استمرار العجز المالي لـ«الأونروا» ينذر باضطرابات اجتماعية في المخيمات تهدد الاستقرار في الدول المضيفة!!
بقلم : رلى موفّق ... 26.08.2018 ليست جديدة أزمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى «الأونروا». عجز الوكالة كان حاضراً على الدوام، ويطفو على السطح بشكل كبير مع بدء العام الدراسي من كل عام، بما يُهدّد مستقبل مئات الآلاف من الطلبة اللاجئين الذين تتولى «الأونروا» مسؤولية تأمين حق التعليم لهم في مخيمات الداخل والشتات.
فمنذ مطلع الألفية الثالثة، برز عجز مالي متكرر في ماليتها، جرّاء تزايد المتطلبات المالية بفعل الحروب والأزمات المندلعة وتزايد أعداد اللاجئين الفلسطينيين، من دون أن يترافق مع زيادة الميزانية. هذا التحدّي كان يتمّ تلافيه عاماً بعد عام عن طريق الدول المانحة، لكن الأزمة هذه السنة تحمل في طيّاتها مخاطر وجودية مع إعلان الولايات المتحدة تقليص مساهمتها في موازنة «الأونروا» العامة، وهي المساهمة الأكبر بين الدول المانحة، والتي تبلغ نحو 360 مليون دولار إلى 60 مليوناً عام 2018، كإحدى وسائل «التطويع السياسي» من بوابة الضغوط المالية. لم يوارب ترامب في «تغريدة» له على «تويتر» حين كتب إنه سيُوقف تقديم أموال للفلسطينيين، إذ «لم يعودوا مستعدّين للمشاركة في محادثات سلام مع إسرائيل»، وحين أضاف في «تغريدة» أخرى «أننا ندفع مئات الملايين من الدولارات سنوياً ولا نحصل على أي تقدير أو احترام. هم لا يريدون حتى التفاوض على اتفاقية سلام طال انتظارها مع إسرائيل».
*سلاح الاقتصاد أنجع
بات السلاح الاقتصادي والمالي سلاحاً قوياً وناجعاً في المعادلة. آثاره مدمّرة من دون حروب وأسلحة فتاكة وشلالات دماء وضجيج العالم، ومفاعيله السياسية مؤثرة ولا تقل إيلاماً عن «رائحة البارود». الخطورة أن «الأونروا» أصبحت على مفترق طرق. ما كشفته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، في تقرير لها، من أن صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره جاريد كوشنر، يعمل على إلغاء وضعية مليونيّ لاجئ فلسطيني، مُعبراً وفقاً لمضمون رسائل بريدية بينه وبين عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين، بينهم مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط جايسون غرينبلات، عن «ضرورة بذل جهد حقيقي لتعطيل الأونروا، التي تُديم الستاتيكو القائم، ولا تُساعد في عملية السلام»، معلناً أن «إدارة ترامب مستعدة لإعادة صياغة شروط قضية اللاجئين الفلسطينيين لصالح إسرائيل كما فعلت في قضية نقل السفارة إلى القدس».
هي الأهداف نفسها لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرامية بدورها إلى إنهاء وجود «الأونروا» إلى الأبد، كونها «تُبقي قضية اللاجئين الفلسطينيين حيّة وتخلّدها، وتؤكد رواية ما يُسمى بحق العودة». قادة إسرائيل يدركون معنى استمرار تلك الوكالة الفريدة من نوعها بين وكالات الأمم المتحدة، التي تركّز حصراً على اللاجئين الفلسطينيين، والتي تُعتبر «الوكالة الأممية الأهمّ» من حيث قدرتها على تقديم المساعدة الإنسانية الفعّالة.
*سبعة عقود على الولادة
فمع نكبة العام 1948، تأسست «هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين» لتقديم العون إلى أن تتأمن العودة التي كان يُؤمّل أن تكون سريعة. لكن تعقيدات القضية آنذاك فرضت الحاجة إلى تطوير دورها من أعمال الإغاثة المباشرة وتقديم المساعدات العاجلة التي تحفظ الحياة، إلى العمل على تلبية الحاجات الأساسية للاجئين، المتمثلة بالمأكل والتعليم والصحة والخدمات الأساسية، فكان أن تحوّلت إلى «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى الأونروا»، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 كانون الأول/ديسمبر 1949، ودخلت حيز التنفيذ في الأول من أيار/مايو 1950، بحيث شمل عملها كل الدول المحيطة التي تستقبل اللاجئين الفلسطينيين. واستمر، منذ ذلك الحين، تمديد تفويض الوكالة إلى أن أصبح بمثابة تقليد يسري عند طرح الموضوع كل ثلاث سنوات، وما زالت تتواصل لسبعة عقود.
ما يُقلق رئيس لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني الدكتور حسن منيمنة «أن هناك مسعى حقيقياً من جانب الولايات المتحدة لإلغاء «الأونروا» وشطبها وتحويل مسؤولية متابعة اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية العامة للاجئين، ما يعني إسقاط حق العودة للفلسطينيين بالدرجة الأولى، وتحويل هؤلاء الفلسطينيين – الذين هم أصحاب الحق بالعودة – إلى مجرّد لاجئين مثلهم مثل ملايين اللاجئين الذين تُعنى بهم هذه المنظمة».
النجاح في التخلص من «الشاهد الدولي» على الحق الفلسطيني بالعودة عبر إلغاء المنظمة الأممية التي تُعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، سينعكس سلباً بالدرجة الأولى على الدول المضيفة، وهي لبنان والأردن وسوريا، وعلى اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
*لا قدرة على الأعباء الإضافية
بالنسبة للبنان، فقد أَعلن خلال مؤتمر الهيئة الاستشارية لـ «الأونروا»، التي تضم كل الدول المانحة والدول المضيفة، أنه لا يمكن له أن يحلّ محلّ «وكالة الغوث والتشغيل»، لا في تقديم الخدمات ولا في تولي أي دور يندرج في صميم عملها. فإلى الموقف المبدئي للحكومة اللبنانية الرافض لكل محاولات «توطين» الفلسطينيين، فإن لبنان غير قادر على تحمّل أعباء إضافية، في ظل ما يتكشّف من توجهات بأن تتحمّل الدول المضيفة المسؤوليات التي تعجز «الأونروا» عن القيام بها نتيجة العجز المالي. الأخطر من وجهة نظر رئيس لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني هو الشعور بغياب الاهتمام والمتابعة العربية، وخاصة من قبل الدول المضيفة للاجئين، لمواجهة هذه الأزمة القادمة المفتوحة على أن تكبر أكثر، فيما يبدو أن ضغوط الولايات المتحدة على بعض الدول المانحة لتقليص مساهماتها ستؤتي ثمارها لجهة زيادة عجز «الأونروا» بشكل أكبر.
وفي هذا الإطار، يتخوّف منيمنة من أن يؤدي الموقف السياسي الأمريكي، الذي ساهم في خلق فجوة مالية كبيرة، إلى حدوث اضطرابات اجتماعية داخل المخيمات، وهذا سينعكس سلباً على حالة الاستقرار في لبنان وفي الدول المضيفة، لا سيما وأن هذه الدول عاجزة عن احتواء الموقف والتحوّط لتداعياته على أمنها الاجتماعي. ويرى، تالياً، حاجة فعلية للدول المضيفة أن ترسم سياستها لمواجهة هذا التحدي الذي يتمثل بتقليص خدمات «الأونروا» ومحاولات توقيف عملها، وأن تدفع هذه الدول بالجامعة العربية وبسائر المؤسسات للعمل على تأمين بدائل لهذه المساهمة الأمريكية، حيث لا يبدو أن هناك إمكانية لتراجع أمريكي عن هذه السياسة.
في حساب الأرقام، تمكنت «الأونروا» من تقليص العجز المالي من 446 مليون دولار إلى 217 مليون دولار، حسب الناطق الرسمي باسم «الأونروا»، سامي مشعشع. وخرج المفوض العام للوكالة بيير كرينبول الأسبوع الماضي ليعلن عن قرار فتح المدارس التابعة للوكالة لبدء العام الدراسي في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وفي غزة والأردن ولبنان وسوريا، وعددها 711 مدرسة، تستقبل 526 ألف طالب وطالبة، لكنه كان واضحاً أن الوكالة لم تخرج من دائرة الخطر، ولديها تمويل يكفي لإدارة عملياتها حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر. وهي تحتاج إلى 217 مليوناً إضافية ليس فقط لضمان فتح المدارس، ولكن لضمان استمرارها حتى نهاية هذا العام.
*تدابير تقشفية غير مسبوقة
وفق إحصاءات «الأونروا» في لبنان، فإن هناك نحو 32 ألف طالب وطالبة يدرسون في مدارس الوكالة الـ69 الموزعين على 12 مخيماً منتشرين بين الشمال وبيروت والجنوب. لكن المسألة بالتأكيد لا تقتصر على التعليم، بل تشمل خدماتها أيضاً الرعاية الصحية والإغاثة والخدمات الاجتماعية والبنية التحتية وتحسين المخيمات والحماية والإقراض الصغير، والتي تُقدم إلى اللاجئين. غير أن ثمة تضاربا في الأرقام الحالية لعدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. أرقام «الأونروا « تصل إلى 447 ألف لاجئ، فيما الإحصاء الرسمي اللبناني الأول من نوعه الذي أنجزته إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وبإشراف لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني في المخيمات الاثني عشر و156 تجمعا سكانيا حيث أماكن تواجد غالبية الفلسطينيين في لبنان أشر إلى رقم 174 ألفاً و422 فلسطينياً، وهو ما خالف كل التوقعات وكل عمليات تضخيم الأرقام التي توّظف سياسياً في البلاد التي تعيش على وقع إشكالية الوجود الفلسطيني وهاجس التوطين وما يمكن أن ينجم عنه من تبدلات ديموغرافية تخل بالتوازن الطائفي كما المذهبي، وسط الصراع المحموم في لبنان والمنطقة الذي يأخذ سمة مذهبية بامتياز.
وسواء كانت الأعداد هي وفق الإحصاء الرسمي أو إحصاء «الأونروا»، فإن أزمة العجز تتواصل فصولا، ومعها اضطرت الوكالة إلى تقليص خدماتها أو خفض نوعيتها أو اجتزاء تنفيذ بعضها، وبرز ذلك بشكل جلي في تأخير تنفيذ إعادة إعمار مخيم نهر البارد، وكذلك في تأخير مشاريع تحسين أوضاع المخيمات أو اجتزائها. وباشرت «الوكالة» أيضاً باتخاذ تدابير تقشفية صارمة غير مسبوقة، بدأتها بقرار دمج بعض المدارس ببعضها ورفع عدد الطلبة في مدارسها إلى سقف الخمسين طالباً للصف الواحد، مع ما يترتب على ذلك من تدن في مستوى التعليم، وإيقاف العقود الاستشارية الدولية، وتجميد التوظيف، وقامت بفتح باب التقاعد الطوعي لموظفيها.
*تحديات ردم الفجوة
يصف الناطق الرسمي باسم «الأونروا» «الشهور الستة الماضية بأنها كانت قاسية على الوكالة وعلى اللاجئين الفلسطينيين، وأن تداعيات الأزمة المالية الخانقة وتأثيرها على الخدمات يثير مخاوف عميقة حيال المستقبل، بحيث يشكل العجز المالي الحالي أكبر عجز شهدته «الأونروا» في تاريخها، ولا يجوز إخفاء المخاطر المقلقة جداً، التي قد تواجهها في معرض تقديم خدماتها، إذا لم تتلقَ تمويلاً إضافياً وسريعاً في الأشهر المقبلة التي ستكون حاسمة. ما بذله المفوض العام وطاقمه خلال الأشهر القليلة الماضية مكّن الوكالة، حتى اللحظة، من الإبقاء على خدماتها الحيوية والطارئة لأكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني، في رفض وتحدٍ للأمر الواقع لأن تفويضها واضح.
ورغم تأكيده أن «الأونروا» باقية وستستمر في خدمة لاجئي فلسطين وتوفير الحماية لهم ما استطاعت حتى تحل قضيتهم حلاً عادلاً يبقى السؤال-التحدي هو كيف؟ إذا استمرت واشنطن في تقليص مساهمتها، وفي مواصلة ضغوطها على الدول المانحة لخفض مساهماتهم أيضا، كورقة مساومة وضغط على الأطراف المعنية ليس فقط بهذا الملف بل بالموضوع الأم المتمثل بالصراع العربي-الإسرائيلي في لحظة إقليمية حاسمة تتقدم فيها الرؤية الأمريكية للحل مستفيدة من ضعف المنظومة العربية وتشتتها، بحيث وجد الرئيس الأمريكي أن لا عوائق حقيقية عربية-دولية يمكنها أن تثنيه عن تنفيذ الاعتراف الأمريكي بأن القدس عاصمة للإسرائيل عبر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
*القرار لصاحب المال
ليس من قبيل الصدفة أن تكون الولايات المتحدة تتصدر لائحة المانحين يليها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة واليابان وبعض الدول الأخرى. ما هو لافت أن الحصة العربية المتفق عليها بين جامعة الدول العربية و»الاونروا» تبلغ نسبتها 7.8 في المئة من إجمالي الموازنة، ولا يتجاوز حد المساهمة العربية الأقصى عادة نسبة 2.8 في المئة في أحسن الأحوال. مع اشتداد الأزمة راهنا، قامت الدول العربية بدفع الحصة المقررة وهي 7.8 في المئة من إجمالي موازنة الوكالة، لكن ذلك غير كاف بالتأكيد، فمن يمسك المال، يمسك القرار. فكيف إذا كان الواقع اليوم في المنطقة يحكمه صراع مستحكم تحت عنوان مواجهة النفوذ الإيراني الذي قد يكون ثمنه باهظاً جداً على مستوى القضية الفلسطينية التي بقيت قضية العرب المركزية حتى الأمس القريب! المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|