أحدث الأخبار
الأحد 05 أيار/مايو 2024
تلك الرائحة ...

بقلم : رشاد أبوشاور ... 4.4.07

عام 66 صدرت رواية (تلك الرائحة) للروائي المصري صنع الله إبراهيم، أي قبل هزيمة 5 حزيران (يونيو) بعام واحد، فأثارت ضجّة تجاوبت أصداؤها في الأوساط الثقافيّة العربيّة مشرقاً ومغرباً...
رواية بحجم الكّف، في صفحات قليلة، تحكي عن (خارج) من السجن ـ شيوعي ـ مغرّب في مجتمع مرتبك، في أوضاع قلقة، في مدينة تتفجّر في بعض أحيائها المجاري فتملأ جو المدينة بـ(تلك الرائحة)، رائحة الأوساخ والغائط والفضلات...
تلك الرواية كانت نبوءة بما هو آت، بالهزيمة، فالمرض يفترس الحياة من الداخل، وما طفا علي السطح هي أعراض الخراب والفساد والانهيار ...
تلك الرواية كانت نقداً، ونذيراً، وصرخة احتجاج، وما حذرت منه وقع ...
بمبضع الجرّاح كتب صنع الله إبراهيبم روايته تلك، والتي منها انطلقت شهرته، ورحلته الروائيّة، وصوته الشديد الخصوصيّة...
في فلسطين، تحديداً في مناطق السلطة (الرائحة) تفوح منذ بدأت مسيرة الوهم، والتدليس، والكذب علي النفس، والنهب، والتنازلات، واختراق المجتمع الفلسطيني بالمنظمات غير الحكوميّة و(الأنجزة)، وسطوة أجهزة ومؤسسات فاشلة ينخرها ويستشري فيها الفساد.
الرائحة فاضت حتي بلغت آذان الفلسطينيين في الشتات والمنافي، وأقصي بلاد العرب، وصحافة العالم، بحيث باتت مضرب المثل في حرق مراحل الفساد، محرزة قصب السبق علي الأنظمة الشقيقة و..الصديقة!.
في رواية صنع الله إبراهيم ما هو خاف ظهر، انفجر،طفح، فغرقت الطرق، و..المستخبّي بان!
الفاسدون لا يعترفون بالمستخبي، لأنه فضيحتهم، رائحتهم، تحللهم، فساد أخلاقهم، ولهذا اتهموا صنع الله بالتشكيك، ومنعوا روايته تلك ..إلي أن دهمتنا الهزيمة، وبدأت مرحلة إعادة النظر والبناء، واستقصاء الأسباب، لا في مصر وحدها، ولكن علي المستوي العربي، وهنا برز دور المبدعين العرب الشرفاء.
النظام الثوري التقدمي الناصري أنهكه الوصوليون واللصوص، والكذّابون، والمتسلّقون، ومن داخله...
كان عبد الناصر يبني المصانع، يخوض المعارك، وحوله أشخاص هم ضد مشروعه، يعني : دود الخّل منه وفيه ..كما يقول المثل الشعبي.
دور الكتابة أن تفضح الدود، أن تكشف السوس، أن تصرخ، تشتبك، تصدم، ترّج الركود...
هذا ما فعلته تلك الرواية الشجاعة.
في قطاع غزّة، انفجرت برك الماء الآسن، ماء (ال..راء) فاجتاحت قرية فلسطينيّة، اكتسحت البيوت الفقيرة الحال، وجرفت النساء والرجال، والشيوخ والأطفال.. فمات تسعة غرقاً في مياه الصرف الصحّي، بالأصّح الصرف غير الصحّي، أي بالمياه الموبوءة المحشورة في برك، الراكدة التي تنبعث منها الرائحة، وتجتذب الحشرات والميكروبات وتنشر الأوبئة، وتجعل الحياة لا تطاق.
كأنما لا تكفي الفلسطينيين معاناتهم اليوميّة مع الاحتلال.
كأنما لا يكفيهم الحصار والجوع والأمراض، ومهانة معبر رفح، ومصادرة الأراضي، والاغتيالات، والاقتحامات..
كأنما لا يكفيهم الاقتتال الداخلي المستمر حتي اللحـــظة، رغم اتفاق مكّة...
كأنما لا يكفيهم ما يلحقه بهم من سوء سمعة اختطاف الصحافيين الأجانب، و.. ترويع الصحافيين الفلسطينيين !
كأنما لا يكفيهم كل هذا ..حتي تجتاحهم بعد كل أعوام المعاناة.. مياه الخر...!.
أما كانت أجهزة السلطة، ووزاراتها، تري برك المياه الملوثّة، وخطرها المقيم والداهم والقادم؟!
أين الصحافة، والتلفزيون، والإذاعة،
أين الكتّاب، والشعراء، ومنظرو السلطة؟!
أين أعضاء المجلس التشريعي، والمنظمات الشعبيّة، وأين الفصائل الكثيرة العدد القليلة البركة ؟!
أين مرتزقة ولصوص الدعم من الجهات غير الحكوميّة، والأنجزة..المشغولون بتقديم التقارير عن عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني، وطقوس الزواج والختان، والتديّن و..!
كل هؤلاء لا يشمّون تلك الرائحة التي تفسد هواء يتنفسه فلسطينيون ارتبطوا بأرضهم فزرعوها تحت هدير الطائرات وقصف المدافع، فأنوفهم تشّم عن بعد ـ مثل الاستشعار عن بعد ـ رائحة الجهات الداعمة التي تجتذبهم، ومنها يسترزقون!
صباح الثلاثاء 27 آذار لم يكن يوماً عادياً علي سكّان القرية البدوية (أم النصر) الواقعة شمال غزّة، والتي يقطنها خمسة آلاف مواطن...
دهمتهم المياه الملوثّة التي اندفعت من التجمّع رقم سبعة، وكأنها (تسونامي) ، سبحوا في مياه البراز والبول والأوساخ .مات أطفال وعجائز، وصارع المئات المياه الثقيلة الكريهة المندفعة ...
رأيت بعض أهلنا المنكوبين علي الفضائيات، بعد خروجهم ملوثين مرتجفين مذهولين !
تلك القرية المنكوبة اسمها (أم النصر).. يا للغرابة!
أهذه هي الحياة الموعودة بعد (أوسلو) و..سلام الشجعان؟!
أهذا هو الانتصار الموعود؟!
حصار ونهب وموت يمارسه الاحتلال بلا توقّف...
و..فساد وقتل يومي من الفاسدين المتسلطين المتسلطنين!
تلك الرائحة في القاهرة طلعت من السّر إلي العلن ..وفي الرائحة الفلسطينيّة كل شيء معلن ...
اجتياح المياه الخر...للفلسطينيين، وقتلها بعضهم، وتدميرها بيوت بعضهم، وتخريبها لأراضيهم الزراعيّة...
ما حدث في (أم النصر) هو أم انتصارات السلطة المزمنة بكّل تجلياتها. هو المشهد قبل الأخير للغرق التّام الذي سيكلّل مسير.. تلك الرائحة!