نجد: القرية العربيّة الّتي صارت سديروت المستوطنة!!
بقلم : الديار ... 22.10.2023 وضع الصهاينة أيديهم على أراضي قرية نجد، في عام النكبة سنة 1948، وحوّلوها في العام نفسه إلى نقطة استيعاب للمهاجرين الصهاينة الشرقيّين القادمين من شمال أفريقيا، ومن ثمّ مستوطنة سديروت سنة 1951...
"وقتيش نرجعلك يا نجد"؛ هذا ما ظلّ يتوق إليه أهالي القرية المهجّرون منها إلى غزّة طوال عقود نزوحهم. لم يحمل أبناء نجد مفاتيح أبواب بيوتهم معهم، لأنّها ظلّت مفتوحة في اليوم الذي خرجوا منها، على أمل العودة إليها بعد أيّام، كما يقول الحاجّ منصور الكرديّ(1)، وقضت نجد، وانقضت عقود، ولم يبق سوى قلوب أهلها مفتوحة على العودة إليها، بعد أن بُعثروا عنها جنوبًا على رمال غزّة نازحين ولاجئين.
هي نجْد بتسكين الجيم، ونِجد بكسر النون والجيم بلكنة لسان أبنائها، وقبل النكبة كانت القرية تبعد مسافة لا تقلّ عن 18كم إلى الشمال الشرقيّ عن غزّة المدينة، قبل أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى قطاع، فيما نجد المهجّرة اليوم، تفصلها عن حدود القطاع مسافة بضعة كيلومترات ليس أكثر، ولأنّها كانت ترتفع عن مستوى وجه البحر ارتفاع 50 مترًا، جاء اسمها من موقعها "نجد" أي المطلّ أو المكان المرتفع بلغة الجغرافيّة الحديثة(2).
كانت تحيط بنجد قرى منها دِمرة القرية، والّتي يقال إنّ اسمها اشتقّ من كثرة ما لحق بها من دمار تاريخيًّا(3)، بينما تقع إلى شمالها قرية سمسم، الاخت المهجّرة الكبرى لنجد، وذلك على مسافة تدخين سيجارة منها، ويتوسّطهما وادي الحسي الّذي افترست مستوطنات الصهاينة معالمه إثر النكبة، عبر طمره بالتراب ونبات البوص، بعد أن كان الحسي يتكفّل بماء جبال الخليل منها إلى نجد، مرورًا بسمسم المهجرتين، ثمّ إلى بيت حانون وصولًا إلى البحر. وإلى الشرق من نجد، كانت برير القرية الّتي سمّاها الرومان "برور حايل"، ومن هنا كان تعريب اسمها، حيث ظلّت نجد تتوسّد برير دون أن تتوسّلها في الأزمات وليالي التمرّد والنضال، ومن جنوب نجد، تقع هوج خربة التي ظلّت متروكة، إلى أن أجبر حاكم غزّة مصطفى بك التركي، بعضًا من أهالي غزّة المدينة توطّنها، فأصبحت قرية عامرة منذ مطلع القرن التاسع عشر(4).
من وحي المكان
كان عدد نفوس أهالي نجد عام النكبة بين 800 إلى 900 نفر، بينما امتدّ فضاؤها على ما يزيد عن الـ 13 ألف دونمًا من الأرض. لم تكن القرية صغيرة نسبيًّا، لا في تعدادها ولا مساحتها، غير أنّها ظلّت متواضعة فيما يتعلّق بمرافقها، ولم يكن فيها جامع يؤمّ الناس الصلاة فيه، بل زاوية تاريخيّة أطلق عليه النجادوة اسم الزاوية "العلاويّة"(5). ظلّ أهالي نجد يقيمون الصلاة فيها، وحتّى حين صار أهالي القرية يذهبون لأداء صلاة الجمعة في قرية سمسم، ظلّ الأذان ينبعث من عند باب العلاويّة حيّ على الصلاة حتّى عام النكبة.
كان أكثر ما عزّ على نجد وأهلها بعد تهجيرهم، هو تلك الحجارة الّتي بقيت مكوّمة على حالها، بعد أن حملها أهالي القرية من جبال القدس مقصبة من أجل بناء الجامع الّذي لم يتمّ بناؤه بسبب النكبة في حينه، كما كانت الزاوية العلاويّة، دار مقرّ شيخ الكتاب، حيث تعلّم فيها أولاد القرية حروف التلاوة الأولى، ولم تدخل المدرسة الحديثة نجد، إنّما التحق أولادها في مدرسة سمسم المجاورة حفاة ومشاة لتعلم كتابة الحروف الّتي تعوّدوا تهجّيها في نجد.
لم يقدّس أهالي نجد موضعًا أو موقعًا في نجدهم، مثلما قدّسوا مقامهم؛ مقام الشيخ حماد. هناك، في الناحية القبليّة من القرية، كان حماد يستظلّ في مقامه تحت شجرة سدر، أو كما ناداها أهل نجد "السدرة" بألّ التعريف، كما لو أنّ ليس ثمّة شجرة في ديار غزّة غيرها، والغريب، أنّ زيارة مقام الشيخ حماد، لم تنقطع بانقطاع أهل نجد عنه بعد تهجيرهم، فقد استمرّ مستوطنو سديروت المقامة على أنقاض نجد بزيارته(6)، كما لو أنّ المقام غنيمة حرب.
وبالقرب من مقام الشيخ حماد في جنوب نجد، كانت أمّ الدكاكين، إحدى أقدم المواقع الكفريّة (الأثريّة) في المنطقة، حيث توارث أهالي نجد اسم الموقع عن أجدادهم؛ لأنّ لها مغاور مصطفّة أبوابها جنبًا إلى جنب مثل اصطفاف أبواب دكاكين السوق، غير أنّ المغارة على الطريق ما بين نجد ودار مراد غربًا، ظلّت الأشدّ حضورًا في مخيال النجادوة وذاكرتهم بعد نكبتهم، وذلك لعمقها الغائر في بطن الأرض، والّتي يقال بأنّ أهالي القرية مشوا مسافات فيها ولم يصلّوا آخرها، يوم أن تشجّعوا ودخلوها من أجل قتل ضبع مغارة دار مراد(7).
على سيرة الموقع والأثر الكفريّ في نجد، فإنّ مشرب أهالي القرية، كان من بئر ماء في وسط القرية، والذي عُرف باسم "بير البلد"، إذ لم تكن عيون ماء تحيط بنجد، فأنجدتهم تلك البئر، والّتي كان عمقها يتطلّب من رامي الحجر الانتظار حصّة كي يسمع صوت رميته، فقد زاد عمقها عن الأربعين مترًا، ولم يحفر النجادوّة بئر بلدهم بأيديهم، لأنّها محفورة وتدرّ الماء من زمن الرومان(8)، وكلّ حكاية نشأة نجد وقيامها أساسًا متّصلة ببئرها، إذ كانت "بير البلد" تغور في قرارها وأسرارها، لأنّها كانت ملاذ عطشى الماء والهوى معًا، فكم من صبيّة نجديّة آثرت البئر غرقًا على زواجها بمن لا تريد!
الحنين إلى التبن
ممّا يروى عن سنوات الثورة الكبرى 1936-1939، أن اقتحمت دوريّة إنجليزيّة بيوت دار مراد في نجد بحثًا عن سلاح، اتّهم الأخوان شعبان ورمضان في حيازته، وحين أراد عناصر الدوريّة دخول تبّان البيوت لتفتيشه، خرجت منه امرأة منكوشة الشعر وبيديها رغيفين خبز تقضم وتأكل منهما معًا، وتركها عناصر الدوريّة تغادر على أنّها مختلّة أو مجنونة، وبينما كانوا يدخلون التبان وراءها، كان السلاح كلّه يغادر التبّان والبيوت تحت عباءتها، وطبنجة قديمة لو عثرت عليها الدوريّة كانت ستودي بالأخوين حتمًا، غير أنّ الحاجّة يسرى أنقذت الموقف بعد أن تحايلت على الدوريّة بالجنون(9).
ظلّت ذاكرة أهالي نجد المتعلّقة بنضالهم سواء ضدّ الإنجليز أو الصهاينة نحيلة نسبيًّا، خصوصًا وأنّ ثقل ارتكاز التمرّد على الاستعمار البريطانيّ في منطقتهم كان في قرية برير، وذلك لوقوع هذه الأخيرة على الطريق المعبّد الموصل بين غزّة والمجدل شمالًا، ممّا جعل متمرّدي نجد يلتحقون ببرير في حينه، وحتّى في عام النكبة، فقد ترك أهالي نجد قريتهم قبل دخول الصهاينة إليها، وذلك بمجرّد أن جرى تهجير أهالي قرية برير(10)، إذ ظلّت نجد في ذاكرتها النضاليّة ملحقة بها.
في الثالث عشر من أيّار 1948 عام النكبة، خرج أهالي نجد غربًا، إلى دمرة أوّلًا، ومنهم من عاد إلى نجد لحمل ما تيسّر من قمحهم الّذي انتهوا من حصاده قبل نكبتهم، ولمّا سقطت دمرة، خرجوا منها إلى منطقة تدعى الزيرة، وهي منطقة رمليّة تتبع لقرية هربيا المهجّرة، ومن ثمّ إلى غزّة، بينما كان بعض أهالي القرية قد نزحوا إلى غزّة منذ يوم خروجهم من نجد مباشرة.
لم يبق في نجد بعد رحيل أهلها عنها، غير ثلاثة مسنّين من ختايرتها، فقد أبوا ترك الديار حيث ولدوا، فظلّوا فيها، وممّا يرويه الحاجّ منصور الكرديّ، أنّ رجال وفتيّة نجد النازحين عنها، ظلّوا يتسلّلون لنجدهم خلسة ليلًا من أجل حمل ما تبقّى من تبن حصادهم علفًا لمواشيهم ودوابّهم في خيام النزوح واللجوء(11)، لتظلّ رائحة التبن في وجدان أهالي نجد مبعث حنين إلى نجدهم كلّما شمّوها طوال سنين نزوحهم في رمال اللجوء.
أخيرًا
من آثار قرية نجد
مِن أهل نجد من ظلّوا نازحين في مخيّمات غزّة حتّى يومنا هذا، ومنهم من تفرّق في المنافي والشتات، وما تزال ذاكرة القرية شبه حيّة في ذاكرة من بقوا أحياء من أهلها، والّذين ظلّوا على أمل العودة إلى رائحة الجميز الغزيّ وثمر دومه الأصفر الّذي كان بحجم حبّة التين، وصبّار نجد المحيط بحقولها مبكل بكوزه الأحمر القاني؛ ذاكرة كانت تجيش بحكايا عن سمير الغول وحسن الزير في سمسم وبرير مطاريد في زمن التمرّد على سوافي الرمل، وعن "مناديل النوريّة" كان هذا هو اسمها، وكات تلوّح بمنديلها غناء، إلى أن يقوم لها عبد الحميد عليان ابن نجد القرية على قدميه، وأشطر دبيك فيها، ويكون دبكًا ورقصًا على وقع إيقاع طبل النور حتّى صلاة الفجر، وعن نيسان ديار غزّة وموسم النبيّ أيّوب وهروب شباب نجد إلى ساحل هربيا تلبية لردّة دلعونا: "هات إيدي بيدك سوى تنغرب… ونلحق الموسم قبل ما يخرب"، ورنين كاسات دراويش دار أبو الكاس، حيث كانت نجد حيّة تنبض بالناس.
وضع الصهاينة أيديهم على أراضي قرية نجد، في عام النكبة سنة 1948، وحوّلوها في العام نفسه إلى نقطة استيعاب للمهاجرين الصهاينة الشرقيّين القادمين من شمال أفريقيا، ومن ثمّ مستوطنة سديروت سنة 1951، لتعترف الحكومة رسميًّا فيها "مجلسًا بلديًّا" سنة 1956، وفي سنة 1996 تحوّلت سديروت إلى مدينة، والّتي تعتبر إحدى أكبر وأهمّ المراكز الاستيطانيّة في خنق غزّة أو ما يسمّيه الصهاينة "غلاف غزّة".
**ملاحظة: هذه المادّة هي الأولى من سلسلة قرى قضاء غزّة المهجّرة الّتي حوّلت لمستوطنات ما يعرف بغلاف غزّة، ننشرها لكم تباعًا).
**الهوامش:
(١) الكرديّ، منصور مراد، مقابلة شفويّة، نجد - غزّة، موقع فلسطين في الذاكرة: ضمن مشروع تدوين الذاكرة الشفويّة للنكبة الفلسطينيّة، تاريخ 16-11-2008.
(٢) سكيك، إبراهيم خليل، غزّة عبر التاريخ: من أقدم العصور حتّى الفتح الإسلاميّ، ج6، ص78.
(٣) المرجع السابق، ج6، ص 82.
(٤) المرجع السابق، ج6، ص 84.
(٥) المرجع السابق، ج6، ص79.
(٦) ذكر ذلك الحاجّ منصور مراد الكرديّ في مقابلته المشار إليها سابقًا، قريته المهجّرة في سبعينيّات القرن الماضي ووجد سكّان مستوطنة سديروت يعتنون بالمقام ويزورونه.
(٧) الكرديّ، منصور مراد، المقابلة السابقة.
(٨) المقابلة السابقة.
(٩) المقابلة السابقة.
(١٠) الكرديّ، منصور مراد، المقابلة السابقة.
(١١) المقابلة السابقة.
www.deyaralnagab.com
|