الأنا...المغتربة التراجيدية المقاومة في ديوان "أنانهم" للشاعر أحمد العارضة!(1)
بقلم : كميل أبو حنيش ... 06.01.2022 بداية يتعين علي الاعتراف بأنَّ نصوصَ ديوان (أنانهم) للشاعر والصديق الأسير "أحمد العارضة" قد استعصت عليَّ للوهلة الأولى مع أنَّ هذه القصائد كنت قد طالعتها قبل سنوات بخط يد الشاعر، وأوقعتْ في نفسي استحسانًا بالغًا، لكن عندما صارت مطبوعةً بين دفتيّ ديوان أرسله إليّ الشاعر وهو على بعد صرخة واحدة مني في قسم آخر داخل السجن تملّكني إحساس بالرهبة، فهذه القصائد باتت لها حياتها الخاصة والنابضة ولأنني مقتنع بأنَّ أحمد يحمل في أعماقه شاعرًا كبيرًا سيكون لنصوصه الشعرية صدًى مُدَوِّيًا في قادم الأيام.
في الواقع ساورتني الحيرة وأنا أطالع الديوان للمرَّة الثالثة فمن أي الزَّوايا يمكننا أن نقرأ هذا الإبداع ونفهمه، فأحمد المبتسم على الدَّوام يحمل في أعماقه بركان غضب وبحرًا من الحزن المُشَبَّع بالأنفة والكبرياء، أمَّا شعره فملغز بلغة نجهلها، وحالما نفلح في تفكيكها سنكتشف أنَّها لغة تشبهنا تمامًا وأنَّ أنا الشاعر ما هي إلا أنانا نحن بظلالها الشامخة المنكسرة، وهذه الأنا المحاصرة والقلقة والحزينة والمأساوية تملك دائمًا سرَّ البقاء والوقوف والانبعاث من وسط الرَّماد.
وهذه الوقفة ما هي إلَّا محاولة أولية للإطلالة على بعض الزَّوايا من نصوص ديوان (أنانهم) (الديوان من اصدار دار طباق للنشر في طبعته الأولى رام الله 2021).
أولا: الوحدة، الحزن، الضياع:
يُفْصِحُ الشاعرُ عن إحساسه بالوحدة والحزن والاغتراب والضَّياع وهو إحساس وإن بدا إحساسًا ذاتيَّا محضًا إلَّا أنَّهُ ناجم عن الواقع المأساوي المحيط بالشارع الذي يعكس نفسه ويترك تأثيره البالغ والعميق في وجدان الشاعر.
ففي قصيدة(أصير ما لا أصير) يقول الشاعر:
أصيرُ بغير انتباه
القلق(ص13)
والقلق حالة كامنةٌ في وجدان الشاعر وحاضرة على الدوام ولها ما يبررها إذ يحيا الشَّاعر داخل السجن المغلق ومحكوم عليه بالسّجن المؤبد من دون أيَّةٍ إشارةٍ تنبئ بانفراج قريب فيعيش مع الهواجس وهو يطوي العام تلو الآخر ، ولأنه يحيا على حلم الحرية والانعتاق لا بد من الإبقاء على ضرورة الأمل والتفاؤل مشتعلة فيستحضر عاملًا خارجيًّا يبقيه على تماسٍّ مع الأمل وهذا العامل هو الحمامة:
ألبي نداء اليمامةِ فوق السطوح
بغير التفاتٍ
يُقلل من وطأة الرعشِ
فوق عراء الرصيف الأخير (ص13)
والحمامة في السجن قريبة من السجين يراها كل يوم فهي رمز للسلام والبراءة والوداعة وهي تجلب الفأل الحسن حسب الاعتقاد الدارج، لكنها في السجن تتحول إلى كائن آت من عالم آخر وهي رمز للحرية لأنها طليقة وتطوف في الآفاق.
وقد استخدم الشعر العربي قديمة وحديثه الحمام خاصة للشاعر الأسير الذي يلجأ إلى مناجاة الحمامة وبثها همومه وآلامه والتفاؤل خيراً بمرآها ويقول ابن حزم الأندلسي:
ما رجعت سجعها حينا مطوقة إلا ومن فضل شجوي ما ترجعه
وهذا الشاعر أبو فراس الحمداني يناجي حمامة وهو في السجن:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا لو تشعرينَ بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بنينا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقةٌ
ويسكت محزون ويندب سال
ويستلهم محمود درويش هذه الأبيات حين يقول:
زنزانتي اتسعت سنتمترا لصوت الحمامة:
طيري إلى حلب،
يا حمامة، طيري برومِيَّتي
واحملي لابن عمّي سلامي!
والعارضة الذي يعيش القلق من دون إرادة منه فإنه يستحضر الحمامة وهديلها الذي يبعث التفاؤل في نفسه ويقلل من وطأة هذا القلق في عراء الرصيف الأخير أي هاجس الأسير المؤبد الذي ليس له نهاية.
ويضيف الشاعر في ذات القصيدة :
أصير بغير انتباه
الأرق
أُتِّمُ مراسيمَ نفيي
وأنهي القصيدة قبل نضوج السفارجِ،
بعد نضوج الطبول الخفية
في طَيَةِ النثرِ،(ص13)
وهذا القلق المصاحب للمشاعر يحيله إلى الأرق ومع الوقت تستهويه العزلة والاختلاء بالذَّات لآنه يعيش حالة من الاغتراب، والإحساس بالتيه والضياع داخل السجن لذا يلجأ إلى تسييج ذاته والاعتكاف داخلها.
ومع الوقت يتعمق إحساس الشاعر بالوحدة والشعور بالضياع ليصل ذروته بهذا النص:
أصير ندائي عليّ
وليس لديّ سوايَ يُجيب النداء،
سوى من أضعت زمان
وما عدت أعثر بعد ضياعي
على مِن تقمصتُ يومًا
بعشقٍ عسير(ص15)
وهكذا تتقوقع الذات على نفسها بسبب الإحساس بالتيه والضياع ولا تجد أنا الشاعر أحدًا تناجيه سوى ذاتها وهي الذات المحاصرة والقلقة والحزينة ،أو الأشياء البعيدة التي أضاعها ولم يعد يعثر في رحلة التيه على أيَّما شيء حتى الحب الذي بات يتباعد ويفقد إحساسه به بعد أن كان يمده بالطاقة والصمود والإحساس الجميل.
ويتابع قائلا:
أصير بغير انتباه
(أنا)
ومثلي أؤَدي المسافة
صمتًا(ص15)
وسط هذه العزلة والاعتكاف لا يتبقى سوى الذات التي آثرت البقاء في العزلة، ولم يعد ثمة مسافة بين الذات وظلها مجرد فاصل صمت وحسب، الأمر الذي يبعث على الإحساس بالموت:
أصير(أنا)
أنا، لا سواه
كلحنٍ بدائيٍّ للموتِ
يعزفُ
عُمْرًا قصير (16)
حينما تستفرغ الذَّات كل ما يؤثثها لن يتبقى سوى الخواء والعدم، فتبدأ الذَّات الإحساس بالجفاف والموت لذا يلجأ الشاعر لإعادة ملءِ الأنا وإعادة شحنها وتأثيثها لتتسع أكثر، فهواجس الذات وأحزانها ليست ذاتية وإنَّما مشتقة من فواجع وأحزان أخرى خارج الذات.
وفي قصيدة(أن ا) يقول الشاعر:
أنا نصفُ البلادِ
وعشقُ من ماتوا جزافا(ص23)
ويفصح الشاعر عن أحد أوجه حزنه وإحساسه بالضياع وهو المتمثل بمأساة البلاد واحتلالها، ونصف البلاد هو الشق الآخر من الوطن الذي بات يعرف ب (إسرائيل) وهو مسقط رأس الشاعر حيث يافا التي احتلت وشرّد أهلها وباتوا لاجئين في مخيمات الشتات ،ولا يزال المحتل يفتك بأهل البلاد فيسقط الشهداء ويعلن الشاعر أنه ينتمي للوطن وجرحه مؤكِّدًا على النصف الآخر رافضًا التسليم بوجود الآخر المحتل، وأيضًا يعلن حزنه وانتماءه وفخاره وعشقه للشهداء الذين يسقطون ذودًا عن الوطن ويواصل القول:
أنا نمشٌ طفيف يعتلي وجه الخريطةِ
في أزقّتها،
وحرفٌ لا يزال يُبح صدحًا
ينتمي بضياعه لضياع يافا(ص23)
يربط الشاعر بين احساسه بالضَّياع وبين ضياع يافا مسقط الرأس وقبلة الروح تلك التي توارث حبَّها من الأهل وإن لم يرها أو يعيشها عيانًا لكنه حنين المنفي من فردوسه الذي سيظل في حالة ضياع ما دام المكان ضائعًا ومحتلًّا
وثمة أوجهًا أخرى لهذا الإحساس بالحزن والتيه التي تترك الشاعر موجوعًا متحسِّرًا:
أنا صمتٌ تكاثر في الضجيج
ونهرٌ ظل ينأى عن مصبِّ العشق
أنا بحرٌ يحاصره الخليج(ص24)
عندما يتعالى الضجيج وتكثر الشعارات الجوفاء والأكاذيب ويُؤْثِرُ الشاعر الصَّمتَ على الكلام وهو صمت الأنفة والنأي على الكلام المبتذل وإدراك البوصلة الحقيقية ،وليس الصمت المنطوي على الجبن والاستسلام أو الضعف، إنَّهُ صمت التَّرفع عن الكلام الذي لا معنى له وسط الضجيج والصخب، وهو النهر الذي سيظل يتوق إلى مصبه وشوق الغائب والمشرد الذي يتوق للعودة إلى بلاده لكنه محاصر من قبل الأعداء والأخوة المترامية بلادهم من المحيط إلى الخليج.
ويواصل الشاعر الإفصاح عن مكامن حزنه:
أنا حزنُ الظهيرة
بعد تشييع الرفاقِ إلى المدى(24)
وأيضًا:
أنا تعبيرُ من فقدوا
بيانَ لغاتِهم عن أرضِ، لم تقوَ
على تدوين صرختها،
لأنَّ لسانها ثملٌ
بخمرِ دماءِ مَن صمتوا لتحكيهم(25)
وهنا تتحول الأنا إلى إحساس جماعي: الشهداء والمشرّدين، الوطن السليب، ثم ينقل هذا الإحساس بالذات إلى أنا جماعية جزء من كل.
أنا صلصالُ ربِّ الورد
تُخطئني حبالُ الماء
حيث أعيش في رمضاء هذا الكون
خاوٍ في عراء(26)
وربما يستبطن النص مأساة الإله أدونيس في الأسطورة الفينيقيّة الذي قتلة خنزير بري في إحدى غابات الأرز وتناثر دمه لينبت مكانه أزهار شقائق النعمان غير أنَّ هذا الإله ينبعث من جديد في فصل الربيع. بيد أن الشاعر الذي تقمص الإله الصريع كناية عن مأساة شعبه، قد طال موته وتحوّل جسده إلى تراب جاف ولم تسقط عليه الأمطار وقد جففه الصيف الجاف وبقي ملقًا في العراء وهذه المقاربة تنطوي على حال مأساة اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا عن وطنهم وطالت غيبتهم.
ويكثر الشاعر من الأمثلة الدالة على هذه المأساة:
أنا نهرٌ. ولكن
قد نسيني الغيمُ،
يذرعُني الحصى(27)
وأيضا:
أنا خوفُ السناجب في تشردها
إذا ما لاذ حطابٌ من الأمطار
حيثُ توطّنت شجرًا
ليقطع جذع شرفتِها(27)
وأيضًا:
أنا حتفُ النوارس
والعصافير السجينةِ والموانئ والكنائس(28)
ويواصل:
أنا ربٌ من الفخّار
مركون كآنيةٍ بقصرِ صفيح(29)
www.deyaralnagab.com
|