنة واقعا جديدا يكرس أشياء كثيرة، لكن القاسم المكرس الأكبر صار شبه استحالة قيام دولة فلسطنية حقيقية متواصلة وذات سيادة.
في السنوات العشر الماضية وأكثر قليلاً، كانت كبرى تلك الوقائع الاستيطان المتواصل، ثم تلاه واقع جدار الفصل العنصري، بحسب تقديرات متطابقة تضاعف حجم الاستيطان وعدد المستوطنين في الضفة الغربية من لحظة توقيع اتفاق أسلو عام 1993 وحتى الآن من مرتين إلى ثلاث مرات، حدث ذلك تحت عين «مشروع الحل السلمي» و«مشروع المقاومة» بما فيه ما كان قد تبقى من الانتفاضة الأولى وما انضاف إليه من انتفاضة ثانية. لم ينجح المشروعان، أو أي منهما على حدة، على ايقاف التوسع الاستيطاني الرهيب في الضفة الغربية، وحالها يختلف جذريا عن قطاع غزة والاستيطان فيه الذي تفكك، وكان متصورا على الدوام أنه سيتفكك بخلاف مستوطنات الضفة التي تعتبرها ايديولوجيا اليمين الصهيوني جزءاً لاينفصل من أرض اسرائيل الكبرى، لم ينجح المشروعان ايضا في وقف التهويد المتسارع للقدس، أرضا وسكاناً وهوية ومقدسات، تذوب القدس العربية وتذوب عروبة القدس يوما إثر يوم بفعل البرنامج الإسرائيلي المستديم بخلق وقائع جديدة على الأرض. ذات الأمر، وعدم النجاح ينطبق على مسألة حق العودة ومصير اللاجئين الفلسطينيين وأولادهم وأحفادهم. إذ ربما جاز القول إن هذا الحق هو أكثر الحقوق تعرضاً للاستنزاف وأكثرها الآن استهدافاً. ولانشهد أي اشتغال حقيقي، مسالم أو مقاوم على جبهة هذا الحق فحسب، لكن ما يحدث على الأرض هو آلية تخليق أسباب طاردة للفلسطينيين في الداخل ليلحقوا بمن سبقهم في الخارج، وليست الإشارة هنا لسياسات وممارسات إسرائيل فحسب، فذلك ما هو متوقع ومرصود، لكن الأكثر مرارة، والأقل اعترافاً وإقراراً به، هو انعكاسات السياسات الفصائلية للفلسطينيين أنفسهم على خلق مناخ يؤدي إلى تكثيف وزيادة هجرة الفلسطينيين إلى خارج وطنهم، فهناك عشرات الألوف من الفلسطينيين الذين ضاقت بهم أرض الوطن حيث لا عمل ولا اقتصاد ولا كرامة يغادرون سنوياً وكثير منهم يتحول مع الوقت إلى مهاجر دائم «لاجىء طوعي»، والأمر المقلق جداً في ديموغرافيا هذه الهجرة هو كون الشرائح الأكبر المشكلة لها هم الشباب والكفاءات والكوادر التي تنسل من قطاعات المجتمع المختلفة وتتركها حافلة بالثغرات.
بعيداً عن ذلك كله تنشغل «القيادات الفلسطينية» في بعضها البعض، وعلى خلفية اتهامات بالتقصير المتبادل ازاء تطويق أنشطة العصابات في قطاع غزة، أكثر مما تنشغل بالمشروع الوطني والأهداف العليا والكبرى للشعب الفلسطيني. هناك انحدار في الرؤية العامة، وفي التفصيلات الاستراتيجية، وفي التكتيك، وفي الخطوات المرحلية، كل هذا الكلام الكبير صار وكأنه من الماضي، وحتى لو قيل فإنه لايعكس جوهر البرامج السياسية، فقد صار التنافس الحزبي على امتلاك سلطة بالكاد تملك شيئاً هو المحرك شبه الوحيد للتنظيمات وقادتها وأجنحتها العسكرية، الخراب الفصائلي الذي انتشر في الجسد الفلسطيني الوطني والمقاوم في السنوات الماضية أنهكه فعلاً. لايتوقف الفتحاويون الغاضبون على حماس، والحماسيون الغاضبون على فتح عن الحديث عن بعضهم البعض بلغة التخوين والاستهزاء والاقصاء، كلاهما مستنزف وقته وجهده بمتابعة ومنافسة ومناكفة الآخر أكثر بما لايقارن من استنزاف الوقت والجهد في الصراع مع المحتل الاسرائيلي، والقضايا الهامشية هي التي تحتل الآن رأس الأجندات اليومية، رئيس الوزراء منهمك في اطلاق سراح صحفي بريطاني، يمثل خطفه لطخة بشعة أخرى تضيفها عصابات غزة وجه الفلسطينيين في الداخل والخارج، والرئيس الفلسطيني نفسه منهمك في انتزاع ساعات فتح ودوام اضافية لمعبر كارني كي تدخل الشاحنات الفلسطينية إلى قطاع غزة بالتموين وضرورات الحياة.
ربما ليس من الانصاف تحميل الفلسطينيين أكثر مما يستحقون من واقع الفشل والخطر الذي يحيق بالمشروع الوطني الفلسطيني برمته، وهم عموما يتحملون الكثير في هذا السياق، لكن من الضروري التأكيد أن الاختناقات التي يواجهها هذا المشروع في الوقت الراهن تعود في مجملها إلى بنيويات اقليمية ودولية، فعلى هذين المستويين ليس ثمة ما يشير إلى أن المستقبل المنظور يحمل فرص تحولات ايجابية تخدم الفلسطينيين، وهذا يطرح السؤال الكبير: ما العمل وإلى أين إذن؟
هذا السؤال هو الذي يجب أن يستنزف وقت وجهد حكومة الوحدة الوطنية وحماس وفتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ويجب أن تطرح في الاجابة عليه كل الاحتمالات وكل السيناريوهات الممكنة، ولعل التأمين المهم الآن الذي يجب أن يحدث في ضوء حصار إسرائىل للحكومة، وحصار الولايات المتحدة ونصف أوروبا لها، هو جدوى مسألة السلطة الفلسطينية برمتها، فتجربة السلطة وما لها وما عليها آن لها أن تفحص على ضوء إعادة برمجة المشروع الوطني الفلسطني، لربما قال البعض إن في ذلك استحالة ولايمكن العودة إلى الوراء، لكن من قال إنها عودة إلى الوراء؟ كما ليس هنا أي تسرع في اطلاق حكم بهذا الاتجاه أو ذاك، لكن صار من المشروع جدا طرح هذا السؤال وبحثه، خاصة أن صورة وجود سلطة فلسطينية أدت إلى تخفيف غلظة الواقع الاحتلالي، فقد صار يترسخ وهم عند العالم بوجود كيان فلسطيني معادل لإسرائيل، ربما آن الأوان أن تعاد المسألة إلى أبجديتها الأولى: احتلال ومحتلون وقانون دولي يلزم المحتل بوظائفه عوض أن تقوم بها سلطة فاقدة السيادة يتحكم بها المحتل ويهدد بالقضاء عليها، لأن أهلها صاروا يظنون أنها مآل مشروعهم الوطني.